الترحيب الحذر للمعارضة بمبادرة الرئيس لتعديل الدستور لا يجهض أهميتها العملية وكونها نقلة تاريخية في العمل السياسي الداخلي، أما الخطوة نفسها فهي بلا شك ورغم الشكوك سوف يكون لها آثارها السياسية والاجتماعية والاقتصادية بعضها قد نراه سريعا والآخر سوف نلمسه خلال السنوات وهذه طبيعة الأشياء، وفي كل الأحوال فإن توجه الرئيس نحو إلغاء نهج الاستفتاء في اختيار رئيس الجمهورية والذي دام لنصف قرن سوف يحسب له تاريخيا وسوف يعالج قصورا كان بالغ الاحراج في ممارسة العمل السياسي كما أنه سيدعم مصداقية الحكم والسلطة في مصر. وفي الانتخابات القادمة لا نري منافسا حقيقيا يمكن أن يعادل الرئيس مبارك إذا استقر علي ترشيح نفسه في ظل التعديل، غير أن التعديل يفتح آفاقا واسعة لتطوير العملية السياسية تتجاوز بكثير طريقة اختيار الرئيس وهذا هو الأكثر أهمية حيث إن الانتخاب سوف يقتضي وجود برامج سياسية يتبناها المرشحون للإصلاح في مختلف المجالات قد تخلصنا من قيود كثيرة تكبل العمل السياسي الراهن وذلك إذا ما وافق الشعب في انتخابات حرة ومتعددة علي نهج الاصلاح الذي تعرضه البرامج الانتخابية للمرشحين لأن الشعب في هذه الحالة سوف يتحمل مسئولية اختياره وما يتبعها من إجراءات وإذا شئنا الصراحة فإن الرئيس مبارك بظروف نشأته وانتمائه مقيد بمنظومة سياسية وفكرية تستند إلي مبادئ ثورة يوليو التي قامت قبل 53 عاما في ظروف محلية واقليمية ودولية مختلفة تمام الاختلاف عن الأوضاع الراهنة والرجل في محاولاته التواؤم مع هذه الأوضاع الجديدة سعي بحكمة وبقدر الطاقة للسير بمشروع التنمية وتطويره دون المساس بجوهر المبادئ أو المكتسبات التي حققتها ثورة يوليو ونظام يوليو للشعب. غير أن الموضوعية تقتضي القول إنه خلال مسيرة العمل السياسي خلال العقدين الماضيين وفي ظل تطورات دولية سياسية واقتصادية فرضت سلسلة من التحديات يقتضي بعضها مراجعة مبادئ ثورة يوليو وأفكارها. وإذا شئنا المضي في الصراحة نقول إن قضايا مثل القطاع العام ومجانية التعليم ونسبة الخمسين في المائة للعمال والفلاحين في المجالس النيابية ثم طبيعة الدور الاقليمي لمصر وعلاقة السلطة بالعالم الخارجي في ظل القطبية الواحدة كلها موضوعات شائكة وتتطلب مراجعة لما يسمي بمكتسبات يوليو في ضوء المتغيرات الكثيرة التي طرأت علي المنطقة والعالم. وبرغم أن البعض قد يختلف إلا أن القراءة الموضوعية لنهج الرئيس مبارك خلال العقدين الماضيين تشير بوضوح إلي أن الرجل سعي للتعامل مع هذه المعضلات الفكرية والسياسية دون المساس بجوهر مكتسبات يوليو وحتي الآن فإن القطاع العام موجود ويساهم بنسبة لا بأس بها في الناتج المحلي وكذلك استمر مفهوم الدعم رغم آثاره السلبية علي الاصلاح الاقتصادي ويضاف إلي ذلك مفهوم المجانية في التعليم رغم تفاقم البطالة وتدهور العملية التعليمية لأسباب بعضها يعود إلي نقص الموارد بسبب المجانية نفسها وغيرها كثير من المعضلات التي تعامل معها الرئيس بنهج اصلاحي يلتزم التزاما مطلقا بما يطلق عليه مكتسبات يوليو. وربما يفسر هذا قول الرئيس في أحد تصريحاته عن برنامجه الانتخابي إن برنامجه هو عمله وقد انتقد البعض هذا التصريح رغم أنه يلخص بدقة فكر الرئيس وتوجهاته وهذا في ذاته برنامج انتخابي وإن كان الاعلام الرسمي قصر في شرحه. وفي ظل التعددية التي يسمح بها التعديل الدستوري فإنه علي الآخرين الذين سيقررون خوض الانتخابات أن يتقدموا ببرامج جديدة ومختلفة تعالج مشكلات الوطن وهنا لن ينفع القول بأن الإسلام هو الحل أو الاشتراكية كفاية وعدل أودعه يعمل دعه يمر بل لابد أن تتضمن برامج المرشحين ومن وراءهم من قوي بدائل تقنع الناس تتصدي بفكر مختلف لقضايا الاستثمار الأجنبي والبطالة ومجانية التعليم والموقف من القطاع العام والدعم والخمسين في المائة الشهير فضلا عن حق الفصل والموقف من الولاياتالمتحدة في عالم اليوم وغيرها من القضايا الشائكة التي تعامل معها الرئيس علي أرضية اقتناعه بمكتسبات يوليو وباعتباره ممثلا لها نعرف أن الممارسات الانتخابية تكتنفها المزايدات وربما هذا ثمن يتعين دفعه لممارسة الديمقراطية غير أنه من غير المقبول أن يظهر برنامج انتخابي لواحد من الناس يتحدث في عموميات الأمور أو يقدم نفسه بديلا لتطبيق أفكار يوليو لأن هذا من حق الحزب الوطني ومن يمثله أما بعد ذلك فلتنطلق الأفكار وتتعدد الاجتهادات الموضوعية لتطرح بدائل عما هو قائم في العمل التنفيذي وليكن صندوق الانتخابات بعد ذلك هو الحكم ويختار الناس والاختيار هنا سوف يكون أما الانتظام في منظومة يوليو الوسطية بمكتسباتها المعروفة أو العبور إلي نهج جديد يمينا أو يسارا محدد الملامح ومعروفة أعباءه وهنا سيقرر الشعب ويتحمل تبعات اختياره من بين أهم نتائج خطوة مبارك باتجاه تعديل نظام الانتخاب هو ايقاظ الأغلبية الصامتة وتحفيزها علي العمل والمشاركة في تقرير أمورها لأن الموقف جد وبكل موضوعية فإن هذا التنشيط للأغلبية ونفض السلبية عنها لم تستطع قوي المعارضة الوصول إليه وتحقيقه رغم محاولاتها لسنوات وإذا ما نجح التعديل الدستوري في إعادة الناس للعمل السياسي فإن هذا الانجاز سيحسب للرئيس ويكتب له.