أصبح من ثوابت "الثقافة" المصرية أن الوزير الذي "يغادر" كرسي السلطة سرعان ما ينزوي في دائرة النسيان وتنحسر عنه الأضواء وينفض عنه "الأصدقاء" الذين كانوا يحرقون له البخور بالأمس القريب ويتكالبون علي التودد إليه والتقرب منه والتزلف له بمناسبة ودون مناسبة. وعلي الأرجح فإن العيب ليس فقط في هذه النوعية الرديئة والانتهازية من البشر، وإنما العيب أيضا علي ما يبدو في "تعاقب" السلطة وليس "تداولها"، حيث تلد الحكومات بعضها البعض من نفس "النادي"، وحيث يأتي الوزير ويذهب دون أن يكون للناس رأي في الاستعانة به أو الاستغناء عن خدماته، وحيث لا "يترك" أحد كرسي السلطة وإنما "يزاح" عنه بعد أن يكون قد التصق به سنوات طوال في أغلب الأحيان. وما عليكم سوي أن تحاولوا تذكر أسماء الوزراء الذين خرجوا من دست الحكم بعد أن قضوا فيه سنوات أطول من ليل المريض.. وستجدون أن معظم هذه الأسماء قد فقدت بريقها الذي كانت تستمده فقط من المصابيح المسلطة علي كراسي الجاه والسلطان. لكن لكل قاعدة استثناء.. والدكتور حسين كامل بهاء الدين من هذه الاستثناءات النادرة فرغم أن الرجل خرج في التعديل الوزاري الأخير.. فإن عددا من كبار المثقفين المصريين حرص علي تكريمه. وجاء التكريم فريدا واستثنائيا هو الآخر. ولعلها هي المرة الأولي التي يتم فيها تكريم وزير تحت كوبري! لكن هذا ما حدث.. حيث رفض الدكتور بهاء الدين أن يجري تكريمه في جهة رسمية أو في أحد فنادق الخمس نجوم وكان الحل في "ساقية الصاوي" التي تقع أسفل كوبري 6 أكتوبر بالزمالك. في هذا المكان البسيط - الذي ربما يرفض صغار كبار الموظفين الجلوس فيه - استقبل وزير التربية والتعليم السابق المثقفين الذين جاءوا ليحتفلوا به بعد خروجه من الحكومة. قال الدكتور يحيي الجمل أستاذ القانون المرموق والوزير السابق إن حسين كامل بهاء الدين يتميز بثلاث سمات: الجدية، وعفة اللسان وعفة اليد. وهي تبدو خصالا عادية لكنها أصبحت عزيزة في هذا الزمن الوغد. نقيب نقباء الصحفيين، شيخنا وعمنا كامل زهيري، صال وجال - كعادته - في الزمان والمكان وعقد مقارنات بين حسين كامل بهاء الدين وبين طه حسين، ثم كشف النقاب عن وقائع غير معروفة عن وزير التربية والتعليم السابق، من بينها دوره في الكفاح الوطني ضد العدوان الثلاثي عام ،1956 حيث شارك في المقاومة الشعبية في بورسعيد. أستاذ الأدب العربي الدكتور حسين نصار أعاد إلي الأذهان دور الدكتور بهاء الدين، إبان دمج التربية والتعليم مع التعليم العالي، ودفاعه عن استمرار الأستاذ الجامعي في العمل بعد سن الستين. وهو الأمر الذي تم تقييده بعد ذلك بالقانون 82 الذي أطلق عليه البعض اسم مذبحة الأساتذة، علي غرار مذبحة الصحفيين والقضاة في الستينيات والسبعينيات. االعالم الكبير الدكتور أحمد مستجير.. أشاد بكتاب الوزير "في مفترق الطرق" وقال إنه بعد أن فرغ من قراءته كتب عنه مقالا ضافيا لكنه وضعه في الأدراج (وأحجم عن نشره خشية من مظنة نفاق الوزير) أضاف أن الدكتور بهاء الدين اتصل به أثناء تأليفه للكتاب لتوثيق فقرة متعلقة بالوراثة وهذا في رأيه سلوك غير مألوف للوزراء الذين يتصرفون وكأنهم الأعلم بكل شيء. الكاتبة المتألقة اقبال بركة اعترفت بأنه يصعب عليها حب أحد ومع ذلك فإنها وقعت في حب الدكتور حسين كامل بهاء الدين، وقالت إنه يكفيه دوره المتقدم في الدفاع عن مساواة البنات مع الأولاد في شتي المراحل التعليمية، وموقفه المستنير فيما يتعلق بقضية الحجاب، وهو موقف كان الوزير فيه سباقا علي فرنسا بجلال قدرها. الدكتور أحمد مرسي امتدح الوزير بالشكوي منه إليه.. لأنه هو الذي أقنعه بالعودة إلي مصر بعد أن كان قد قرر الاقامة خارجها وتلبية عروض عمل مغرية في أوروبا! الأديب يوسف القعيد أسهب في الحديث عن تفرد حسين كامل بهاء الدين بكونه من الوزراء "السياسيين" وأنه صاحب أيديولوجيا ذات أبعاد اجتماعية وسياسية تتمثل في انحيازه للفقراء، والحفاظ علي السلام الاجتماعي، وهذا يفسر موقفه الحاد من "الدروس الخصوصية" باعتبارها احدي المخاطر التي تهدد تماسك المجتمع، كما تتمثل هذه الايديولوجيا في ايمانه العميق بالوحدة الوطنية وقيمة المواطنة بصرف النظر عن الدين أو العقيدة، فضلا عن ايمانه العميق بعروبة مصر ورفض التبعية لقوي الهيمنة. واختتم الأديب يوسف العقيد كلمته بالاشارة إلي أنه لم يكن من باب الصدفة في رأيه أن يكون خروج الدكتور حسين كامل بهاء الدين من الحكومة بمثابة اشارة البدء لخصخصة التعليم. الدكتور مدحت الجيار.. قال إن إصلاح التعليم في مصر شهد مرحلتين أساسيتين الأولي في القرن التاسع عشر والثانية في القرن العشرين وكل مرحلة قامت علي أكتاف اثنين من الرواد المصريين المرحلة الأولي هي مرحلة رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك والثانية هي مرحلة طه حسين وكامل حسين بهاء الدين!