- تحمل آيات القرآن الكريم وأحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مصر، فضلا عما تثبته أحداث التاريخ، الكثير جدا مما يدل ويؤكد على حقيقة خصوصية مصر ومكانتها في الإسلام، ورغم بداهة هذا الأمر وشدة وضوحه إلا أننا اليوم أشد ما نكون في حاجة إلى التذكير بهذه الخصوصية من أجل إعادة بعث وإحياء الشعور بالولاء والانتماء الوطنى في نفوس المصريين من جديد، بعد أن سعت قوى الأفك والضلال والتضليل في الداخل والخارج - وعلى رأسها جماعة الإخوان الإرهابية وما تفرع عنها من جماعات متطرفة - لاستلاب الوعى وتعتيم الضمير عند المصريين، فجعلوا من الدين تجارة، ومن التطرف والدجالة حرفة يأكلون من ورائها سحتا، وينشرون بها الفتنة في ربوع مصر.. بأمل خائب هو ألا تبقى ولا تذر على ثراها من شيء، إلا أن الله تعالى الحافظ لكنانته يأبى ورسوله أن يمسها سوء، وهو من روائهم محيط. - ومن معالم هذه الفتنة التي سعى رءوس جماعة الإخوان عبر تاريخها الأسود، وعلى رأسهم كاهنهم الأكبر سيد قطب - الزعم بأن ولاء المسلم يجب أن يكون للعقيدة فقط وليس الوطن، وكأن هناك انفصالا وتعارضا بين ولاء المسلم لدينه وولائه لوطنه، وذلك بهدف خبيث هو صرف ولاء المصريين لجماعتهم فقط باعتبارها وحدها المدافعة عن الإسلام والمنوط بها الحفاظ على العقيدة، وهو ما انعكس بوضوح شديد خلال السنة السوداء التي حكموا فيها مصر عام 2012، حيث قاموا بتغيير مناهج التربية الوطنية في المدارس الثانوية بإلغاء كل ما يخص ولاء المصرى لوطنه، وصرف ولائه لجماعة الإخوان الحاكمة فقط. في حين أن كل آيات القرآن وأحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، تؤكد بما لا يدع مجالا لأى شك - خاصة تلك المتعلقة بمصر- أنه لا انفصال ولا تعارض بين ولاء المسلم لدينه وولائه لوطنه، بل تؤكد أن ولاء المسلم لوطنه هو من صميم الإيمان، من ذلك الحديث الشريف: "من مات دون أرضه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد، ومن مات دون عرضه فهو شهيد". - لذلك فإن إعادة التذكير بهذه الحقيقة - التي تعمد قوى الشر على طمسها - في هذا الوقت بالذات، هو بمثابة إبحار ضد التيار، حيث تشتد هجمة المتطرفين في اتخاذهم الدين وسيلة لتنفير الناس من وطنهم مصر، بل - وهو الأمر الأخطر - حثهم على إشاعة القتل والتخريب والتدمير في جنبات المجتمع المصرى الذي كفَّروه، وهو ما شاهدناه واضحًا بعد أن طردهم المصريون من السلطة والحكم بفضل الله بثورة 30 يونيو 2013، وعودة الروح المصرية إلى أصلها وحقيقتها، فارتفعت أصوات المصريين في الميادين والشوارع ووسائل الإعلام والمنازل تهتف بحياة مصر، بل وصل هذا الهتاف إلى قاعة هيئة الأممالمتحدة في نيويورك على ألسنة معظم العرب والمسلمين وليس المصريين فقط عقب خطاب الرئيس السيسى هناك، فكان ذلك الهتاف كالخناجر في نحور هؤلاء المتطرفين. - لقد أعطى المولى عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم مصر - دونا عن باقى بلاد الأرض قاطبة - قدرًا هائلا من الخصوصية بما يعد تكريمًا وتشريفًا وتعظيمًا لهذا البلد بالذات. وبقدر ما في هذه الخصوصية من تكريم وتشريف لمصر وأبنائها، بقد ما هو تكليف واقع على كاهلهم، شرفَّهم المولى عز وجل بتحمل عبأه، ويرتبط بقدر هذا البلد في الدفاع عن الإسلام، وما هو منوط بأبناء مصر من حماية مقدسات المسلمين وحرماتهم، وتبليغ رسالة الإسلام على الدوام والاستمرار. فالمسألة إذن ليست مسألة وطن وإن كان فريدا في حياته، فريدا في مولده، ولكنها مسألة وطن أراد الله تعالى أن يرتبط مصيره بمصير الإسلام على الأرض. مصر بلد مقدس في الإسلام: - عندما يصف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى - مصر بأنها كنانة الله في أرضه، فإن حضرته بهذا الوصف الذي ينسب فيه مصر إلى الذات الإلهية - كنانة الله - إنما يضع مصر بحكم هذه النسبة للذات الإلهية في مقام البلد المقدس، وهنا يبرز سؤال مهم: منذ متى كانت مصر كنانة الله في الأرض؟ والإجابة البديهية الغائبة عن معظم الناس.. أن مصر كانت كنانة الله في الأرض منذ أن خلق الله الأرض، كانت فيها مصر كنانته المدافعة عن دينه في الأرض. وهذا الأمر يجب أن يقر إبتداءً في معتقد كل مسلم، سواء كان مصريا أو غير مصريا، وأن يكون لهذا المعتقد إنعكاساته في سلوكه تجاه مصر.. وبما يتلاءم مع هذه النسبة للذات الإلهية، وما تضيفه من قدسية المكانة على مصر. - وبحكم هذه النسبة للذات الإلهية، لم تحظ أرض من القرآن بوصف ولا تكريم بمثل ما حظيت به مصر من وصف وتكريم. إذ انزل الله على رسوله من محكم آياته صور رائعة مشرفة عما حبيت مصر من فضل إلهى، وما أوتيت من حظ عظيم.. وهو ما تمثل فيما ذُكر عن مصر في القصص القرآنى عن قدوم معظم رسل الله الكرام إلى أرضها، وما كفله المولى عز وجل لها من أمن وأمان، وما وطَّنه في أرضها من كنوز الأرض، فضلا عن أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مصر التي وصف فيها أبناء مصر بأنهم "خير أجناد الأرض"، كما أوصى حضرته أصحابه بمصر لما لهم فيها من "نسبًا وصهرًا". - وعن فضل مصر وفضائلها، يحدثنا أبو عمر بن محمد بن يوسف الكندى، أول من كتب عن مصر باللغة العربية، في كتابه (فضائل مصر): "لا يعلم بلد من أقطار الأرض أثنى الله عليه في القرآن بمثل هذا الثناء، ولا وصفه بمثل هذا الوصف، ولا شهد له بالكرم غير مصر. ولا غرو أن تكون بما وصفها الخالق العليم مثابة للناس وأمنا، وتكون الحاضرة وما سواها بدوًا.. ألم يعلن ذلك على لسان سيدنا يوسف عليه السلام.. لقد فضل الله مصر على سائر البلدان.. كما فضَّل بعض الناس على بعض، والأيام والليالى بعضها على بعض، وقد فضَّل الله مصر وشهد لها في كتابه بالكرم وعظم المنزلة، وذكرها باسمها وخصصها دون غيرها، وكرر ذكرها وأبان فضلها في آيات القرآن الكريم". - وقد أخرج جلال الدين السيوطى في كتابه (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) عن ابن زولاق.. أن مصر ذكرت في القرآن في ثمانية وعشرين موضعا، وقال بل أكثر من ثلاثين موقع فيها ذكر مصر صريحا أو كناية. - وتتوالى الأسماء التي تحدثت عن مصر وخصوصيتها في الإسلام وما حباها الله من فضل.. منهم القاضى أبو عبد الله بن سلامة (1006م، 407ه) في كتابه (المختار في ذكر الخطط والآثار)، والشريف محمد بن أسعد الجوانى في كتابه (النقط بحجم ما أشكل من الخطط)، والقاضى تاج الدين محمد بن عبد الوهاب بن المتوج (1326م، 726ه) في كتابه (إيعاظ المتأمل وإيقاظ المتغفل في الخطط)، والقاضى محى الدين عبد الله عبد الظاهر في كتابه (الروضة البهية الزاهية في خطط القاهرة)، ثم يأتى المقريزى (1356- 766ه) أعظم مؤرخى مصر في عصورها الإسلامية، ليستهل كتابه الخالد عنها (المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار) مخاطبا مصر وداعيا لها قائلا: "لا خلتك يا مصر بركة، ولا زال بك حفظ، ولا زال منك ملك وعز، يا أرض مصر فيك الخبايا والكنوز، ولك البر والثروة، وسال نهرك عسلا، كثّر الله زرعك ودرّ ضرعك، وذكى بناتك وعظمت بركتك". ذكر مصر في آيات القرآن الكريم: - من الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر مصر صراحة، وأظهرت فضل المولى عز وجل ورسله الكرام عليهم جميعا الصلاة والسلام على مصر، وكلها ترتبط بقدوم وإقامة حضراتهم على أرض مصر ونشر رسالتهم في الوجود. من ذلك قوله تعالى عن سيدنا موسى وهارون: "وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا"، وعن نشأة سيدنا يوسف وإقامته في مصر "وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا"، وأيضا عن سيدنا يوسف "قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"، وأيضا في إطار رسالة سيدنا موسى إلى فرعون قوله تعالى: "ونادي فرعون في قومه قال يا قوم أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى"، وعن رسالة سيدنا موسى إلى بنى إسرائيل "إهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم". - هذا فضلا عن آيات أخرى ورد فيها ذكر مصر كناية.. منها قوله تعالى في شأن خروج بنى إسرائيل من مصر "كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم، ونعمة كانوا فيها فاكهين". وأيضا قوله تعالى: "وأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم". كذلك في شأن الأمر الذي أصدره سيدنا موسى إلى بنى إسرائيل بدخول سيناء ولكنهم عصوه، فحرمها الله عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض. وفى ذلك يقول المولى عز وجل على لسان سيدنا موسى: "يا قوم إدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين، وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون".. ثم تمضى الآيات إلى قوله تعالى: "قال إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأسى على القوم الفاسقين". - ومما يؤكد قدسية أرض سيناء وتلقى سيدنا موسى إحدى رسالته على أرضها، قوله تعالى: "فلما أتاها نودى يا موسى إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادى المقدس طوى، وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى" وأيضا قوله تعالى: "إذ ناداه ربه بالوادى المقدس طوى"، كذلك قوله تعالى: "وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا" وقوله تعالى كذلك: "وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين".. وغير ذلك الكثير من الآيات القرآنية التي تشير إلى تلقى الكثير من رسل الله تعالى لرسالاتهم على أرض مصر، وما لهذه الرسالات من أثر طيب أثمر الإيمان والهداية في نفوس المصريين. - ويتضح من خلال إشارات القرآن الكريم الذي تتحدث عن مصر وجود دلالات أساسية من الناحية السياسية والجغرافية، أهمها أن مصر هي الكيان (الجيوسياسى) الوحيد الموصوف في القرآن الكريم وبشكل قاطع ومانع وجامع. أما الحقيقة الثانية المنبثقة من الحقيقة الأولى.. فهى أن مصر كما وردت في القرآن الكريم تضمنت العناصر الأساسية التي ترتكن إليها نظرية الدولة في القانون الدولى وعلم العلاقات الدولية الحديث، كما لو أنها رسالة إلهية لحاضرنا تماما كما كانت لماضينا، وهو ما يجعلها شيئا فريدا متفردًا يؤكد مقصد المولى عز وجل لها وبها. أما ما يتعلق بالحقيقة الأولى والمرتبطة بكون مصر الكيان الجغرافى - السياسي الوحيد في القرآن فهى ثابتة وواضحة. ففى كتاب الله عز وجل نجد ذكر لكيانات مختلفة مثل أقوام (عاد) و(ثمود) و(لوط).. الخ. كما قرأنا عن كيانات أخرى مثل (الروم) أو قبائل محددة، ولكن مصر هي الكيان الوحيد المحدد في كتاب الله، وتعكس الآيات التي تتحدث عنها وجود كيان سياسي جغرافى ممتد واضح، وليس على اعتبارها مكان لقبيلة أو أرض مفتوحة الهوية والمكان، بل إن مصر مُعرَّفة في القرآن كما لو أنها كانت موضحة للعيان لا تحتاج إلى حدود لتعريفها، فهى مرتبطة بمكان يعرفه الخطاب الإلهى بوضوح، ويدركه قارئ القرآن بشكل يكاد يكون من خلال الحدس، ذلك لأن القرآن يتحدث عن مصر على اعتبارها تمثل كيانا متكاملا معروفا، وذات مكان معلوم. أما فيما يتعلق بالحقيقة الثانية والمرتبطة بتفسير الدولة وأركانها، فهى وفقا للقانون الدولى ترتكز على أربعة محاور رئيسية أهمها (الشعب)، والثانى هو (الإقليم) أي المكان بحدوده الذي يعيش فيه الشعب، والثالث هو (السلطة السياسية)، ويضاف إلى ذلك (اعتراف دولى) بالدولة. فإذا ما نظرنا لآيات القرآن التي تناولت مصر فسنجدها توضح أركانها بشكل يكاد يكون مؤسسى. فالإقليم معرف كما أشرنا آنفا، وهو الكيان المصرى الذي يعرف الجميع أين تقع مصر ونيلها، أما العنصر الثانى وهو الشعب المصرى فتوضحه آية قوله تعالى: "ونادي فرعون في قومه أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى"، ففرعون يمثل السلطة السياسية المنظمة القادرة على ممارسة السيادة.. وكل هذه الإشارات القرآنية لها دلالاتها التي تعكس أن مصر دولة منذ القدم، بل هي أول وآخر كيان سياسي يعترف به القرآن الكريم. أضف إلى هذا بعدا هاما آخر وهو (روح الدولة) التي أشار لها الفيلسوف الألمانى (هيجل) بالبعد (الميتافيزيقى) - أي ما وراء الطبيعة - والذي لا يمكن تغافل دوره في نهوض الدول ومواجهتها للتحديات التي تعترضها. ذلك أن الدول لا تحيا فقط بالمضامين المادية فقط، وبهذا البعد الروحى العظيم يزداد يقيننا بأن مصر كانت ولا تزال وستظل محمية إلهية مستعصية على أعدائها في الداخل والخارج. وربما أبرز دليل ذلك الثورة الشعبية العارمة في 30 يونيو 2013، والتي أطاحت بنظام حكم الإخوان الذي كان يريد أن يذهب بمصر بعيدا عن الدور المنوط بها من قبل المولى عز وجل، بل لقد سعى هذا النظام الإخوانى إلى تفكيك أواصرها، فجاءت هذه الثورة - بهذه الروح المصرية العظيمة - لتقضى بعد سنة واحدة على هذه النظام الفاسد، ولتنهض بدورها من جديد في الدفاع عن الإسلام وحرمات المسلمين الذين يتعرضون اليوم لأخطر الهجمات الشرسة من قبل أعداء في الداخل والخارج، لذلك صدقت المقولة الشائعة عن "مصر المحروسة". مصر.. مقصد رسل الله وأنبيائه: - لحكمة أرادها الحق تبارك وتعالى، قدّر لرسله وأنبيائه مقادير يجتمعون عليها ويشتركون فيها، وموارد إليها يردون.. من ذلك أن يقدم الكثير من رسل الله تعالى وأنبيائه إلى مصر، فيقيموا فيما ماشاء الله لهم، ينشرون رسالة الإسلام على أرضها وبين أهلها. فما من رسول من رسل الله تعالى إلا وكان له إرتباط بصورة أو بأخرى بمصر، يدعو أهلها إلى عبادة الله وحده لا شريك له، تحقيقا لعلة خلق الإنسان في الوجود.. مصداقا لقوله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". هذه هي مصر المقدسة، مهد الدعوة الحقة لعبادة المولى عز وجل على امتداد تاريخ البشرية، وليست كما يدعون وثنية أو فرعونية وكما أرادوا أن يلوثوا معتقدات المصريين تجاه أصالة إيمان بلدهم، مستهدفين بذلك قطع الروابط بينهم وبين تاريخهم العريق. - وكما كان بعث حضرات رسل الله تعالى إلى مصر تشريفا وتكريما لها ولأهلها، فإنه يتعلق أيضا بحكمة إلهية عظمى تتعلق بجوهر الدعوة إلى دين الله (الإسلام) وإنتشاره والدفاع عنه والزود في سبيله، وإرتباط كل ذلك بأهل مصر وصلاحية قلوبهم لتقبل دعوة الرسل والإيمان بحضراتهم والإرتباط بهم، وسرعة إنتشار الإيمان في تلك القلوب.. مصداقا لقوله تعالى: "الله أعلم حيث يجعل رسالاته". وكما أن لدعوة الرسول ثمرة طيبة في نفوس تابعيه، فإن لها ثمرة أيضا في بعث حياة جديدة للأمة التي أرسل إليها، ونشأة جديدة للقوم المقيمين فيها بعد موات، مصداقا لقوله تعالى: "أفمن كان ميتا فأحييناه، وجعلنا له نورًا يمشى به في الناس". - وإذا رجعنا إلى أية قوله تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله".. فسوف يتبين لنا أنه حيثما وجد الرسول وجدت التبعية المؤمنة لحضرته. وهو ما يؤكد ويبرز بالتالى حقيقة مهمة أن مصر منذ ماضيها السحيق وإلى حاضرها القريب وحتى مستقبلها البعيد.. وإلى أبد الآبدين إن شاء الله دائما هي مصر المؤمنة مهد ومبعث الرسالات بدين الله الحق، وهو ما ينفى بالتالى ويدحض كل الإدعاءات الكاذبة التي تروجها الجماعات المتطرفة بأن القدماء المصريين كانوا عبدة أوثان واصنام، وأن أرض مصر أرض جهالة وأهلها كفرة حلال الدم والمال والعرض رغم إسلامهم وإيمانهم على حد مزاعم سيد قطب وجماعته. - فلم تكن الحضارة المصرية القديمة والعظيمة بكل ما حوته من علوم ومعارف في كل المجالات الحضارية المادية واللامادية، إلا ثمرة بعث رسل الله تعالى في المصريين قديما، باعتبار كل رسول في وقته مصدر العلم والمعرفة في الوجود كله وذلك لكونه متحققا باسم الله (العليم).. مصداقا لقوله تعالى عن سيدنا إسحق عليه السلام: "وبشروه بغلام عليم". فمن حضرات رسل الله الذين قدموا إلى مصر قديما، تعلم المصريون أصول علوم الفلك والهندسة والمعمار والزراعة والصناعة والرى والكيمياء.. وغير ذلك من العلوم التي إنعكست في آثارهم وكتاباتهم التي لا يزال علماء العالم حتى اليوم عاجزون عن فك طلاسيمها. ولم تقتصر ثمار بعث رسل الله في المصريين القدماء على عمارة الدنيا، بل - والأهم - كان لهذا البعث ثمارًا أيضا في هدايتهم إلى الله تعالى، وعمارة نفس الإنسان وبناء شخصيته المعنوية، فأسسوا أخلاقا تحتذى، وأعرافا وتقاليدا تتبع، ومثلا عليا يسير عليها الإنسان في حياته، فيضمن في آخرته حسن المآل. وهو ما عكسته تعاليم الملوك ونصائح الوزراء وإرشادات الحكماء التي حوتها نقوش المعابد ومتون الأهرام ونصوص التوابيت والبرديات.. وبهذه الأخلاقيات والأعراف والمثل العليا، والتي إنعكست في سلوكيات المصريين القدماء - والتي كانت ثمرة تقبلهم لرسالات رسل الله الذين وفدوا إليهم - كانت مصر قبلة لمن جاورها من أمم الأرض وشعوبها، ومن وفد عليها من طلاب العلم والمعرفة والحكمة والتجار، ثم يعودوا إلى بلادهم فلاسفة وعلماء.. وقد تمثل ذلك فيمن أطلق عليهم فلاسفة وحكماء اليونان، فقد تأكد أنهم جميعا كانت خطواتهم الأولى في تلقى العلم والفلسفة والحكمة في المدرسة المصرية القديمة. - وكما كانت مصر تقدم غذاء البدن لطلاب الرزق من الشعوب التي حولها.. فإنها كانت تقدم لهم أيضا غذاء النفس الذي تغذى به المصريون بفعل رسالات رسل الله التي زرعت في مصر نبتا طيبا كان له ثمرة على مر الأزمنة والقرون، حيث غرزت في أفئدة المصريين معان جديدة ومبادئ جليلة تغلبت على الماديات.. إذا رأت السعادة في صالح الأعمال، وفيما يكتسبه المرء من فضائل.. نرى ذلك واضحا في كتابات المصريين القدماء التي سجلت ما كان يسود حياتهم من عدالة، وبشَّرت بأن الخلود لا تسوغه وجاهة أو ثراء، وإنما سبيله إجتناب الآثام وفعل الخيرات والصدق في القول والعمل والبر بالناس، واحترام حقوقهم والإعداد ليوم الحساب بعد الممات، بما ينبغى أن يتزود به الإنسان من دنياه لأخراه من صالح الأعمال. لذلك لم يكن غريبا أن يطلق عدد من المؤرخين الفلاسفة على المجتمع المصرى القديم (المدينة الفاضلة). - أما أبرز رسل الله الكرام الذين وفدوا على مصر قديما، وورد ذكرهم في القرآن وتحدثت عنهم كتب التاريخ القديم، فهم بالترتيب الآتى: 1- سيدنا إدريس عليه السلام: - جاء في كتاب (النصرانية والإسلام) للدكتور عزت الطهطاوى ص115 - عن مذكرات العلامة المصرى القديم (مانيتون) قوله: "إن هناك أنبياء ورسل قاموا بنشر الدعوة إلى الله بين المصريين القدماء، ودعوات التوحيد وعدم الإشراك به، وأخص هؤلاء نبى الله إدريس عليه السلام، وانه ولد في مدينة (إدفو) المصرية، وعاش بها ليُلعمِّ الناس القراءة والكتابة، وليستمعوا إلى تعاليم الإله وتشاريعه، كما علَّم الناس الزراعة ولبس المخيط، وأنه أول من عّرف الناس العلوم الكونية والجيولوجيا والرياضيات، وكان على علم كبير بلغات أهل الأرض جميعا، وأنه انتقل من مصر إلى الهند ليستأنف دعوة التبشير والوحدانية إلى الله، وكان يحدث كل قوم بلغتهم ولهجاتهم. ويذكر المؤرخون أن المصريين اسموه (حورس)، وفى كتاب (الموتى) اسموه (أوزوريس).. تقول كتابات قدماء المصريين المسجلة في آثارهم عن (حورس) أن من الآثار التي وجدت على حزامه أنه كتب "حفظ فروض الشريعة من تمام الدين، وتمام الدين من كمال المروءة، وخاصة من خواص الإنسان النقى".. ومن أقواله "حياة النفس في الحكمة وموتها في الجهل". 2- سيدنا إبراهيم عليه السلام: - أقبل على مصر أبو الأنبياء وخليل الرحمن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فأقام بين أهلها يدعوهم إلى رسالة التوحيد، ويهديهم إلى طريق الحق تبارك وتعالى، فآمن به أهلها، ثم إتخذ من إحدى بناتها (السيدة هاجر) زوجة له لتكون أما لبكر بنيه سيدنا إسماعيل عليه السلام الذي باركه الله، فكان صِّديقًا نبيا، ومن سيدنا إسماعيل تخرج أمة العرب، ومنها كانت قريش التي ينتسب إليها سيدنا رسول الله محمدا عليه أفضل الصلاة والسلام. - وفى قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم "ربنا إنى أسكنت من ذريتى بوادى غير ذى زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة، فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم، وأرزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون" إنما كان حضرته يدعو لذريته في أرض الحجاز بمثل الذي رأى من الخير في مصر حين كان مقيما فيها. ذلك أنه في قول حضرته (وادى غير ذى زرع) إشارة إلى أنها قادم من (وادى ذى زرع)، أي من مصر، فلم يكن يعرف في هذه المنطقة إلا وادى النيل، وبادية الشام، وأرض ما بين النهرين (العراق) - فقد كانت ولازالت مصر وادى ذا زرع كثير وخير عميم، تهوى إليه أفئدة الناس، فيرزقهم الله من ثمراته، فيكونوا له شاكرين. 3- سيدنا يوسف عليه السلام: - وكما جاء إلى مصر سيدنا إبراهيم، يحدثنا القرآن الكريم أيضا عن مجئ إبنه سيدنا يعقوب عليه السلام إلى مصر، وذلك في قوله تعالى: "فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال إدخلوا مصر إن شاء الله آمنين، ورفع أبويه على العرش وخروا له سُجدًا، وقال يا أبت هذا تأويل رؤياى من قبل قد جعلها ربى حقا". وتحدثنا الآيات عن قصة سيدنا يوسف عليه السلام وشأن رسالته في مصر، في مواضع كثيرة من السورة التي سُميَّت باسم حضرته. فقد جاء حضرته إلى مصر حين حُمل إليها صبيا، فعاش فيها حياته وانتقل إلى ربه على أرضها، وعلمه الله العلم والحكمة على أرضها، مصداقا لقوله تعالى "ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين"، كذلك قوله تعالى: "وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك". وكان قدوم سيدنا يوسف إلى مصر مكانة ونعمة مَنَّ الله بهما على مصر، ومصدر نفع عظيم، وهو ما تشير إليه آية قوله تعالى: "وقال الذي إشتراه من مصر لامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا". وقد إنعكس هذا النفع وذلك الفضل الإلهى الأعظم الذي أجراه المولى عز وجل على يد سيدنا يوسف بشكل واضح، حين تنَّبأ حضرته مبكرًا بالمحنة القاسية التي كانت ستمر بمصر بسبب نضوب مياه النيل سبع سنين، عندما فسَّر حضرته رؤيا الملك على وجهها الصحيح، ثم أرشده إلى السبيل القويم الذي ينقذ مصر من تلك المحنة، وذلك في قوله تعالى على لسان سيدنا يوسف "قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله، إلا قليلا مما تأكلون، ثم يأتى من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون، ثم يأتى من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون". فلقد أراد الله بمصر خيرا - ولا غرابة في ذلك، فهى كنانته في الأرض، وهو سبحانه وتعالى الحافظ لها من كل سوء، ولا يرضى لشعبها أن يمسه نصب من جوع أو عطش، فهيأ لها جلَّت قدرته رسولا من عنده - هو سيدنا يوسف عليه السلام - ليتصدى لهذه المحنة، ويُخرج البلاد سالمة منها، ولم يكن لغير رسول من قبل الحق تبارك وتعالى القدرة على التصدى لمثل هذه المحنة.. وقد أثمر قيام حضرته بأعمال رئيس الوزراء في مصر، وتدبير شئونها الاقتصادية، أن عمَّ مصر الرخاء، بل وفاض عن حاجة المصريين بما جعلهم يتصدقون على من جاءوهم من الشعوب التي تعانى من القحط، وهو ما يوضحه قوله تعالى على لسان إخوة سيدنا يوسف الذين قدموا من أرض فلسطين يسألون العون والمساعدة من مصر: "فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزى المتصدقين". ولقد تعلم المصريون من حضرته كيف يدَّخرون غلة الأرض من أيام الرى لأيام الجفاف، ومن يُسرهم لعُسرهم، ومن رخائهم لشدَّتهم، بل وبتطبيق أسلوب التخزين السليم الذي أشار به سيدنا يوسف عليه السلام "فذروه في سنبله". وكان تأسى ملوك وحكام مصر بحضرته بعد ذلك، وحسن تدبيرهم خليقا بأن يخفف عن المصريين أيام الشدة. وإذا توقفنا أمام قوله تعالى "وكذلك مكنَّا ليوسف في الأرض".. فإنه بغض النظر عن التمكين المادى الذي تشير إليه الآية بحكم تولى حضرته منصب عزيز مصر (أي رئيس الوزراء)، فإن الآية تشير أصلا إلى مدى تمكن الإيمان بحضرته ورسالته في قلوب المصريين الذين إتبعوه وارتبطوا به، كما توضح الآية حقيقة هامة وهى أن من يتمكن من مصر.. إنما يتمكن من الأرض كلها، وهو ما يعنيه المحدثون أن مصر قلب العالم ومركز الأرض، وأن من يتمكن منها يستطيع أن يتحكم في كثير من مقدرات العالم، خاصة إذا ما كانت على مستوى من التقدم الحضارى المادى والمعنوى، كذلك الذي كانت عليه في الزمن القديم، عندما سادت المعمورة، وكانت باقى الشعوب تغط في غياهب الجهالة بكل معانيها. وإذا توقفنا أمام بقية آية قوله تعالى "وكذلك مكنا ليوسف في الأرض، يتبوأ منها حيث يشاء، نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين". فسوف يتضح لنا أن رسالة سيدنا يوسف في مصر لقيت قبولا وإيمانا من معظم شعب مصر، فأينما كان يتوجه حضرته في أرض مصر.. كان يجد حبا وإيمانا وإتباعا وإرتباطا من أبنائها، لذلك كان شعب مصر مستحقا وأهلا للرحمة الإلهية التي يحملها سيدنا يوسف، باعتباره مصدريتها في الوجود، يصيب بها المولى عز وجل كل من يؤمن بالرسول ورسالتها ويسلك معه طريق الإحسان، لأن رسالة الرسل في حقيقتها وجوهرها هداية للقلوب، وسريان هذه الهداية في الأمة من القلوب المؤمنة إلى باقى القلوب أمر يرتبط بهذا التمكين الذي تشير إليه الآية. 4- سيدنا موسى وسيدنا هارون عليهما السلام: - بعث الله تعالى سيدنا موسى وأخاه سيدنا هارون عليهما السلام في أرض مصر، حيث نشأ حضرته على أرضها، ورُبّى فيها وليدا. ورغم تعرض حضرته - من حيث ظاهر الأمر - للخطر عندما وقع في يد عدوه (فرعون)، وهو ما حرصت أم سيدنا موسى على تلافيه، إلا أن لله تعالى حكمة هو مبديها، وأمرًا هو بالغه، فيحميه الحق تبارك وتعالى، ويحيطه بعينى العناية والحب الآلهى، وليكون صنعة الهية خاصة، وهو ما يوضحه قوله تعالى: "وألقيت عليك محبة منى ولتصنع على عينى. ثم جئت على قدر يا موسى وإصطنعتك لنفسى". فيكفل له المولى عزوجل التربية الكريمة والتعليم الناضج الذي يؤهله لحمل رسالة التوحيد إلى شعب مصر في وقت تعوزه هذه الرسالة، حيث كان يرزخ تحت حكم فرعون، وفى ذلك يقول الحق تبارك وتعالى "ولما بلغ أشده وإستوى آتيناه حكما وعلما". وعن تلقى حضرته رسالته إلى فرعون مصر وقومه، وكَلَّمه الحق تبارك وتعالى على أرض مصر، توضح الآيات " فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله، آنس من جانب الطور نارا، قال لأهله إمكثوا إنى آنست نارا لعلى آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون، فلما أتاها نودى من شاطئ الوادى الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إنى أنا الله رب العالمين". ولقد كان سيدنا موسى عليه السلام صاحب رسالات متعددة، وليس رسالة واحدة إلى بنى إسرائيل - كما يزعم البعض، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: "إنى اصطفيتك على الناس برسالاتى وبكلامى". من هذه الرسالات.. رساله إلى شعب مصر ورسالة ثانية إلى بنى إسرائيل، وثالثة إلى فرعون وقومه، ورابعة إلى قوم مدين، وهو ما خبرتنا عنه آيات القرآن الكريم. ومن ثم فلم يكن سيدنا موسى عليه السلام عبريا (اسرائيليا) كما يزعم اليهود مستهدفين نسبة حضرته إلى بنى إسرائيل، بل كان حضرته مصريا تماما، يعترف بهذه الحقيقة المؤرخ اليهودى (فرويد)، حيث يؤكد أن سيدنا موسى كان مصريا، ولم يكن منتميا لبنى إسرائيل على الإطلاق - وهو ما كشف عنه كتاب (الفكر الدينى اليهودى) للدكتور حسن ظاظا. وليس المقصود من قوله تعالى (هذا من شيعته وهذا من عدوه) أن الرجل المعتدى عليه من بنى إسرائيل، ذلك أنه من الأمور البديهية أن شيعة أي رسول - إنما هم التبعية المؤمنة أيا كانت جنسيتها، وفى قول المولى عز وجل "وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبؤا لقومكما بمصر بيوتا، واجعلوا بيوتكم قبلة، وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين". لما يوضح أن كلا من سيدنا موسى وسيدنا هارون عليهما السلام قد إتخذ - بأمر من الله تعالى - من أبناء مصر تبعية خاصة مؤمنة به، كانت مصدر وقبلة هداية لباقى المصريين، ولتقيم الصلة بينهم وبين رسل الله تعالى على الدوام والاستمرار، وهو ما يستحق أن يكون محل بشرى من الله تعالى إلى المؤمنين من أبناء مصر المحافظين على هذه الصلة. 5- سيدنا عيسى عليه السلام: - ولقد تشرفت أرض مصر أيضا بمقدم سيدنا عيسى عليه السلام وأمه السيدة مريم وكانت به أسبق المؤمنين وصدِّيقة لرسالته، حيث تروى كتب التاريخ القديم أنهما أقاما في منطقة ما بين عين شمس وبابليون حين كان في المهد صبيا، وفى ذلك يقول الحق تبارك وتعالى "وجعلنا إبن مريم وأمه آية، وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين". وقد ذكر جلال الدين السيوطى في كتابه (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) نقلا عن السلف ما يفسر تلك الآية، ويشير إلى الربوة بأنها مصر، حيث يقول: "أخرج ابن أبى حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية هي مصر، قال وليس الرُبىَ إلا بمصر، والماء حين يرسل يكون الرُبىَ عليها أي القرى، ولولا الرُبىَ لغرقت القرى". وقد أكد هذا المعنى كل من ابن المنذر في تفسيره عن وهب ابن منية، وابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق جرير عن الضحاك ابن عباس "أن سيدنا عيسى عليه السلام كان يرى العجائب في صباه إلهاما من الله، ففشا ذلك في اليهود، وترعرع عيسى فَهمَّت به بنو إسرائيل، فخافت أمه عليه، فأوحى الله إليها أن تنطلق به إلى مصر، فذلك قوله تعالى: "وأويناهما إلى ربوة" قال يعنى أرض مصر". ولعل فيما ذكر من وصف الربوة بكونها ذات قرار ومعين، ما يوحى بإمتياز مصر بالخيرات والأفضال الوفيرة عن غيرها من بلدان العالم. أحاديث سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم عن مصر وأهلها: - وكما شرفت مصر بمقدم الكثيرين من رسل الله تعالى، فقد شرفت أيضا بأن إختصها سيدنا رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالعديد من الأحاديث الشريفة دون سواها من سائر بلاد الأرض. بدءً بدعوة أهل مصر للإسلام، عندما كتب إلى المقوقس والى الروم على مصر، كتابه المشهور الذي يقول فيه "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من إتبع الهدى، أما بعد فإنى أدعوك بدعوة الإسلام، فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين.. ". وقد رد المقوقس على حضرته ردا جميلا وبعث إلى رسول الله بهدية هي السيدة مارية التي تزوجها حضرته وأنجبت له إبنه إبراهيم. ثم كان لرسول الله في مصر وأهلها من أحاديثه الشريفة من جوامع الكلم ما قدَّر لها ولهم من الفضل والكرم.. ففى حديث حضرته "إن الله سيفتح عليكم بعدى بمصر، فاستوصوا بأهلها خيرا، فإن لكم فيها نسبا وصهرًا حيث يكشف هذا الحديث عن عدة حقائق على النحو التالى: أ- ينبئ سيدنا رسول الله - الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى - بأن الفتح الإلهى الأعظم للإسلام والمسلمين سيكون بدايته من مصر، وأن مصر تخصيصا ستكون وأهلها سببا في هذا الفتح الأعظم، وهو ما تحقق تاريخيا عندما انتشر الإسلام في ربوع المعمورة آنذاك بعد فتح سيدنا عمرو بن العاص لمصر. ب- أن رسول الله يوصى المسلمين من بعده بأن يستوصوا بأهل مصر خيرا، وهذا أمر من رسول الله لا ينفك أي مسلم يؤمن بالله ورسوله عن الإنصياع له، ومن ثم فإن أي إنسان أو جماعة من الناس أو دولة أو مجموعة من الدول.. تستهدف إيذاء أهل مصر في أي صورة من صور الإيذاء، فإنه يكون مخالفا لما أوصى به سيدنا رسول الله بأهل مصر. ج- يوضح حضرته أيضا في هذا الحديث أن هناك على الدوام والاستمرار صلة نسب وصهر تربط العرب بالمصريين. ولا يرجع ذلك فقط إلى نسب العرب لأمهم السيدة هاجر المصرية أم سيدنا إسماعيل عليه السلام، كذلك المصاهرة التي تمت عندما تزوج رسول الله السيدة مارية المصرية، بل إن النسب والصهر الذي يعنيه حضرته أوسع من ذلك واشمل.. حيث يشمل نسب الإيمان الذي يربط قلوب العرب بالمصريين. هذا إلى جانب إرتباط نسب سيدنا رسول الله أيضا بمصر من جهة الأب، حيث ينتسب والد حضرته إلى بنى مناف، وأهلهم من مدينة منف في مصر. يوضح تلك الحقيقة حديث حضرته الشريف الذي يقول فيه: "إن الله إختار العرب، وإختار كنانة من العرب، واختار قريش من كنانة، واختار من قريش بنى مناف، واختار من بنى مناف بنى هاشم، واختارنى من بنى هاشم. فأنا خيار من خيار من خيار من لدن آدم إلى أن ولدنى أبى وأمى". أي أن أصل الرسول صلى الله عليه وسلم من بنى هاشم الذين ينتمون إلى أهل منف الذين ينتمون إلى الكنانة، أي أرض مصر. وفى رسالة سيدنا عمرو بن العاص عند وصوله إلى أرض مصر وفتحها قوله: "أهل مصر أكرم الأعاجم كلها، واسمحهم يدًا، وأقربهم رحما بالعرب وبقريش خاصة". يؤكد هذه الحقيقة الدكتور سيد كريم في مقاله بمجلة الهلال في فبراير 1982 تحت عنوان (قدماء المصريين وبناء الكعبة) حيث يقول: "لقد نقل المصريون القدماء إلى قريش ومكة الأسماء المصرية القديمة وألقابها التي كانت سائدة في العصر الجاهلى.. من بينها عبد مناف (إشارة إلى مدينة منف)، وعبد شمس (إشارة إلى مدينة عين شمس) أو (الآتون)، وعبد العزى (غيرت)، وعبد اللات (آليت)، وعبد آدم (أتوم).. إلى غير ذلك من الأسماء والكلمات الفرعونية القديمة التي انتقلت إلى لغة قريش". - ومن أحاديث سيدنا رسول الله التي تعطى خصوصية لمصر، بل ومكانة مقدسة.. ما سقناه آنفا ويقول فيه حضرته "مصر كنانة الله في أرضه من أرادها بسوء قصمه الله". وأن مصر بحكم نسبتها للذات الإلهية، فهى بلد مقدس بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، وما تلقيه على المسلمين عامة والمصريين خاصة من معتقد وسلوك وأعباء حيال مصر. فإن هذا الحديث يكشف أيضا عن عدة حقائق مهمة منها: أ- أن كلمة (الكنانة) تعنى جعبة سهام المحارب، فإن استخدام سيدنا رسول الله لهذه الكلمة بالذات، إنما يعنى بها حضرته أن مصر تحوى سهام الحق الموجهة بأيدى أبنائها (خير أجناد الأرض) إلى صدور أعداء الله. فهى إذن المدافعة عن الإسلام على الدوام والاستمرار، وتمثل يد البطش الإلهى في هذا الوجود الحادث ضد كل من تسول له نفسه الاعتداء على الإسلام وحرمات المسلمين. ب- وفى قول حضرته (من أرادها بسوء قصمه الله) تكمن عدة حقائق هامة يجب أن يتنبه لها ويعيها كل مسلم، خاصة من كان له شرف الإنتساب إلى هذه البلد المقدس.. بداية بهذا التحذير والوعيد الخطير، بأنه سيكون هناك على الدوام والاستمرار من يريد بمصر وأهلها السوء والإيذاء، وهذا ليس بغريب على أعداء الإسلام وأعداء مصر في ذات الوقت الذين يدركون حقيقة أن مصر هي قلعة الدفاع عن الإسلام وحصنه الحصين، لذلك فهى مستهدفة على الدوام والاستمرار من أعداء الله.. مستهدفهة في أقواتها وأرزاقها وأبنائها وأرضها ومائها وأجوائها وثرواتها ومعتقدات أبنائها، إلا أن سيدنا رسول الله يوضح في بقية حديثه الشريف أن المولى عز وجل هو الكفيل بأن يقصم كل من يريد الإساءة لمصر، حيث ستطوله يد البطش الإلهى الحامية لمصر لا محالة، بل إن أي إنسان أو جماعة أو دولة تبدى مجرد إرادة ونية السوء بمصر سواء في الداخل أو من الخارج.. فإن الله تعالى هو المتكفل بأن يقصمه، ولا غرو في ذلك لأنه يكون عدو الله بإبداء نية السوء تجاه أحد المقدسات المنسوبة لله تعالى. ولقد شاهد ولمس العالم كله والمسلمون والمصريون خاصة عبر التاريخ.. واقع هذا الحديث، وكيف أن مصر كانت دوما هي المدافعة عن الإسلام ومقدساته وحرماته، وأن كل من أراد بها السوء سواء من قبل المفسدين في الأرض في الداخل وعلى رأسهم تلك الجماعات المتطرفة، أو من قبل المعتدين عليها من الخارج، قد لقي من صنوف الإنتقام الإلهى الكثير، حيث كانت ترتد سهامهم دوما إلى نحورهم، وتنجو مصر بفضل من الله وحمايته وعنايته، وبنظر سيدنا رسول الله على هذا البلد وأبنائه خير أجناد الأرض، والتاريخ من القدم السحيق وحتى اليوم خير شاهد على ذلك: (1) فالهكسوس الذين حكموا مصر قرابة قرن ونصف من الزمان، أبيدوا بعد أن قصمهم الله على يد أبناء مصر بقيادة أحمس الأول بطل استقلال مصر في عهدها القديم، وارتفعت إعلام الجيش المصرى مرة أخرى ترفرف من منحنى نهر الفرات بالعراق شرقا إلى الشلال الرابع على نهر النيل في السودان جنوبا، وبقيت مصر. (2) وفى معركة (مجدو) إنتصر الجيش المصرى بقيادة تحتمس الثالث على الآسيويين الذين هاجموا مصر، وأبيدوا بعد أن قصمهم الله، وعادت إعلام مصر ترفرف على الشام وفلسطين والعراق، وبقيت مصر. (3) وفى معركة (قادش) إنتصر الجيش المصرى بقيادة رمسيس الثانى على الحيثيين بعد أن قصمهم الله، وبقيت مصر، وامتدت إعلامها ترفرف على مضايق البوسفور والدردنيل. (4) كما تاهت جيوش الفرس بقيادة قمبيز في صحراء مصر الغربية، ودفنت تحت رمالها، بعد أن قصمهم الله وبقيت مصر. (5) والتتار بعد أن إكتسحوا معظم أنحاء العالم المعمور في ذلك الوقت، ودمروا وأبادوا وأحرقوا كل ما صادفهم في الشام والعراق وفلسطين، أبيدوا في عين جالوت بعد أن دحرهم الجيش المصرى بقيادة سيف الدين قطز بعد أن قصمهم الله وبقيت مصر. (6) والصليبيون بعد أن إكتسحوا الشام وفلسطين، واحتلوا المقدسات الإسلامية في بيت المقدس، وقصمهم الله في حطين على أيدى المصريين بقيادة صلاح الدين الأيوبى، وفى المنصورة بقيادة (أقطاى)، و(بيبرس) واُسر ملكهم لويس التاسع وبقيت مصر. (7) وأثناء الحرب العالمية الثانية الثانية.. عندما أراد الإنجليز أن يغرقوا دلتا مصر بمياه النيل لتعوق تقدم الألمان، وأراد الألمان أن يحتلوا مصر ويستولوا على قناة السويس لتكون سبيلهم إلى منابع النفط في المشرق والجنوب العربى، قصم الله هؤلاء وهؤلاء في صحراء مصر الغربية، وها هي قبورهم شواهد على ذلك في العلمين، وبقيت مصر بفضل من الله لم يمسسها سوء. (8) وقد تكرر نفس الأمر على الساحة الداخلية في مصر، عندما ارادت قوى التطرف والإرهاب المتشحة برداء الدين، أن تعبث باستقرار مصر وأمنها، فكان المولى عز وجل لهم بالمرصاد، حيث هيأ لهم من قوة السلطة الداخلية من يكشفهم ويتصدى لهم ويقصمهم، وحتى تبقى مصر محفوظة بعناية الله ورعاية رسوله. شاهدنا على ذلك ما تابعناه عبر المواجهات العديدة التي جرت بين هذه الجماعات المتطرفة وسلطات الأمن الداخلى في مصر خلال النصف قرن الأخير. عندما كانت هذه الجماعات تستغل بعض الظروف التي تمر بمصر فتخرج من أوكارها تقتل وتخرب وتدمر على أرضها، بأمل أن يحقق لها ذلك الوصول إلى السلطة والحكم، فكانت الضربات القاصمة تنالهم في كل مرة بالمحاكمات والإعدامات والسجن والتشريد. وقع ذلك في أواخر الأربعينات عندما تصدت قوى الأمن الداخلى لهذه الجماعات في عهد النقراشى باشا عندما اغتالت رئيس الوزراء أحمد ماهر في 1946، ثم في عهد وزارة إبراهيم عبد الهادى عندما إغتالت نفس الجماعة في عام 1948 النقراشى باشا رئيس وزراء مصر، وفى منتصف الخمسينات أيضا وخلال الستينات عندما تصدى عبد الناصر لنفس الجماعة بعد أن حاولت إغتياله في عام 1954 ثم في عام 1965، وتأكد لنا ذلك في السبعينات أيضا ضد جماعة التكفير والهجرة التي إغتالت وزير الأوقاف (الشيخ حسين الذهبى)، وفى الثمانينات ضد تنظيم الجهاد الذي إغتال رئيس الجمهورية الراحل أنور السادات، وفى التسعينات تكررت المواجهة بين قوى الأمن الداخلى وبين الجماعة الإسلامية وغيرها من الجماعات التي تعددت أسماءها وإنتماءاتها، وأرادت أن تشيع الفزع والروع والخراب والدمار في ربوع مصر، فكان الله تعالى لهم أيضا بالمرصاد، حيث قصمهم كما قصمهم من قبل في كل مرة أرادوا الإساءة والإيذاء لمصر وأبنائها. ثم أخيرا بعد ثورة 25 يناير 2011، عندما استولت عليها جماعة الإخوان، فأشاعت القتل والخراب والحرق في ربوع مصر، خاصة ضد أجهزة الشرطة إنتقاما منهم، وعندما وصلت إلى الحكم من خلال الدجالة والمتاجرة بالدين، وأراد الله بذلك أن يكشف للمصريين حقيقة هذه الجماعة الضالة المضللة، فأسقط عنها أقنعة الكذب والخداع، فأدرك المصريون حقيقة الإخوان بعد أن أوشكوا على بيع الوطن إلى أعداء مصر، وإشاعة الفساد في ربوعها بأخونة أجهزة الدولة ومؤسساتها، فأسقط المصريون نظام حكمهم البغيض في ثورة 30 يونيو 2013. وتبقى مصر قوية منيعة آمنة مستقرة بفضل من الله ورسوله الذي ينجى ويحفظ كنانته من كل سوء أو إيذاء يراد بها. هذا هو واقع حديث سيدنا رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى (من أرادها بسوء قصمه الله). - وإذا إنتقلنا لحديث شريف آخر لسيدنا رسول الله عن أبناء مصر يقول فيه حضرته: "إذا فتح الله عليكم مصر، فاتخذوا من أهلها جندا كثيفا، فإن بها خير أجناد الأرض، وهم في رباط إلى يوم القيامة". فسنجد أن حضرته في هذا الحديث الشريف يوصى المسلمين بأن يكون معظم جند الإسلام من أبناء مصر، ثم يوضح سيدنا عمر بن الخطاب أنه عندما سأل سيدنا رسول الله: ولم يا رسول الله؟ أوضح حضرته أن السبب في ذلك أنهم خير أجناد الأرض قاطبة، لأنهم على الدوام والاستمرار مرابطين في سبيل الله. أما مظاهر هذا الرباط فإنها تتجلى في حسن معتقد المصريين وإيمانهم، ومن ثم تفانيهم في الدفاع والزود عن دينهم وأرضهم ومقدسات وحرمات المسلمين.. ليس إبتغاء عرض دنيوى، ولكن إبتغاء مرضاة الله ورسوله. لذلك فهم ليسوا كأى جند آخرين بحكم ما وقر في قلوبهم من إيمان وتقوى وإعتقاد فطرى بأنهم أصحاب رسالة سامية مطالبين بالدفاع عنها حتى الاستشهاد في سبيلها. ولا يقتصر مفهوم المرابطة في سبيل الله على اليقظة والاستعداد العسكري فقط، بل يتضمن أيضا اليقظة والتصدى للأفكار المنحرفة والهدامة التي تفسد معتقدات المسلمين وإيمانهم وتثير الفتنة في مجتمعاتهم، وذلك بإثبات بطلان وخطورة هذه الأفكار، ومقارنتها بالحجة والبرهان الساطع القائم على كتاب الله وسنة سيدنا رسول الله، وكشف حقيقة الأمر في كل ما تتعرض له أمور العقيدة من محاولات تحريف وتشويه، وذلك على حكم قوله تعالى: "بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق" - ومن أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا عن مصر، مارواه الطبرانى في الكبير وأبو نعيم في دلائل النبوة بسند صحيح عن أم سلمة أن رسول الله أوصى عند انتقال حضرته فقال: "الله الله في أهل مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل الله"، وفى رواية أخرى: "فإنهم قوة وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله" ومهما يكن من سند ما أوردنا من أحاديث سيدنا رسول الله في أهل مصر، فسوف نجد أنها تتناول أمورًا ثلاثة مصدقا لما بين أيدينا منها، من أحداث التاريخ وأحوال أهلها. الأول: أن للعرب في مصر نسبا وصهرا وذمة. الثانى: أن أهلها يكونون قوة وبلاغا إلى عدوهم. الثالث: أن أبناء مصر هم خير الأجناد، وأنهم يكونون نعم الأعوان على قتال أعداء الإسلام، ومن ثم فإن مصر على الدوام والاستمرار مستهدفة من قبل أعداء الله، ولكن الله خير حافظ لكنانته. مصر بلد الأمن والأمان: - ولقد خص الله تعالى مصر بخاصية أخرى هامة.. هي إتصافها بالأمن والأمان، مصداقا لقوله تعالى (إدخلوا مصر إن شاء الله آمنين)، ولا غرابة في ذلك بالنظر لما لهذا البلد من دور خاص في الدفاع عن الإسلام وتبليغ رسالته، لذلك جاءت هذه الآية لتحمل حكما وإعلانا من المولى عز وجل بأنه جلت قدرته قد كفل لمصر وأهلها الأمن والأمان على الدوام والاستمرار، ومن ثم فإن مصر كانت ولا زالت وستظل بعون من الله وفضله بلد الأمن والأمان.. مادام لهذا الوجود من وجود، لأن قول المولى عز وجل مطلق ولا يحده زمان ولا مكان، ولا يقتصر على فترة دون سواها. وليس ذلك الأمن والأمان قاصر فقط على أهل مصر، بل إن مصر كانت أيضا وستظل حصن الأمن والأمان وملاذا للحماية، وواحة للاستقرار، لكل من يفتقد ذلك خارجها، ويطلب أن يلوذ بحماها عندما تعصف رياح الإرهاب والفزع والترويع والحروب والتقلبات والمجاعات والأوبئة بالبلاد التي حولها، مصداقا لقوله تعالى على ألسنة إخوة سيدنا يوسف: "يا أيها العزيز مسّنا وأهلنا الضر، وجئنا ببضاعة مزجاة، فأوف لنا الكيل وتصدق علينا، إن الله يجزى المتصدقين"، وهو ما يؤكد أن مصر كانت تتصدق بما لديها من خيرات على كل من كان يلجأ إليها من جيرانها عندما كانت تلم بهم الملمات. وكما حدث في الماضى ويحدث اليوم وسيحدث في المستقبل، فلازالت الناس من حول مصر يلجئون إليها فرادى وجماعات كلما ضاقت بهم الدينا، وافتقدوا الأمن والأمان في بلادهم، وكانوا أهلا له، فيجدون مصر تفتح لهم أذرعها، تأويهم وتنشر عليهم رداء الأمن والأمان الذي يفتقدونه خارجها وينشدونه داخلها، وهى لا تبغى من وراء ذلك جزاءا ولا شكورا. وما ذلك إلا لأن الحفظ الإلهى لمصر كان ولازال في حكم القدر الإلهى المقدور، حيث يدفع المولى عز وجل عن مصر إرادة السوء التي تراد بها من أعدائها أيا ما كان مكانها وحجمها وخطر القائمين بها. - ولقد روى لنا التاريخ - كما يروى لنا الحاضر - كيف انتشرت الحروب الأهلية والنزاعات والصراعات الدموية التي تزهق فيها أرواح الملايين، وتسال فيها الدماء أنهارا في العديد من بلدان العالم من حول مصر، ليس ذلك فقط، بل إن المجاعات والجفاف والفيضانات والأعاصير.. إلى غير ذلك من الكوارث الغير طبيعية، والتي تعكس صورا من النقم الإلهية، تعصف بالكثير من بلدان العالم، بينما النادر منها - مثل زلزال عام 1992 - يمر بمصر مشمولا بلطف الله ورحمته بهذا البلد الآمن وأهله، ويكون ذلك لحكمة إلهية عظمى يدركها أهلها بعد حين، وكواقع ملموس في حياة مصر عبر تاريخها الطويل. مصر مستودع كنوز الأرض: - ولأن مصر هي المنسوبة لذات الله تعالى، وهى مبعث حضرات رسل الله ومهد الرسالات بدين الله الإسلام، لذلك فقد خصها المولى عز وجل بخاصية عظيمة أخرى، وهى أن جعلها مستودعا لخزائن الأرض جميعا من خيرات وثروات مادية ومعنوية.. يوضح تلك الحقيقة آية قوله تعالى على لسان سيدنا يوسف عليه السلام "إجعلنى على خزائن الأرض إنى حفيظ عليم". ولما كانت الخزائن لا تحوى إلا كل ما هو نفيس وغال، فإننا يمكن أن ندرك المعنى المراد من استخدام هذا التعبير القرآنى في هذه الآية، والتي تعنى أن مصر تحوى كنوز الأرض كلها، بل أفضل وأغلى وأثمن هذه الكنوز.. نجدها في أرضها وفى مائها وسمائها وفى جوها وفى أبنائها، بل وفى تاريخها العريق وحاضرها القائم ومستقبلها المشرق بإذن الله، وفى كل ما يمت لمصر بصلة. هذه حقيقة قرآنية يجب أن نؤمن بها إيمانا كاملا، لا سبيل للشك أو الريبة فيها. - وإذا تدبرنا هذه الآية الكريمة التي جاءت على لسان سيدنا يوسف عليه السلام عندما كان حضرته بمصر، فسوف نجد أن حضرته عند طلب ذلك من ملك مصر، لم يقل إجعلنى على خزائن مصر، بل جاء التعبير القرآنى (خزائن الأرض)، وهو ما يعنى ويدل على أن خزائن الأرض كلها وعلى إطلاقها متواجدة في مصر. - وليس معنى عدم ظهور هذه الثروات والخيرات في أي وقت أنها غير موجودة، بل العكس تماما، فمن واقع هذه الآية يتضح لنا أن هذه الثروات والخيرات والكنوز موجودة، ولكن سبب عدم ظهورها يرجع إلى الإفتقاد في الأخذ بأسباب ظهورها واستخراجها والانتفاع بها، فإذا ما توافرت هذه الأسباب، وكان في مقدمتها أن يكون القائمين على شئون مصر حفظاء عليها، عالمين بأسرارها وبقيمتها، وأمناء عليها - وهو ما يعنيه الحق تبارك وتعالى بقوله (إنى حفيظ عليم) - فلابد أن تظهر كل هذه الكنوز وما تحويه من خيرات وثروات كأمنة في أرض مصر لتكون في متناول كل من يستحقها من أبنائها الخيِّرين. وهو ما يؤكده قوله تعالى: "ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض". - يؤكد هذه الحقيقة العديد من الآيات القرآنية.. منها قوله تعالى حكاية عن فرعون "ونادي فرعون في قومه، قال يا قوم أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون" فإذا حصرنا المعنى بكلمة (نهرًا) في أنه يعنى نهر مياه، فسيتضح لنا أن الآية تتحدث عن أنهار عديدة وليس نهر النيل فقط، وهو ما أثبتته صور الأقمار الصناعية التي اخذت لصحارى مصر الغربية والشرقية، حيث أوضحت أن هناك عددا من الأنهار تجرى في باطن هذه الصحارى بطول أرض مصر، وربما كان نهر النيل أصغرها. كذلك ما نشاهده من تفجر عيون الماء العذب في أماكن كثيرة من الصحارى المصرية، وما تدل عليه آثار مخازن الغلال الضخمة المتواجدة في منطقة الوادى الجديد.. من أن مصر كانت تمد الإمبراطورية الرومانية قديما ودول الشرق والغرب باحتياجاتهم من الغلال، واستمر هذا الأمر حتى بداية الخمسينات حين كانت مصر تتمتع بالاكتفاء الذاتى من الحبوب. هذا في حين أن لفظ (الأنهار) عندما يأتى في القرآن فإنه يعنى ما هو أشمل من المياه، حيث فيوض الأفضال الإلهية كلها سواء فيها المادية أو المعنوية. - ولقد شهد سيدنا عمرو بن العاص حين فتح مصر بهذا الفضل الإلهى لمصر، وذلك في رسالة يصف فيها مصر بعث بها إلى الخليفة سيدنا عمر بن الخطاب، قال فيها "مصر تربة غبراء وشجرة خضراء، يكتنفها جبل أغبر ورمل أعفر، يخط وسطها نيل مبارك الغدوات ميمون الروحات، يجرى بالزيادة والنقصان كجرى الشمس والقمر، له أوان يدر حلابه، ويكثر فيه ذبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا إصلخم عجاجه وتعظمت أمواجه فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المركب وخفاف القوارب، وزوارق النهر كأنهن في المخايل ورق الأصائل، فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته، وطما في درته، فعند ذلك.. يحرثون بطون الأرض ويبذرون فيها الحب، يرجون بذلك النماء من الرب.. فإذا أحدق الرزق وأشرق، سقاه الندى وغذاه من تحته الثرى، فبينما مصر يا أمير المؤمنين درة بيضاء إذا هي زبرجدة خضراء، ثم إذا هي ديباجة رقشاء، ثم إذا هي عنبرة سوداء فتبارك الله الفعال لما يشاء". - وإذا إنتقلنا إلى قوله تعالى على لسان سيدنا موسى عليه السلام "إهبطوا إلى مصر فإن لكم فيها ما سألتم" فسوف نجد خاصية أخرى خصَّ الله تعالى بها مصر، حيث جعلها المولى عز وجل ملجأ وملاذًا لكل من له سؤال في أي أمر مادى أو لامادى فسيجد إجابة سؤاله ومطلبه في مصر، ففى قوله تعالى: "ما سألتم" أي ما سألتم على إطلاقه في أي وقت ستجدونه في مصر. فإذا كان سؤاله عن أي مطلب مادى، فلا غرابة أن يجده في مصر، حيث مستودع خزائن الأرض، وإذا كان سؤاله عن مطلب غير مادى، وهل يوجد مطلب في هذا المجال - بل في الوجود كله - أعظم وأغلى من طلب الهداية؟ فلا شك أنه سيجد إجابة مطلبه أيضا في مصر، أرض ومهد الرسالات بدين الله الحق الإسلام على امتداد تاريخ البشرية. وإذا كان ينشد الأمن والأمان.. فسيجد مطلبه أيضا في مصر التي خصها الله بهذا الفضل. - لذلك قضت إرادة الله أن يحفظ مصر، وأن تظل بمأمن من كل سوء، إذ كرمت على الله حين تأذن بعقاب فرعون وملئه، فلم ينزل عقابه بغير الكافرين والمكذبين برسوله، ولم يأخذ أهلها إلا بما يكون بلاءًا للمؤمنين "بشئ من الخوف الجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات"، وخص فرعون وقومه بما صنعوا "ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون". ولنعتبر ولا نأمن مكر الله - بين ما نزل بمصر، وما حقا بأقوام عاد وثمود وما وقع لسبأ وقوم تُبَّع وأصحاب لوط.. من نقم إلهية لم تبق ولم تذر. - كذلك كانت مصر ومازالت وستظل إن شاء الله حتى يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون. ولو مشينا في مناكبها وبحثنا وعملنا لوجدنا فيها غزيرا من نعماه، وخرج علينا من أرضها كل يوم جديد وفريد، لأنه حكم ربانى وقضاء إلهى يبقى بقاء الزمان، وليس له في الأحقاب والدهور حدود. ففيها من العيون ما يجرى به النيل وغيره من أنهار لم تتكشف بعد، وفيها ما يتفجر تحت أقدامنا من حين لآخر في صحارى مصر، وفيها من الكنوز ما يعلم الله وما يفوق الذهب والنفط والحديد.. ولقد أشارت صور الأقمار الصناعية التي أُخذت لصحارى مصر أن بها من المعادن النفيسة ما لا يوجد إلا على سطح القمر. ومع ذلك فما كانت الأرض لتدر علينا من رزق الله بغير بذل الكادحين وعمل العاملين، وقبل ذلك وبعده، بإيمان المؤمنين. بذلك، وبذلك فقط، مقبلين على أرض مصر غير معرضين يكون لنا فيها المقام الكريم ونعمة نكون فيها فاكهين. - فكيف بعد ذلك يخرج علينا المدَّعون بأن مصر لا تستطيع أن تحقق لنفسها الإكتفاء الذاتى في الغذاء وخلافه؟ وأنها لابد أن تعتمد على المعونات التي تُقَّدم لها من الخارج بزعم أنها تفتقر إلى الثروات والخيرات وأهمها نضوب الماء؟! إن هذه المزاعم والإدعاءات الباطلة إنما هي تكذيب وتشكيك وتطاول على ما ورد ذكره في كتاب الله الكريم، ومغالطة مكشوفة لما أثبتته أحداث التاريخ، بل وواقع اليوم عندما بدأ الفلاحون في مصر تحت ضغط الحاجة أن يزرعوا أراضيهم بالقمح، وإتجهت بعض الهيئات إلى زراعة الصحارى أيضا بالقمح، فأمكن لمصر أن تحقق إكتفاءا ذاتيا فيه بنسبة 60% بعد أن كان لا يزيد عن 20بالمائة في السبعينات والثمانينات، هذا رغم الإعتماد على الموارد المائية المتاحة فقط، ودون استغلال ما تحويه باطن أرض مصر من مياه غزيرة متجددة، فما بالنا إذا نجحنا في استغلال ذلك الإحتياطى الضخم من المياه الجوفية المخزون في باطن أرض مصر، أو حتى جزء منه؟ ما من شك في أن الخير العميم سيكفى حاجة المصريين، بل ويفيض بما يمكن أن يُصدَّر لخارجها، كما تشير آيات القرآن بذلك عندما كانت مصر تتصدق على جيرانها بكل ما يفيض عن حاجتها، عندما تلم بهم المحن والخطوب من مجاعات وقحط وجفاف، كما جاء على لسان أخوة سيدنا يوسف عليه السلام عندما قدموا من فلسطين "مسَّنا وأهلنا الضر، وجئنا ببضاعة مزجاة، فأوف لنا الكيل وتصدق علينا، إن الله يجزى المتصدقين". - وأمام هذه الحقائق القرآنية عن مصر، والتي تؤكد أنها أرض مقدسة، وأنها مستودع لخزائن الأرض، وأنها الملجأ والملاذ لكل صاحب سؤال، وطالما هي مصدر الأمن والأمان.. فماذا يمكن أن يطلب إنسان عاقل لحياته أفضل من التواجد في أرض مصر؟ وهل يجوز أمام كل هذه الأفضال والنعم الإلهية لأبناء مصر أن يهاجروا إلى بلاد أخرى أمام أي عرض طارئ أو عابر سعيا وراء مال أو أمان كاذب؟ ويهجروها لمن؟ إلى أين؟ إن كل مصرى مدرك واع وعاقل، لابد - أمام هذه الحقائق القرآنية - أن يفيق لنفسه ولمعتقداته ولسلوكه تجاه بلده مصر التي شَّرفه الله بالانتساب لها، حتى لا يحرم نفسه من هذه الافضال الإلهية التي خص الله بها مصر وأهلها. وأن يُوجِّه طاقاته وجهده للأخذ بأسباب إستخراج واستغلال كل تلك الكنوز التي حوتها أرض مصر.. عاملا بقوله تعالى: "وقل إعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"، وأن يكون أمينا وحفيظا على ثروات بلده، متأسيا بقول سيدنا رسول الله يوسف عليه السلام "إنى حفيظ عليم". مصر معقل الدفاع عن الإسلام: - من مقتضيات الإيمان الصحيح أن المسلم مطالب بأن يدافع عن دينه ومقدساته وأرضه وحرماته ضد المعتدين، وأن موته دون ذلك يُعد إستشهادا في سبيل الله.. مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم "من مات دون أرضه فهو شهيد، ومن مات دون ماله فهو شهيد، ومن مات دون عرضه فهو شهيد" - وإذا رجعنا إلى أحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يصف فيها مصر بأنها "كنانة الله في أرضه" وأن بها "خير أجناد الأرض" وأنهم "في رباط إلى يوم القيامة".. يتضح لنا حقيقة المهمة المنوط بها أهل مصر في الوقوف على الدوام والاستمرار دفاعا عن دين الله في الأرض، ويتبين لنا أيضا حتمية وشرف الدور الذي يضطلع به أبناؤها في السهر والدفاع عن الإسلام عبر القرون، ففى أي وقت تتعرض فيه بلاد الإسلام ومقدساته لإرادة السوء من قبل أعداء الله، فلابد أنه يظهر بمصر خير أجناد الأرض المدافعين عن دين الله الحق، المرابطين في سبيل الله إلى يوم القيامة. قلوبهم جميعا في وجهة واحدة إلى الحق تبارك وتعالى، يربطهم رباط واحد هو حبل الله المتين، وهو العروة الوثقى التي يتمسكون بها ويعتصمون بها.. فتكون لهم درعا وحماية تدرأ عنهم أي فرقة أو ضعف. - ومن مظاهر الاختصاص الإلهى لمصر ولأهلها أن هيألها المولى عز وجل من الأسباب والظروف ما يعينها على النهوض بهذه المهمة، وأن تكون فعلا كنانة الله في أرضه، وذلك بما توفر لها من أموال وبنين، وما حباها به من جنات وعيون وكنوز وزروع ومقام كريم، فطوَّع لها الإمداد من الجند الكثيف. وقبل كل شئ وبعد كل شئ، فقد جعل المولى عز وجل هذا البلد وأهله محل نظر وحب منه جلَّت قدرته ومن رسله، مصداقا لقوله تعالى (يحبهم ويحبونه)، وبهذا النظر وبذلك الحب، أصبح الحب الفطرى والإرتباط برسل الله تعالى وتبعيتهم.. أمرًا متأصِّلا في قلوب المصريين منذ القدم، وبالتالى أصبحت قلوبهم دائما صالحة لتقبل دين الله ودعوة الرسل للإسلام، وهو ما يعتبر فضل ومنَّة إلهية عظمى منَّ الله بها على شعب مصر. وكما إنعكس ذلك الفضل الإلهى على إيمان المصريين.. حيث لا تجد الإيمان الصحيح في الغالب إلا في قلوبهم، والإسلام هو خلقهم، والفطرة السليمة هي الغالبة على صفات نفوسهم.. فقد إنعكس ذلك أيضا في حبهم للجهاد في سبيل الله، والاستنفار دفاعا عن دينه كلما تعرضت البلاد الإسلامية للمخاطر، وبذل أرواحهم رخيصة في سبيل الزود عن مقدسات المسلمين وحرماتهم.. تلك كانت ولاتزال وستظل سمة أبناء مصر الذين وصفهم سيدنا رسول الله بأنهم خير أجناد الأرض، وهذا حالهم مهما تقلبت بهم الأحوال وإشتدت بهم الخطوب.. حيث نجدهم في أوقات الشدائد والمحن يأخذون بكل الأسباب المتاحة قدر استطاعتهم، ويتركون ما دون ذلك لمسبب الأسباب، ثم يتجهون بالتضرع إلى الله ورسله وأوليائه الكرام، بأن يرفع عنهم وما يصيبهم من غمة، وأن يأخذ بأيديهم إلى النصر على أعدائهم، وهم على يقين من نصر الله تعالى الذي كفل لعباده المؤمنين النصر المبين مصداقا لقوله تعالى "وكان حقا علينا نصر المؤمنين". - لقد صدق رسول الله فيما قدَّر لأهل مصر من مصير.. كفاح لم ينقطع ولن ينقطع مادامت قوى الشر والضلال تضرب في الارض بغرائزها ونزعاتها، تضمر العدواة للإسلام والمسلمين، لذلك كان قدر مصر وأهلها كما قال فيهم حضرته "في رباط إلى يوم القيامة". ولا غرو يكونون لذلك خير أجناد الأرض، وهم مع ما جبلوا عليه من القوة والصبر والدأب، قد إمتازوا كذلك بقوة تهون معها قوة العضل وبأس الحديد.. ألا وهى قوة الإيمان. فإيمان المصرى بربه منذ القدم، هوَّن عليه الموت، فما رآه إلا مجازا إلى حياة الخلود، إيمان أقام في نفسه معتقدا بأنه صائر إلى حياة أبدية وجنات عدن تجرى من تحتها الأنهار.. ثم إيمان بوطنه الذي تخيل فردوس الآخرة على صورته، وإيمان بأن بلاده (أم الدنيا). لذلك فهو يلاقى مصيره في القتال دفاعا عن معتقده ووطنه مقبلا غير مدبر، ولذلك أيضا فهو وآله من قبل في رباط. وصدق رسول الله في قوله "ستجدونهم نعم الأعوان على قتال عدوكم" فما تنزل من محنة يتعرض لها المسلمون إلا كانت مصر صاحبة النصيب الأعظم فيما تحتمله من تلك المحنة، ثم صاحبة السهم الأكبر فيما تبذل لإبلاغهم النجاة والخلاص والنصر. وعندما وصف سيدنا رسول الله أبناء مصر لأصحابه "فإنهم قوة وبلاغ إلى عدوكم بإذن الله"، فسنجد حضرته قد إختار هذا الوصف بأنهم هم القوة، لأن القوة جوهر في ذاتها تتمثل فيهم، وليست صفة عارضة تنسب إليهم يوما وتنفى عنهم في غيره من الأيام، ولقد كان المصريون قوة تفجرت عنها وإنطلقت فيها ما تسامعت به أجيال بعد أجيال. على أن المتأمل لا يحتاج إلى النظر وإمعان الفكر في قوة القوى إذا قضى وأعمل إرادته وقدرته. وإنما تمتحن القوة إذا إعترتها المحن المدلهمة والمصائب الشداد، ولقد عرفت في المصريين القوة بما ركب في طبعهم ورسخ في أعماقهم من قدرة على المقاومة والصمود، وهو قوة بما جلبوا عليه من المصابرة والعناد في الحق.. فلا مبدل لإرادتهم بغير إرادتهم حتى وإن وقع الإكراه من أهل التجبر والطغيان. لذلك فقد كُتب على المصريين بحكم المهمة المناطة بهم من المولى عز وجل ورسوله أن يكونو كما قال حضرته "في رباط إلى يوم القيامة"، أو كما نقول نحن في حالة تأهب واستعداد قصوى دائمة. وقد علمتهم أحداث التاريخ وما ينبغى أن ينسوا أنهم منتصرون ما أقاموا في رباط متأهبين، ممسكين أسلحتهم، وقلوبهم في دوام ذكر لرب العالمين، متمسكين بأخلاق الإسلام ساهرين، أما إن أعرضوا وغرَّتهم الحياة الدنيا ولهتهم عن ذكر ربهم، وتركوا السلاح وأهملوا النضال والكفاح، فإنهم أقلة صاغرون وما ينبغى أن يكونون. وإذا استعرضنا تاريخ مصر منذ القدم وحتى اليوم.. فسوف نجد واقعًا ملموسًا لأحاديث سيدنا سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مصر ودورها في الدفاع عن الإسلام عبر التاريخ والقرون، وكيف أنها كانت مستهدفة دائمًا من أعداء الله، وكيف أن المولى عزوجل هو الذي تكفل بالدفاع عن مصر وحمايتها ودفع السوء عنها، والبطش بأعدائها. ولو تتبعنا تاريخ المعارك التي خاضتها مصر دفاعًا عن الإسلام، فسيتبين لنا أن المصريين خاضوها عندما فُرض القتال عليهم فرضًا.. فرغم أن طبيعة المصريين تؤثر السلام، إلا أنهم يرفضون الإستسلام ورغم أن المصرى معنى في الأساس بصنع الحضارة والبناء والتقدم.. لا نشر الخراب والدمار، فإنه يلجأ إلى حمل السلاح والخروج إلى القتال إذا ما كان ذلك دفاعًا عن دينه ومقدساته وأرضه واستقراره ووحدته، وكان القتال هو الخيار الذي لا بديل عنه، عند ذلك يخوضه المصرى بشجاعه وفدائية لا نظير لها. فقد فرضت عليه الأرض مع سخائها الدأب والمثابرة والكد والكفاح، حيث نشأ المصرى عاملًا بطبعه، منشئًا بفطرته على مدى تاريخه القديم والحديث، من الهرم الأكبر إلى السد العالى، ومن كفاح تحت قيادة أحمس الأول ضد الهكسوس (أواريس) و(شاروهين)، إلى معارك تحتمس في مجدو وترقميش، ومعارك ابنه أمنحتب الثانى في شمش آدوم والأوردنت والنهرين، ثم معارك رمسيس الثانى في قادش ودابور وتونب وحلب، ثم كفاح ضد الصليبيين في حطين والمنصورةودمياط، وضد التتار في عين جالوت، ثم الأتراك والفرنسيين والإنجليز، ومن بعدهم الصهيونيين في أعوام 1948، 1956، 1967، ثم الانتصار العظيم في أكتوبر1973، ولا زال الكفاح والنضال مستمرًا، كفاح للرزق في الأرض، وكفاح العدو من أجل المقدسات والأرض والعرض. تختلف على المصرى الأيام بحلوها ومرها، ولكنه في هذا كله جلد ودؤوب، قوى صبور، فما تغشاه محنّه إلا تغلب عليها وإجتازها وفرض نفسه عليها. ولقد أقبل على مصمر البطالمة فحكموها وحرموا أهلها الجندية.. فلما إضطر قائدهم (فيلو باتور) بعد ذلك إلى تجنيد المصريين، حيث اشتدت عليه وتأزمت الأمور، إذا بهم برغم طول عزلهم عن الجندية يخوضون عام 217 ق.م معركة هائلة في رفح إنتزعوا فيها من السليوكيين النصر المبين، وأثبت المصريون ما في أعماقهم من قوة كأمنة لتطلق ما أتيح له التفجر والإنطلاق. - ولقد كان ولا زال وسيظل حجم العداوة والتآمر على مصر بما يتناسب وضراوة العداوة للإسلام، فلقد أثبتت أحداث التاريخ والواقع المعاصر أن كل من أراد أو يريد النيل من الإسلام، ويحاول ويعمل للقضاء عليه، كان عليه بداهة أن ينال أولًا من مصدر القوة التي تدافع عنه وتحميه، وأن يقوض قلعته وحصنه الحصين، وأن يوجه ضربته إلى عرينه في مصر.. فإذا ما سقطت لا قدر الله تلك القلعة وتهاوى ذلك الحصن ونجح العدو في إختراق العرين، أصبح النيل من الإسلام ذاته أمرًا سهلًا، وهو ما يأباه الله ورسوله لدينه ولكنانته في أرضه. وما محاولات الولاياتالمتحدة اليوم للسيطرة على العالم العربى والإسلامى من خلال تقسيمه عرقيًا وطائفيًا ومذهبيًا في إطار ما أطلق عليه الرئيس الأمريكى جورج بوش عام 2003 " الشرق الأوسط الجديد "، لتتحول دول المنطقة إلى عدة دويلات ضعيفة نتيجة أعمال الفوضى والعنف والإرهاب التي خططت لها المخابرات الأمريكية بموجب أسلوب " الفوضى الخلاقة " الذي ابتدعته وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس في عام 2006، ووسيلتهم في ذلك جماعة الإخوان وحلفائها. وهو ما نجحت في تحقيقه في سوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال.. وكانت أمريكا تنتظر نجاحه في مصر على أيدى الإخوان بعد أن ساعدتهم على القفز للسلطة والحكم عام 2012، حيث اعتبرت أمريكا أن مصر ستكون في هذه الحالة "الجائزة الكبرى" حيث ستتهاوى بعدها سائر الدول العربية والإسلامية. إلا أن الله تعالى الحافظ لكنانته أبى أن ينجح هذا المخطط اللئيم في مصر، فأسقطته في ثورة 30 يونيو بطرد جماعة الإخوان من الحكم وإنهاء دولتهم إلى غير رجعة إن شاء الله، ولقد كان من نتيجة ذلك أن سقطت جماعة الإخوان في دول الخليج ودول المغرب العربى، وكانت بداية النهاية إن شاء الله لجماعة الإخوان وحلفائها في المنطقة كلها. مصر ملاذ ومثوى أهل بيت سيدنا رسول الله وصحابته - وكما شرفت مصر ببعث رسل الله الكرام إليها، فقد شرفت أيضًا بتواجد العديد من أهل بيت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. منهم سيدنا الحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة، والسيدة عائشة، والسيدة رقية، والسيدة فاطمة النبوية، والسيدة عاتكة عمة الرسول، وسيدى على زين العابدين، وسيدى زيد الأبلج، وسيدى محمد الأنور، وغيرهم الكثير ممن شرفت بمجيئهم أرض مصر. ولم يكن ذلك أبدًا محض مصادفة، بل كان مرتبطًا بأهمية أرض مصر وموقعها الرئيسى في الإسلام، والدعوة له وتبليغ رسالته وانتشاره والدفاع عنه، وصلاحية أهلها لتحمل هذه المهام الجسام، ولحب المصريين وتعلقهم بأهل بيت سيدنا رسول الله.. حيث استقبلهم المصريون عندما حلوا بأرض الكنانة بكل الحب والشوق والإعزاز والتعظيم والتكريم، فأحاطوهم بحبهم وتعلقوا بهم، وافتدوهم بأرواحهم، فكانوا ولازالوا منارات للهداية والبركة. - وإذا ما توقفنا أمام الآيات التي تتحدث عن أهل البيت، فسنجدها تحمل الكثير مما يدل على أن حضراتهم مصادر هداية وبركة ورحمة.. منها قوله تعالى " رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد" حيث تدل هذه الآية على بعض خصائص أهل البيت، وتوضح أنهم على رحمة وبركة وحمد من المولى عز وجل. ولما كان قول الحق تبارك وتعالى مطلق لا يحده زمان أو مكان، فإن هذه الآية تعنى أن حضارتهم أينما كانوا، وأينما رحلوا، وأينما حلوا فهم مصادر لهذه الرحمة والبركة والحمد والنجاة لكل من يتعلق بهم ويلوذ بحماهم ويتأسى بهم.. خاصة أهل مصر. وهنا يصدق حديث سيدنا رسول الله صلى لله عليه وسلم " أهل بيتى كسفينة نوح في لجة البحر، من تعلق بهم نجا، ومن تخلف عنها غرق" وليس هذا بالأمر الغريب على أهل بيت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللذين تخلقوا بأخلاق حضرته، والتي يصفها المولى عزوجل في قوله تعالى " وإنك لعلى خلق عظيم"، وقول حضرته "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ومن البديهى أن أول من أتمم لهم حضرته مكارم الأخلاق هم أهل بيته وصحابته المكرمين.. كما تأدب أهل بيت حضرته بآداب الإسلام القويمة التي أدَّب بها المولى عز وجله رسوله، والتي يشير إليها حديثه الشريف: "أدبنى ربى فأحسن تأديبى". لذلك يحضنا المولى عز وجل على دوام مودة أهل بيت سيدنا رسول الله وذلك في قوله تعالى على لسان حضرته: "قل لا أسألكم عليه من أجر إلا المودة في القربى". وأولى القربى بالمودة - بلا أدنى شك أو تردد - هم قربى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. مصادر الرحمة والبركة، وفلك النجاة في هذا الوجود على الدوام والاستمرار، كما تبين ذلك آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة التي يأمرنا المولى عز وجل بتدبرها وتعقلها والعمل بها. ومن ثم فإن هذه الأفضال الإلهية التي إختص بها المولى عز وجل أهل بيت سيدنا رسول الله.. لابد أن تنعكس في كل من يودُّهم ويتقرب منهم ويتوسل بهم ويحبهم ويلوذ بحماهم من المسلمين، فيجنون ثمرته خيرا وبركة ورحمة في حياتهم وآخرتهم. - خاصية أخرى من خصائص أهل بيت سيدنا رسول الله، توضحها آية قوله تعالى: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا" حيث توضح هذه الآية الكريمة أن إرادة المولى عزو جل شاءت أن يذهب عن أهل بيت رسوله كل ألوان وصنوف الرجس، وأن يطهرهم من علائق كل ما يمكن أن يصيب الإنسان من شرور وهواجس الشياطين وأهواء النفس. ومن بديهيات الإيمان أن نؤمن بأن إرادة المولى عز وجل إذا شاءت فهى نافذة لا محالة.. مصداقا لقوله تعالى: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون". ومن ثم يمكننا أن نستنبط أن أهل بيت أي رسول من رسل الله تعالى لهم خصوصية خاصة، فهم ليسوا كأى ناس، كما أن هناك حكمة إلهية من إخبارنا في آيات القرآن بهذه الخصوصية، فهى بجانب كونها تشريف وتكريم لحضرات أهل بيت سيدنا رسول الله، فإن فيها أيضا مقصدا للهداية بالنسبة لعامة المسلمين وخاصتهم، تتمثل في أن كل من يودُّهم ويتعلق بهم ويتأسى ويقتدى بهم، ينال من هذا الفضل الإلهى الذي أسبغه المولى عز وجل على أهل بيت الرسول. - ولم يقتصر تشريف المولى عز وجل لمصر بأن جعل أرضها موطئا لأقدام رسل الله وأهل بيت سيدنا رسول الله فقط، بل حظاها أيضا بمقدم العديد من صحابة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين تربوا أيضا على عين عناية حضرته، وكانوا على الدوام والاستمرار نجوما للهداية ومنارات للتأسى والاقتداء، والذين على أيديهم وأكتافهم انتشر نور الإسلام في بقاع الأرض، وبفضلهم قامت الحضارة الإسلامية العظيمة في ربوع الأرض، والتي لا يزال الشرق والغرب حتى اليوم يقتات على فتات موائدها، كما يعترف بذلك علماؤهم ومؤرخوهم. يوضح تلك الحقيقة الحديث الشريف "أصحابى كالنجوم، بأيهم إقتديتم إهتديتم"، وهو ما يعنيه الحق تبارك وتعالى في قوله "وبالنجم هم يهتدون". من هؤلاء الصحابة المكرمين الذي شرفت بمجيئهم أرض مصر، وكانت مقرا ومثوى لهم.. الصحابى الجليل حسان بن ثابت (مقره في حدائق القبة)، والصحابى الجليل القعقاع بن عمرو التميمى (المنزلة)، ولذلك سميت ب(منزلة القعقاع)، وكانت له صولات وجولات شهيرة في الفتوحات الإسلامية.. ومنها فتح مصر، حتى سمى ب"الرجل الجيش". هذه الخصوصية ليست قاصرة فقط على حضراتهم، بل تنسحب أيضا على كل من يقتدى بهم، ويهتدى بهديهم.. خاصة من أبناء مصر. فلقد بلغ هؤلاء الصحابة المكرمين الذين حظوا بشرف المعية لحضرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والارتباط الكامل بحضرته أعظم درجات الكمال، حتى أصبحت حياتهم كلها أسوة طيبة لكل مسلم.. سواء في جهادهم ضد الكفار، أو في تعاملهم مع المؤمنين، أو عبادتهم لله، وهو ما يعنيه الحق تبارك وتعالى في قوله: "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعًا سجدًا يبتغون فضلا من الله ورضوانا". لذلك حذرنا سيدنا رسول الله من الخوض في سيرة حضراتهم بما لا نعلم، وبما يسئ لهم وذلك في الحديث الشريف "إذا ذكرت أصحابى فأمسكوا". وهناك من الأحاديث الشريفة وقصص صحابة رسل الله، ما يوضح أن حضراتهم كانوا دائما وسيلة المؤمنين إلى الله تعالى ليكشف ما كان يحل بهم من بلاء.. سواء أفرادا أو جماعات... - فأين هذه الحقائق القرآنية العظمى التي تكشف عنها العديد من الآيات القرآنية من تلك المقولات الهابطة والساقطة التي يتقَّول بها المكذبون والمتخرصون من أئمة الفكر المتطرف في مصر وغيرها من البلاد الإسلامية، ويردُّدونها من آن لآخر بلا أدنى حياء أو أدب، والتي يزعمون فيها أن زيارة أهل بيت سيدنا رسول الله هو نوع من الشرك بالله؟! بل نجد للاسف بعض من يسمون برجال الدين في مصر وغيرها في البلاد الإسلامية يدعو إلى هدم أضرحة حضراتهم حتى لا يؤمها المسلمون المتبركون بهم.. إلى هذا الحد من الحقد والكراهية لأهل بيت سيدنا رسول الله وصل الحال بهؤلاء الضالين المضللين، عمى البصيرة، غُلف القلوب وغُلاَّظها!! ألم يدركوا خطورة تحذير سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن من يؤذى أهل بيته وصحابته، والذي يقول فيه: "الله الله في أصحابى، لا تتخذوهم غرضا من بعدى.. من أحبهم فبحبى أحبهم، ومن أبغضهم فقد أبغضنى، ومن آذاهم فقد آذانى، ومن آذانى فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه". كذلك الحديث القدسى: "من عاد لى وليا فقد آذنته بالحرب" فإذا كان هذا شأن من يعادى أولياء الله الصالحين، فكيف الحال مع من يعادى أهل بيت سيدنا رسول الله وصحابته؟! وإذا أردنا أن نناقش بعقلانية مجردة تلك المزاعم المأفوكة التي يدعونها بأن زيارة أضرحة أهل البيت هو نوع من الشرك.. فسوف نجد ملايين المصريين عبر القرون يزورون أضرحة سيدنا الحسين والسيدة زينب وغيرهما من أهل البيت، فما سمعنا مصريا يُشرك بالله ويؤله - حاشا لله - سيدنا الحسين أو السيدة زينب، بل إن المصرى أو المصرية.. يأتى أهل البيت ليتبرك بهم باعتبارهم وسيلته إلى الله تعالى، لمكانتهم العزيزة وقرب منزلتهم من الله ورسوله، وإعمالا لقوله تعالى "إتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة". ولا شك أن الوسيلة ليست هي العمل الصالح كما يزعم البعض، ذلك أن العمل الصالح هو أحد مظاهر تقوى الله، أما الوسيلة فهى التي يعنيها الحق تبارك وتعالى في قوله "أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة"، وقوله تعالى "إتقوا الله وكونوا مع الصادقين" فلماذا يأمرنا المولى عز وجل بأن نكون مع الصادقين في الأمة بعد أن نتقى الله؟ لاشك أن هناك حكمة إلهية من ذلك، حيث تحفظ صحبة الصادقين في الأمة على المسلم تقواه، وإلا لما نصَّ الله على هذه الصحبة كأمر إلهى، بعد تقوى الله، وليس هناك من هم أصدق وأحق بالصحبة من أهل بيت رسول الله وصحابته. وهناك العديد من الآيات القرآنية التي توضح أن أهل بيت أي من رسل الله تعالى.. هم محل إصطفاء إلهى، منها قوله تعالى "إن الله اصطفى آدم ونوح وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين" وقوله تعالى في شأن أم سيدنا عيسى عليه السلام "وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين" لذلك يأمرنا المولى عز وجل بأن نتخذ من أهل بيت رسل الله تعالى وصحابته على الدوام والاستمرار.. مصادر للتأسى والاقتداء، مصداقا لقوله تعالى في شان أهل بيت سيدنا إبراهيم عليه السلام "لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه". فهل بعد كل تلك الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة قاطعة الدلالة وقاطعة الثبوت.. يمكن أن يدعى مُدعِّ بأن زيارة أهل بيت رسول الله وصحابته هو نوع من الشرك؟! "كبُرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا". - وإذا إنتقلنا إلى معتقد المصريين وسلوكهم إزاء أهل البيت، فسوف نجد الظاهرة التي تقتصر - أو تكاد - على الحياة الدينية في مصر، وهى التوافق بين إنتماء الغالبية العظمى من أبناء مصر إلى مذهب السنة، وحبهم المتحمس في الوقت ذاته لآل البيت. وهى ظاهرة تغيب عن معظم الأقطار الإسلامية، ولعل النقيض هو الواقع الذي تحياه تلك الأقطار. فالشيعة في إيران وغيرها من الأقطار التي تضم أغلبية شيعية، يضعون إطارا محددا حول السلالة المحمدية يتمثل في السيدة فاطمة وسيدنا على بن أبى طالب وأولاده، ولا يتصورون داخل هذا الإطار شخصية أخرى، مهما سما قدرها. ولكن منذ بدايات الفتنة الكبرى وما تلاها، كان موقف المصريين واضحا في مناصرة أهل البيت، ذلك الموقف الذي تأكد عندما إستقبلت مصر بعد مأساة كربلاء العديد من آل البيت، وأصبح لهم مساجدهم المشهورة في القاهرة بأسمائهم. - فبعد فاجعة كربلاء، عادت السيدة زينب إلى المدينةالمنورة، ومعها سيدات أهل البيت، والوحيد الذي بقى من صلب سيدنا الحسين: على زين العابدين. لكن الأمويين أشفقوا على أنفسهم من بقاء السيدة زينب في المدينة وطالبوها بأن تختار مقاما آخر غير المدينة ومكة، بدعوى (حتى لا تظل تحت الرماد شبه نار) فإختارت حضرتها بلا تردد أن ترحل إلى مصر، وماكان ذلك إلا بسبب توصية سيدنا رسول الله بمصر وأهلها، وعاطفتهم التي لم تعرف التخاذل أو التردد في حب آل البيت.. حيث أعلن المصريون محبتهم وتعاطفهم مع آل البيت، وجاهروا برفض كل المؤامرات التي حبكت ضدهم. كانت السيدة زينب على يقين تام من أن المصريين لابد أن يحسنوا إستقبالها، وعندما قابلها المصريون بالمواكب الهائلة التي أحاطت بها لما شارفت أرض مصر عند مدينة بلبيس بالشرقية، راحت تردد في إيمان وغبطة: "هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون". ولقد عبَّر المصريون عن محبتهم الدافقة للسيدة زينب بتسميات عديدة.. فهى (أم هاشم) نسبة إلى جدها هاشم، وهى (أم العواجز) لأن دارها كانت مقصد الضعفاء والغلابة والمظلومين، وهى (أم العزائم) لأنها كانت ذات عزيمة في طاعة الله وتقواه، وهى (رئيسة الديوان).. وتسميات أخرى كثيرة. وكانت السيدة زينب هي أول الوافدين من آل البيت إلى مصر، ثم قدم البعض بعد ذلك حبا، والبعض شهيدا، وظل المصريون على حبهم المعلن للسلالة الطاهرة، ولم يكن ذلك غريبا عليهم.. ألم يوصى سيدنا رسول الله أبناء أمته بهم خيرا؟. - وحين قدمت السيدة نفيسة، بنت سيدى حسن الأنور في 25 رمضان 193 هجرية، كان الألوف من أبناء مصر - رجالا ونساء - في إستقبالها عند العريش بالهوادج والمصاحف المرفوعة والتهليل والتكبير، ولقد عانت السيدة نفيسة طيلة إقامتها في مصر من المحبين لآل البيت، المتلمسين البركة، الطالبين الشفاعة، كانوا يفدون من المدن والقرى، فلا تكاد تخلو لنفسها لحظة واحدة. ويقال أنه بعد انتقال حضرتها إلى جوار ربها قرر زوجها أن ينقل جثمانها الطاهر إلى المدينة لتدفن فيها، فتظاهر المصريون معلنين رفضهم ذلك، وطالبوا الوالى بالتدخل، وكان أن رأى زوجها رؤية يطلب منه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدفن السيدة نفيسة في القاهرة، وقد كان.. الأمر الذي أراح قلوب المصريين المحبين لها. - لقد أحب المصريون سيدنا رسول الله وآل بيته، وأعلنوا هذا الحب وحرصوا عليه، لكنهم رفضوا أن يضم هذا الحب أي إطار من أي نوع، أو أن تكون المذهبية بالتحديد هي الجسر الذي يصلهم بآل البيت، إنه حب دافق خالص للرسول وآل بيته. وإذا كان للشيعة إجتهاداتهم التي تتحدد في إطار المذهبية وهذا شأنهم، إلا أن أهل السُنَّة في مصر يجدون في تلك الإجتهادات تجاوزًا تغيب عنه الكثير من الحقائق القرآنية.. خاصة فيما يتعلق بصحابة سيدنا رسول الله، الذين ينالون من المصريين كل حب وتوقير. لذلك فإن حب المصريين لآل البيت يجد بدايته قبل العهد الفاطمى - الذي ينتمى إلى الشيعة - بمئات السنين، وليس مع قدوم الفاطميين لمصر كما يدعى البعض. - ولقد إنعكس حب المصريين لرسول الله وآل بيته وصحابته في دوام زيارة أضرحتهم والتبرك بهم، وفى الاحتفالات الواسعة التي تقام في موالدهم، والتي لا تقتصر على أبناء الحى أو المدينة، بل إن افواج المصريين تتوافد على مقاماتهم من كل أنحاء مصر.. من أقصى الدنيا، ومن أقصى الصعيد، المشارك فيها الموسرين والفقراء على السواء تبركا بالمناسبة، وحبا في صاحبها. كما يسمون أولادهم بأسماء سيدنا رسول الله (محمد) وأهل البيت (زينب، خديجة، نفيسة، فاطمة) وصحابة سيدنا رسول الله (أبو بكر، وعمر، وعلى، وعثمان) و(عبد النبى) و(حسن وحسين ومصطفى). - وهنا نكرر صدق المقولة المعروفة (مصر المحروسة).. فهى محروسة فعلا بعناية الله ورسوله، ومحروسة أيضا بآل بيت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته المكرمين الذين آثروا أن يكون مقامهم ومثواهم في أرض مصر.. بشفاعتهم وبركتهم نالت مصر وتنال الحماية. وإذا كانت مصر قد جاوزت في تاريخها وعلى توالى العصور عشرات المحن، فما ذلك إلا لأنها مباركة بوجود أهل البيت وصحابة سيدنا رسول الله، وأوليائه الصالحين والتابعين، ويعد عامة المصريين زيارة ضرائحهم واجبا دينيا في انتقالهم من مدنهم وقراهم إلى مدن وقرى أخرى بها مقامات حضراتهم، وبركة يحرص الزائر على إلتماسها لنفسه وأهله ولكل أبناء الإسلام. مصر مقصد أولياء الله الصالحين - وكما كانت مصر ملاذ ومئوى أهل بيت سيدنا رسول الله وصحابته الكرام، فقد كانت أيضًا مقصدًا لأولياء الله الصالحين، وهم الذين يخبرنا عنهم المولى عزوجل في قوله تعالى: " إلا أن آولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون". وباستعراضنا الفترات الزمنية المواكبة للحروب المصيرية التي خاضتها الآمة الإسلامية بقيادة مصر ضد أعدائها.. خصوصًا عندما كانت تشتد الهجمات العقائدية ضد المسلمين عامة والمصريين خاصة، فسنجد المولى عزوجل يهئ لمصر من أوليائه الصالحين من يتصدى بكلمة الحق لهذه الهجمات العقائدية، ليكشف بطلانها، ويبطل فعاليتها في نفوس المسلمين، ويشعل روح الجهاد في قلوبهم، ويشحذ الهمم في تعبئة واستنفار قوى المسلمين المادية والمعنوية من أجل الدفاع عن ديارالإسلام ومقدساته.. جرى ذلك على يد سيدى أحمد البدوى عندما واجه المصريون الصليبيين في دمياطوالمنصورة، وتكرر نفس الأمر عندما تصدت مصر للهجمة التترية الشرسة.. وكان ذلك أيضا على يد سيدى أبو الحسن الشاذلى وسيدى المرسي أبو العباس وسيدى إبراهيم الدسوقى، وسيدى العز بن عبد السلام.. ومعظمهم مُجدِّدون وورثة لكتاب الله وهم من يعنيهم المولى عز وجل بقوله: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن لله، ذلك هو الفضل الكبير، جنات عدن يدخلونها" ويدلنا قوله تعالى "ثم أورثنا الكتاب" دلالة واضحة أن هؤلاء العباد الذين أورثهم الله تعالى كتابه، فأدركوا ما به من أسرار بحكم هذه الوراثة، هم خاصة عباده المؤمنين الذين إصطفاهم المولى عز وجل بحكم كونهم أهلًا لهذا الإصطفاء بسبب مجاهدتهم في طريق الطاعة للمولى عزوجل. ولهذا كان هؤلاء الورثه هم هداة الأمة ومرشدوها على مدى القرون بعد انتقال خاتم الانبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم، كما تتأكد أيضًا حقيقة وجودهم من قوله تعالى "قل هذه سبيلى أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن إتبعنى" حيث تدل هذه الآية على دوام وجود التبعية المحمدية التي تدعو إلى الله على بصيرة منه، وهم ورثة كتاب الله في الآمة الإسلامية. وهناك العديد من الآيات القرآنية الأخرى التي تثبت هذه الحقيقة، إضافة إلى الأحاديث الشريفة التي تؤكد هذا الأمر.. مثل قوله صلى الله عليه وسلم "يبعث الله على رأس كل مائة سنة رجلًا من أمتى يجدد لها أمر دينها" فهذا الحديث يثبت دوام وجود المُجدِّد الذي يبعثه الله على رأس كل مائة سنة ليقوم بتجديد أمر الدين وإزالة ما شاب العقيدة من معتقدات فاسدة، ومفاهيم خاطئة، وبدع باطلة ذلك بحكم وراثته لعلم الكتاب فضلًا عن تزكية النفوس وتطهير القلوب لتكون صالحة لعبادة المولى عزوجل حق العباده، بعد خاتم الأنبياء والمرسلين، مصداقا لقوله تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمه، وإن كانوا من قبل لفى ضلال مبين، وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم". كذلك فإن الوراث يملك القدرة على إيضاح الآيات القرآنية بما تدركه عقول أبناء العصر الذي يعيش فيه، مؤكدًا أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان على حكم قوله تعالى: "لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون" ولهذا يكون له دور خاص في تجديد المفهوم الدينى واستنباط الحلول القرآنية لكل القضايا في عصره. هكذا كان سادتنا ورثة كتاب الله الذين تشرفنا بذكر أسمائهم إبان تصدى مصر للحملات الصليبية والتترية، وكذلك كان دورهم الذي تحدثنا عنه الآيات القرآنية.. من حيث العمل على جمع الآمة الإسلامية وتوحيدها، وحماية أبناءها من الفرقة والتشتت والخلافات الفكرية التي تعصف بها وتؤدى إلى تفككها وضعفها، وذلك بحكم ما وهبهم الله من فرقان إلهى يفرقون به بين الحق والباطل، مدللين على ذلك بالآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة التي تقطع الطريق أمام المفاهيم الخاطئة والآباطيل المدسوسة التي تؤدى إلى الخلاف والفرقة والشقاق ليسود التضامن والاخاء بين المسلمين، ولينعموا بالوحدة والقوة كثمرة طبيعية للفكر الإسلامى الصائب المستمد من آيات القرآن والأحاديث الصحيصة المتفقة معه. هذا بالإضافة لكون ورثة كتاب الله يعملون على تجديد الفكر الإسلامى، ومحاربة الدعوة إلى الجمود العقلى الذي يشيع في الآمة ويؤدى بها إلى التخلف كثمرة للتسليم الأعمى بلا تدبر أو تفكر لكل ما ترثه الأمة من مفاهيم دينية خاطئة وباطلة. لذلك يعمد ورثة كتاب الله إلى دعوة المسلمين لإعمال العقل والتفكر والتدبر عملًا بقوله تعالى "أفلا يتدبرون"، "أفلا يتعقلون" حتى يوجه المسلمون عقولهم إلى التدبر في آيات القرآن، ويخرجوا عن دائرة الجمود والتخلف الفكرى الذي أصبح اليوم وللأسف سمة من سمات المسلمين. ثم يأتى ورثة كتاب الله لإحياء روح النهضة الإسلامية في النفوس، ليدفعوا بالأمة إلى الأخذ بكل أسباب العمل والتقدم والترقى في كل مجالات حياتها، وترك كل صور التواكل والتراخى والتكاسل. - وقد عمد أعداء الآمة الإسلامية وعلى رأسهم اليهود إلى محاولة طمس وإخفاء وجود خط الوراثة والتجديد، وتشويه تلك الحقيقة، حتى لا تكون سببًا في إحياء الحضارة الإسلامية مرة أخرى. لذلك لم يكن غريبًا أن يصرح بن جوريون مؤسس دولة إسرائيل عندما سُئل عما إذا كان يخشى من تواجد دولة إسرائيلية صغيره في وسط محيط واسع من أعدائها العرب، فكان رده "ليس هذا ما أخشاه.. إن أخشى ما أخشاه أن يظهر محمد جديد في أمة العرب". أي أن كل ما يخافه ويخشاه بن جوريون.. ليس الحجم الضخم للعرب، وما يملكونه من ثروات، بل بعث المجدد المحمدى الذي ينهض بحالة هؤلاء المسلمين من مواتهم، ويبعث فيهم الروح والحياة مرة أخرى، كما فعل سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنا. - ولما كان أعداء الإسلام يدركون أيضًا حقيقة وجود ارتباط دائم ووثيق بين الإسلام ومصر، وأنها كانت ولازالت حلقة هامة في دوام رسالة الإسلام وبقائه على مدى الزمان، وذلك من حيث استمرار بعث المجدد المحمدى على أرضها.. سواء من بين أبنائها، أو مجئ من ليس من أبنائها إلى أرض مصر لتكون مقرًا لرسالته ودعوته (كما جاء سيدى أحمد البدوى من المغرب، وسيدى أبو الحسن الشاذلى من الجزائر). لذلك كان ولازال على رأس أهدافهم من غزو مصر سواء فكريًا أو عسكريًا محاولة القضاء على هذا البعث المحمدى، وبالتالى قتل روح الإسلام في المصريين. ومن السهل أن نستنتج ذلك من حقيقة حرص أعداءا لإسلام عبر التاريخ على غزو مصر بالذات رغم وجود بلدان كثيرة حولهم ذات خيرات وفيرة وأراض شاسعة.. تركوها واتجهوا إلى مصر، ومن هنا يمكننا أن نفهم سر اهتمام أعداء الإسلام بمصر، وحجم التآمر والعداوة والشر المراد لها، لأنها عداوة تتناسب مع ضراوة معاداتهم للإسلام. - وهكذا.. وعلى الدوام والاستمرار يهئ المولى عز وجل لمصر من أبنائها من يتصدى لمؤامرات إفساد العقيدة على المسلمين، الذين آتاهم الله نور الفرقان على أيدى رسل الله وورثة كتابه، فيكشفوا بطلان وزيف دعاوى الشر، وذلك بإظهار كلمات الحق التي يقذفونها على الباطل فيدمغوه فإذا هو زاهق، ويعيدوا المسلمين إلى نور الإسلام والإيمان الصحيح. ومن ثم يمكننا أن ندرك حجم وقدر التشريف والتكليف الواقع على كاهل أبناء مصر من قبل الحق تبارك وتعالى ورسوله دفاعًا عن الإسلام، ليس فقط أرضًا وناسًا وثروة ومقدسات، بل أيضًا معتقدًا ودينًا وإيمانًا. ولا غرو بعد ذلك في أن يصفهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم "خير أجناد الأرض، وأنهم في رباط إلى يوم القيامة"، وأن يكون المصريون دوما عند مراد المولى عز وجل ورسوله منهم، قادرين على الإضطلاع بالتكاليف الإلهية المنوط بهم النهوض بها، وذلك بفضل التمكين والحماية الإلهية التي أسبغها الله ورسوله عليهم، وبما وقر في قلوبهم من إيمان وتقوى وحب فطرى جُبلوا عليه لله ورسوله، وبما فطرت عليه نفوسهم من حرص على الجهاد في سبيل الله، وإستعدادًا للشهادة في سبيل ذلك. زعامة مصر للعرب والمسلمين - لقد أثبتت أحاديث سيدنا رسول لله صلى الله عليه وسلم عن مصر والتي سبق الإشارة إليها أن هناك صلات قوية ربطت وتربط وستظل تربط مصر بالعرب والمسلمين، والتي تؤكد أن مصر منهم بمثابة القلب النابض على الدوام والاستمرار. فلم يكن المصرى قصى العرق من العربى في غابر الأعوام ولا حاضر الأيام، فلقد شهدت العصور الأولى من فجر التاريخ شعوبًا وبطونًا عربية تنطلق من قلب الجزيرة العربية إلى مواقع الخصب والاستقرار.. فمنهم من إستقر في أرض ما بين النهرين (العراق) فكانوا من أصول العراقيين، ومنهم من إستقر في أرض الشام فكانوا من أصول السوريين واللبنانيين، وغيرهم عبروا سيناء إلى أرض مصر على ضفاف النيل اختلطوا بالمصريين ليصبحوا منهم، ولازالت ذرياتهم حتى اليوم يعرفون أصول أنسابهم العربية في مدن شرق الدلتا وفى الفيوم وفى صعيد مصر. - وعندما أذن المولى عزوجل بفتح مصر تحت راية الإسلام، إذا بمصر بمن فيها أصلًا من ذرية تبعية رسل الله الذين وردوها قديمًا وبمن تغلغل فيها من العرب، وأقبل عليها من أنصار القرآن.. تنصهر بصهرهم وتصبح عربية صريحة بقلبها ولسانها، وإذا بها تنقاد لقدرها المقدور من قبل الحق تبارك وتعالى فتكون الإمام والزعيم للأمة العربية. - على أن زعامة مصر لم تكن فريسة غصبتها، ولا غنيمة إفترصتها من دون الآخرى، بل كانت أمرًا منطقيًا تتداعى إليه وقائع الأحداث والتاريخ، كأنها حقائق العلوم وأفلاك النجوم. لذلك كانت وتكون في تلك الرقعة من الأرض الزعيم، بل وصانعة الزعماء، ثم تكون وأهلها كما روى عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم الأعوان. ولئن كان صلاح الدين الأيوبى (الكردى الأصل) زعيمًا وبطلًا في العرب والمسلمين، فما كان لزعامته أن تستقيم ويحكم زنادها بغير مصر. وما كان لمحمد على أن يبلغ بمصر ما بلغ من شأن في أوائل القرب الماضى بغير مصر. ومن قبله أدرك المعز لدين الله الفاطمى من عرشه في المغرب إلا غناء فيما أراد لنفسه ولدولته عن مصر، ولقد كان قوله في خطبته عند انفاذه جوهر الصقلى لفتح مصر قولًا عن بصيرة وتقدير وتدبير إذ قال: "ولسوف يفتح جوهر مصر، ويبنى هناك مدينة تقهر الدنيا" وقد فتحها وأنشأ "القاهرة". - ومع ذلك فلم تكن تلك الزعامة إدعاءًا منها فرضته أو إدعته على خلاف المنطق من الوقائع والأحداث وهو ما يثبت قدراتها ويؤكد أهليتها لهذه الزعامة. وحسبها من ذلك أن يرشحها لذلك الأعداء ويقرّوا لها به فيما صدر عنهم من أفعال لمصلحتهم.. فلقد أدرك الصليبيون أن لا مستقر لهم في الشرق باستقرار مصر، ولا نصر لهم يحقق مطامعهم وفى مصر عرق ينبض بالمقاومة والصراع، فلم يبالوا أن تتحول حملاتهم عما خرجت له من بيت المقدس إلى مصر، لأنهم أدركوا أن لا مناص لهم من تحطيم الرأس والقضاء على الروح المحركة والقوة الدافعة المتمثلة في أهلها، وهو ما تكرر مع التتار.. فكانت الهزائم من نصيب هؤلاء وهؤلاء، والنصر لمصر وأبناءها بحكم القدر الإلهى المقدر لها. - بل لقد ظل إقرار الأعداء بتلك الزعامة لمصر، وإستشعارهم ما في طاقتها من قدرة قائمًا.. حتى في عصور ضعفها ومحنها، وإضطرارها إلى الاستكانة حينا لحك غاصب دخيل، فما خضعت مصر لسلطان أجنبى إلا وضع لحكمه نظاما متميزًا تخيل به أنه يمكن أن يحول بين مصر وبين التحلل من قيوده والتحرر منه أولًا، ويحول بينها وبين الامتداد إلى جيرانها العرب بالعون والتأييد ثانيًا. كذلك فعل الرومان، وكذلك فعل الأتراك من آل عثمان، وفعلته أيضًا القوى الآوروبية عندما رأت في مصر إبان فترة حكم محمد على لها.. قوة إقليمية عظمى بازغة وفاعلة في منطقة الشرق الأوسط تهدد مصالحها. فمع ما أنجزه محمد على من إصلاحات في داخل مصر على إختلاف ميادينها السياسية والزراعية والمائية والصناعية والتعليمية، فقد نجح أيضًا في بناء قوة عسكرية عصرية مرهوبة الجانب، تبز أقوى جيوش وأساطيل أوربا تسليحًا وتدريبًا وتنظيمًا ومهارة في القتال، أقام بها محمد على إمبراطورية مصرية متنامية الأطراف إمتدت من البلقان شمالًا إلى الشلال الرابع جنوبًا، ومن الشام والجزيرة العربية شرقًا إلى إقليم برقة في ليبيا غربًا.. حيث خاض الجيش المصرى معارك في السودان ما بين أعوام 1820 1831، وفى الجزيرة العربية ما بين عام 1812 1815 وفى اليونان عام 1822، وفى آسيا الصغرى عام 1832.. حقق خلالها انتصارات مؤزرة جعلت نفوذ مصر يترامى من أفريقيا الاستوائية جنوبًا إلى أبواب القسطنطينية وجبال طوروس شمالًا، وهو ما يؤكد على قدرة الجيش المصرى على احتراف العسكرية بكل أبعادها ومقاييسها. - وما كانت هذه الانتصارات العظيمة التي أحرزتها مصر لترضى عنها القوى الأوربية المناؤئة لها، فإتحدت كلمتهم رغم ما بينهم من عداوات على ضرورة تقليص نفوذ مصرفى المنطقة، وتحجيم قوتها، فجمعوا أساطيلهم البحرية لتدمير الأسطول المصرى في معركة نفارين المشهورة، مما أدى إلى إنحصار نفوذ مصر داخلها وفى السودان فقط. وهو ما يؤكد على حقيقة هامة أثبتت الأحداث التاريخية ووقائع اليوم صدقها، وهى أن أعداء الإسلام والعروبة يرون في مصر دائمًا مصدر الخطرو التهديد على أهدافهم ومخططاتهم لضرب الإسلام والعروبة، فحيثما تنهض مصر من كل كبوة تلم بها، وتستعيد قواها الشاملة، تبدأ المؤامرات من قبل أعدائها في الخارج وفى الداخل تحاك ضدها لتعرقل مسيرة نهضتها وتقدمها، وتدفعها للتقوقع على نفسها لتداوى جراحةا في الداخل. ولكن هيهات هيهات.. فمهما طال الآمد أو بعدت الشقة، ومهما حاول المتآمرون والخائنون من إحباك مخططاتهم ضد مصر، فلن يستطيع إنسان كائن من كان، أو أي قوة على ظهر الأرض مهما عظمت، أن تعرقل قدر الله المقدور في شأن مصر، أو أن تعطل مسيرتها التي أرادها لها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. - فرغم المحن التي آلمت بمصر خلال النصف الآول من هذا القرن عندما إحتلها البريطانيون بفعل المؤامرات التي حبكت ضدها إبان حكم إسماعيل باشا وشق قناة السويس، وسيطرة القوى الأوربية على الخزينة المصرية أولًا، ثم هزيمة جيش عرابى بفعل الخيانة ثانيًا، ومحاولات إقحام مصر في الحروب العالمية الأولى والثانية.. فإن مصر لم تتخل عن نجدة عرب فلسطين عندما أرادت الصهيونية العالمية بتأييد من قوى الإستعمار العالمى عقب الحرب العالمية الثانية عام 1945 أن تنشأ لليهود دولة إسرائيل في فلسطين على حساب أهلها، ولتكون شوكه دائمة في جانب مصر الشرقى، فتصدت مصر لهذه الغزوة الصهيونية الشرسة سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا طوال نصف قرن، خاضت خلاله أربعة حروب ضروس.. قدمت فيهم من الشهداء ما قدر بمئات الآلاف، وضحت من اقتصادها وقوت أهلها ما يقدر بمئات المليارات من الدولارات.. فما بخلت ولا تقاعست ولا أحجمت، حتى بعد أن تعرضت لغدر الغادرين وتآمر المتآمرين وخيانة الخائنيين من بعض من يسمون أنفسهم بالإشقاء العرب. - وعندما بدأت حرب التحرير الجزائرية في أواخر الخمسينات، قدمت مصر كل العون والدعم السياسي والعسكري والمالى لثوار الجزائر حتى تحررت من المحتل الفرنسى، فلم يبعد بنا العهد عام 1956 بمن قال من ساسة فرنسا يومئذ "إن معركة الجزائر إنما تقاتل في القاهرة" تلك هي حقيقة الحقائق لا ريب فيها ولا مراء، والتي أقر بها أحد زعماء العرب حين قال "صلاح العرب بصلاح مصر.. إذا استقامت أمور مصر أستقاموا، وإن أصابها لاقدر الله المعوج أضلوا الطريق". - لقد ظلت مصر وستظل من العرب بمثابة القلب والمقتل من الجسم لمن أرادهم بمكروه، من أصابها أصابهم، ومن عزلها عنهم فكأنما عزل الرأس عن الجسم وشل مراكز الأعصاب فيه. وإذا كان أعداء الإسلام والعروبة من قوى الغرب والصهيونية تدبر ذلك وتخطط له لتقيم حاجزًا بعزل مصر عن شقيقاتها العربيات، فهو أمر ليس بغريب عليهم، وتعلمه مصر يقينًا وتتحسب له جيدًا، أما أن تأتى الطعنة والغدر والخيانة والتآمر من بعض من يطلقون على أنفسهم الأشقاء العرب، فهو ما يدمى قلوب المصريين ويثير لوعتهم. إلا أن الله الذي قدر بأن يقصم كل من يبدى نية الإساءة لمصر.. بالغ أمره لا محالة. - وحسب مصر، وقد اختلطت بالعقول والأحاسيس والمشاعر، أن يقول بها على لسان شاعرها حافظ إبراهيم: أنا إن قدر الإله مماتى ما رمانى رام وراح سليما أنا تاج العلاء في مفرق الشرق لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى من قديم عناية الله ذخرى ودُرَّاته فرائط عقدى - وقد لقيت مصر ما لقيت بحكم ما احتملت من كفالة فرضها الله ورسوله عليها تكريمًا وتشريفًا وتعظيمًا، وبحكم ما جبلت عليه من خلقها وخليقتها.. شهامة والتزامًا في سبيل الإسلام والعروبة، وإدراكًا ووعيًا منا بأنها بالنسبة لغيرها من البلاد الإسلامية والعربية.. كمثل الجسد إذا إشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. الخاتمة: - إن مصر هي أعظم وطن يشرف كل مسلم بالانتماء إليه ويلوذ به المسلمون من أجل حماية الإسلام ومقدساته وحرمات المسلمين، ومصر هي أيضًا أقدم وطن عرفته البشرية وقامت على أرضه أعظم الحضارات وخرجت منها دعوة الهداية على أيدى رسل الله الذين شرفت بهم هذه الأرض الطيبه. فكان الإنتماء إلى مصر في كل وقت شرف لا يداينه شرف.. ومن ثم فإن حب مصر ومساندتها في مواقفها في حماية الإسلام ومقدساته يصبح حكمًا (بما أنزل الله). وكل من يعمل على بث الفوضى والعنف في جنباتها، والوهن والاضطراب في صفوف جيش مصر إنما يصرفه عن مهمته المقدسة والمقدرة له في الدفاع عن الإسلام ومقدساته إنما يحكم (بغير ما أنزل الله)، بل هو في حكم من يصد عن سبيل الله. حفظ الله مصر من شرور أعدائها في الداخل والخارج وحقدهم، فالله خير حافظًا.. "وسيعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون".