كى ترسم يجب أن تكون مجنونّا.. هكذا قال سلفادور دالى أحد أهم علامات الفن التشكيلى فى العالم، الذى يعتبر نموذجا للفنانين العباقرة، وأبرز أعلام المدرسة السريالية. وُلِد سلفادور دالى لأسرة ثرية، عاش حياة مرفهة ومريحة، ولكنه كان يعاني إحساسا خانقا كون والده أطلق عليه اسم اخيه المتوفى قبل ولادته، وقال عن هذا: "كنت فى نظر والدى نصف شخص، أو بديلا، وكانت روحى تُعتَصر ألمًا وغضبًا جراء النظرات الحادة التى كانت تثقبنى دون توقف بحثا عن هذا الآخر الذى كان قد غاب عن الوجود". نتيجة للتدليل المبالغ فيه عُرف عنه سلوك الطائش، كدفعه صديقه عن حافة عالية كادت تقتله، أو رفسه رأس شقيقته "آنا ماريا" التى تصغره بثلاث سنوات، أو تعذيب هرّة حتى الموت، واجدًا فى هذا متعة كبيرة، كالتى كان يشعر بها حين يعذب نفسه أيضًا، حيث كان يرتمى على السلالم ويتدحرج أمام نظر الآخرين، ولعل هذه التصرفات التى أوردها الفنان فى مذكراته شكلت الشرارة النفسية الأولى للمذهب الفنى الذى اختاره للوحاته، فقد والدته عام 1921 بعد إصابتها بمرض السرطان، وهو ما أثر عليه بشكل واضح وعلى مزاجه الفنى وتوجهاته. بدأ اهتمام سلفادور دالى بالفن والرسم مبكّرا، فلفتت موهبته أنظار كل من حوله من أفراد أسرته ومعلّميه بالمدرسة، وساهم جاره "رامون بيشوت" فى دخوله إلى عالم الرسم، ففى السابعة من عمره رسم أولى لوحاته، واستطاع فى مدرسته أن يلفت النظر إلى رسومه التى تنبأت له بمستقبل فنان بارع، مما دفع بعائلته وأساتذته إلى حثه على دخول كلية الفنون الجميلة فى "سان فيرناندو" فى مدريد. خلال الأشهر الأولى من التحاقه بأكاديمية الفنون الجميلة، تعامل دالى كتلميذ نموذجى رافضًا الاختلاط بزملائه، وفى كل يوم أحد كان يذهب إلى متحف "برادو" حيث كان يمضى ساعات طويلة متسمرًا أمام لوحات المشاهير وعندما يعود إلى الأكاديمية يرسم رسومًا تكعيبية للمواضيع التى شاهدها فى اللوحات. وفى ذلك الوقت تعرف على الفن التكعيبى ولكنه ثار على المفاهيم التى يدعو إليها هذ الفن، واستبدل ألوان قوس قزح فى لوحاته بالأبيض والأسود والأخضر الزيتونى والبنى الداكن. انتقل بعدها إلى باريس عاصمة الفن والنور والجمال، وهناك تعرف على الشاعر والطبيب النفسى أندريه بريتون، الذى أعد الرسالة التأسيسية للمدرسة السريالية، والتى رآها تبرز التناقض فى حياتنا بشكل واضح وفانتازى. اهتم بمطالعة كتابات "نيتشه" و"فولتير" و"كانت" و"سبينوزا" ووجه اهتمامه إلى أعمال الفيلسوف "ديكارت"، عمد إلى إطالة شاربه مثل "نيتشه" وظل محتفظًا به إلى نهاية حياته. عاش سلفادور دالى فى الولاياتالمتحدةالأمريكية من عام 1940 إلى 1948، وهناك قام بتصميم العديد من الواجهات الشهيرة، ومجموعات الحلي، والملابس، وخشبات المسارح، واتفق مع المخرج والت ديزنى على مشروع فيلم "ديستينو " ولم يتم إنجازه إلا مؤخرًا عام 2003. فى عام 1964، أصدر سلفادور دالى كتاب "يوميات عبقري"، وهو مأخوذ من دفتر يوميات يغطّى المرحلة الممتدة من عام 1953 إلى عام 1963 من حياته. ويُشكّل الكتاب تكملة لسيرته الذاتية التى صدرت بعنوان "حياة سلفادور دالى السرّية". الكتاب الذى يحتوى على 300 صفحة، كشف أفكار دالى وشواغله كفنان وظروف لقاءاته مع أبرز شخصيات عصره ومواقفه الجمالية والأخلاقية والفلسفية والبيولوجية، الأمر الذى يمكّننا من فهم شخصيته المثيرة والمعقّدة ومن التعمّق فى منهج عمله الفنى الذى أطلق عليه اسم "الذهان التأويلى النقدي"، من أبرز الموضوعات التى تناولها فى الكتاب: إلحاده النابع من قراءته للكتب التى كانت موجودة فى مكتبة أبيه، سرّياليته التى لم تكن تعرف أى إكراهٍ جمالى أو أخلاقي، نزعة التفوّق لديه التى استمدّها من كتب نيتشه، حبّه المفرط لزوجته جالا، تفضيله التقليد على الحداثة والنظام الملكى على الديموقراطية، والصوفية على المادية الجدلية، احتقاره أرباب الوجودية ونجاحاتهم المسرحية والمرحلية، ولعه بالرسام رافاييل، "الجانب الفينيقي" من دمه على حد قوله والذى جعله يحب الفيلسوف "أوغست كونت" الذى وضع المصرفيين فى المرتبة الأولى من المجتمع. ونتعرف فى يوميات "دالي" على حبه اللامحدود لزوجته جالا التى يعتبرها المحرك الأساسى له، والتى لولاها لما ظهرت عبقريته ولما استمرت. عنها يقول فى المقدمة "هذا كتاب فريد، هو أول كتاب يكتبه عبقري، كان حظه الفريد أن يتزوج من "جالا" المرأة الأسطورية الفريدة فى عصرنا". وحينما بدأ يرسم لوحته الشهيرة "صعود العذراء" ا اختارلها وجه "جالا". كما نتعرف على عادات "دالي" شديدة الغرابة، فبالنسبة للنوم يقول: "الناس عادة تتناول الحبوب المنومة حين يستعصى عليها النوم، لكنى أفعل العكس تمامًا، ففى الفترات التى يكون فيها نومى فى أقصى درجات انتظامه وروعته، أتناول حبة منوم، وبصدق وبدون ذرة استعارة، فإنى أنام كلوح الخشب، وأستيقظ مستعيدًا شبابى ثانية". ومن مكان لآخر يعطينا "دالي" تقريرًا شبه يومى عن عمليته الإخراجية وكيف أنها تتم بسلاسة ونظافة، ويتكلم بحيرة عن عدم فهمه لإهمال المفكرين والفلاسفة لهذه العملية رغم أهميتها وعشق "دالي" للذباب لا يوجد ما يبرره، فقد قال ذات مرة: يعجبنى الذباب ولا أكون سعيدًا إلا حين أكون عاريًا فى الشمس والذباب يغطيني. وفى موقف آخر يفاجأ بالصحفيين يحيطون به ويتذكر أنه كان قد وعد بتقديم تصميم جديد لزجاجة عطر، وأعد مؤتمرًا صحفيًا لذلك، وبعد أن تسلم الشيك من صانع العطور، وسأله الصحفيون عن التصميم الجديد، فوجئ بأنه نسى كل شيء عنه، فاتّبع أول ما ورد على ذهنه لينجو من هذا الموقف، تناول لمبة فلاش محترقة من أحد الصحفيين ورفعها قائلًا: إن هذا هو تصميمه الجديد، وأطلق عليه اسم "فلاش"، وهتف الصحفيون وهللوا ومعهم صانع العطور!! تميزت لوحات الفنان الإسبانى الكبير سلفادور دالى بألوانها وأفكارها الخاطفين للأذهان، ومن أهم هذه اللوحات وأشهرها فى عالم الفن العالمى، وفى تاريخ وعالم دالى نفسه: لوحته الشهيرة "Landscape Near Figueras" التى رسمها عام 1910، حيث كان يبلغ من العمر ست سنوات، ولوحة "Dream Caused by the Flight of a Bee"، والتى انتهى دالى من رسمها عام 1944 فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولوحة "Crucifixion" والتى ظهر فيها اهتمام دالى الواضح بعلمى الرياضيات والفيزياء، حيث تظهر فى اللوحة المكعبات الزائدة، والتى يظهر فيها يسوع وهو مصلوب، وقد رسمت اللوحة فى عام 1954، ولوحة "Still Life Moving Fast" عام 1956، حيث تعمّد دالى أن يرسم بعض الأدوات المنزلية، منها: سكين وأطباق وزجاجة مياه، طائرين أعلى الطاولة، ولوحة "The Invisible Man" التى تمّ رسمها عام 1920 والتى لفتت الأنظار بقوة، ولوحة "Millet's Architectonic Angelus" والتى أثارت الكثير من الجدل بالرغم من بساطتها، ولوحة "The Persistence of Memory" دخلت ضمن أهم لوحات سيلفادور دالى، وهى التى رسمها بعد استقباله لعدد من الضيوف فى منزله، حيث جلس على طاولة ليرسم عددًا من الساعات التى تذوب، وذلك بسبب قضاء وقت طويل فى شىء غير مفيد. فى عام 1984 احترق سلفادور دالى فى غرفته فى ظروف مُريبة، دفعت البعض إلى التكهّن بأنها ربما اكون محاولة للانتحار، ولكن دالى لم يمت فى هذه المحاولة رغم صعوبتها وأثرها النفسى والبدنى، فقد عاش خمس سنوات تالية لهذا الحادث، وفى 23 يناير 1989 توفّى سلفادور دالى تاركًا علامة استفهام ضخمة حول حياته ومواقفه وإبداعاته وحجم الإرث الذى خلّفه على هامش القائمة الكبيرة من الفضائح، والتى أصبحت– حسب قوله الشخصى– تُشكّل جزءًا من التراث الشعبى.