كان لأحد السلاطين سبعة أبناء. استشعر أكبرهم شغفا للسفر. لم يفصح عن الشعور الذي دفعه الي تحمل عبء المجهول بتنوع معاناته, لكنه حسم أمره, وطلب الي أبيه الإذن بالسفر. وافق الأب دون تفحص مغزي احتجاب ابنه بالسفر أو معرفة وجهته, ومدته. تري هل لأن الأب قد علمته خبرته أن الإنسان قد يمضي الي جهات متعددة, لكن يبقي احتمال عودته هو الأمل؟ منح الأب لابنه سفينة. وطعاما. ومالا. أبحر الابن حتي وصل الي جزيرة, فهبط متجولا في ربوعها, فاكتشف ازدهار أشجار الفاكهة بكثافة واضحة, فراح في أثناء سيره يقطف ثمارا من هذه الفاكهة ويأكلها, لكنه لاحظ أنه عندما كان يلفظ بذور تلك الفاكهة من فمه, وما إن تلمس الأرض, إذ بتلك البذور من فورها تصبح نباتات جديدة تحمل ثمارا ناضجة لتلك الفاكهة, متحررة من عبء الزمن المفروض لنموها ونضجها. بالطبع دهش الشاب من استحالة معقولية ما يجري أمامه مخالفا لكل الثوابت, فأسرع بالاستحواذ علي كميات من تلك الفاكهة أودعها سفينته, إذ يبدو أن إغراء الرغبة في الاستحواذ علي الفاكهة العجيبة, عطل لدي الشاب الانتباه الي الظاهرة, والتفكير في تساؤلات عن الشروط العامة والخاصة التي يستوجب حضورها استمرار هذا النضج السريع الذي لا يخضع لجبر الثوابت. تري هل تخطي الشاب تلك التساؤلات تحت ضغوط اللهفة والحرص علي اقتناء الفاكهة لما تمنحه له من عائد, لم ينله من قبل, ولن يناله سواه؟ أبحر الشاب حتي وصل الي جزيرة أخري. وكان أسير انبهاره بالمعجزة التي عثر عليها, لذلك فإنه عندما مثل أمام سلطان الجزيرة, لم يفرط في وصفها, بل أكد رغبته في عرض الفاكهة المعجزة أمام السلطان, إذ رهانه هو المشهد وفعاليته. أدرك السلطان أن ما يطرحه الشاب هو أقصي مساحة اللامعقول المبعد عن التفكير, لكن السلطان التزم بالإجراءات التي تكشف ألاعيب هذا اللامعقول وتفضحه, بأن سمح للشاب أن يتحمل عبء البينة, فأباح له عرض تلك الفاكهة العجيبة دونما جنوح للمصادرة علي ما يدعيه, رغم عدم قناعته, لكنه اشترط علي الشاب إيداعه السجن عقابا له, إذا ما جاء المشهد مغايرا, بما يثبت عبثه, وتوهمه المختلق. أحضر الشاب الفاكهة, وأخذ يأكلها, ويرمي بذورها علي الأرض, منتظرا أن تنبثق ناضجة ثمارها. لكن تبدي المشهد المتاح رؤيته للجميع, أن البذور بقيت علي الأرض منطفئة الوجود, دون أن تتجسد ثمارا واقعية فورية كما أعلن الشاب, الذي أصابه المشهد بالخذلان, وقاده الي الضياع, إذ وفقا لشرط الاتفاق, أرسله السلطان الي السجن لغياب البينة عي ما ادعاه. لا شك أن الشاب في محبسه راح يسائل نفسه عن السر الخفي, الذي أوقعه في مستقبل مرعب ومضاد لما كان يتوقعه. تري هل لأن منطق الفحص, والتحقق من ظاهرة تلك الفاكهة, واستيعاب شروط فورية استدامة إنتاجها, قد تهافت أمام جاذبية إغواء استباحتها, وأنانية الاستحواذ عليها لاستثمارها السريع, تجاهلا لمعادلة أن استحقاق النجاح يتطلب العمل بتغطية معرفية تحمي من مآزق أية تقلبات مقبلة؟ انقطعت أخبار الشاب, وأقلق ذلك إخوته, فذهب أكبرهم الي الأب, طالبا أن يمنحه سفينة, وطعاما, ومالا ليبحث عن أخيه, فمنحه الأب ماطلب. أبحر الشاب, فوصل الي نفس الجزيرة التي تنبت الفاكهة العجيبة, وبدوره أكل منها, وألقي بذورها, فوجدها عند ملامستها الأرض تنمو ثمارا ناضجة. بالطبع دهش. وكما فعل أخوه, وانطلاقا من الفكر المغلق الذي لا يرتكز علي أية مهارة, سوي الاستحواذ الفوري علي الشيء المميز بهدف استثماره, دون محاولة المعرفة والاستيعاب سواء بالسؤال أو بالاختبار والتجربة عما إذا كانت ثمة شروط ظرفية يحكم حضورها استدامة تلك الظاهرة, ويمتنع في غيابها استمرارها, إذ بالشاب لم ينتبه الي ذلك تماما كما فعل أخوه وراح يجمع سلالا من تلك الفاكهة, حملها علي سفينته مبحرا. تري هل رغبة الاستحواذ شتت انتباهه عن طرح التساؤلات الصحيحة والمناسبة؟ عندما وصل الشاب الي الجزيرة التي لا يعلم أن شقيقه مسجون بها, راهن أيضا علي لقاء السلطان الذي كان شرطه للقائه, أن السجن سيكون مصيره إذا عجز عن إبراز البينة علي ما يدعيه. وفي مشهد الإثبات, إذ بالفاكهة لا تنمو, فأجهضت حلمه, وأصبح نزيل سجنه. وواحدا بعد الآخر أبحر الإخوة كلهم باستثناء الأصغر بحثا عن الآخرين, عبر رحلات متعددة, لكنها متماثلة, متطابقة في الوقائع والسلوك والاستجابات كافة, ابتداء من التعرف علي الفاكهة العجيبة, وانتهاء بالسجن. ذهب الابن الأصغر الي أبيه السلطان, فحصل منه علي سفينة, حملها بالحبوب, والأرز, والماشية ثم أبحر بها حتي وصل الي جزيرة مملوءة بالطيور, لكنه انتبه الي أنها تتضور جوعا لنقص الغذاء, وبفورية مطلقة, باشر تلبية احتياجها الملح, بأن أنزل الحبوب من سفينته, وقدمها الي الطيور الجائعة. أمام دلالة فعله, أعطي سلطان الطيور للشاب قطعة بخور, طالبا إليه الاحتفاظ بها حتي الوقت الذي يكون في حاجة الي مساعدتها, وحينها عليه أن يحرق البخور, ولحظتها سوف تشم الطيور رائحة البخور وتأتي لعونه. واصل الشاب رحلته حتي بلغ جزيرة أخري اكتشف أنها مملوءة بالذباب, لكنه انتبه الي انسحاق الذباب أمام جوعه, وغدا الجوع, والعجز, وعدم وجود ما يؤكل, مشهدا ليس بالمستطاع تصوره, عندئذ أسرع الشاب بذبح ماشيته, ورمي بها الي الذباب. واعترافا بما فعل, تقدم سلطان الذباب الي الشاب, وأعطاه قطعة من البخور, موصيا إياه بحرقها عندما يكون في حاجة الي المساعدة, لحظتها سوف يشم الذباب رائحته, ويحضر للمساعدة. تابع الشاب إبحاره, فوصل الي جزيرة ثالثة, يسكنها الجن, وانتبه الي معاناة الجن من الجوع, وأنه ليس هناك من طعام بالجزيرة. استنفر مشهد الجوع الشاب واستنهضه الي إنزال الأرز من سفينته طعامالهم. وتقديرا لمبادرته, تقدم سلطان الجن الي الشاب وأعطاه قطعة من البخور, وطلب إليه حرقها عندما يكون في حاجة الي المساعدة. أبحر الشاب, فبلغ جزيرة الفاكهة التي سبق أن عثر عليها اخوته, وعندما تعرف الشاب علي خصوصية هذه الفاكهة, وعجز عن إدراك سرها, جمع بعضها, وحملها الي شريك للمعاينة والتساؤل والمعرفة, لذا عاد أدراجه الي جزيرة الجن.فأخبره سلطان الجن أن بذور هذه الفاكهة لا تتحقق سرعة استمرار نموها إلا في تربة خاصة, ونصحه إذا أراد أن يعرض هذه المعجزة علي غرباء, عليه أن يأخذ من تربة هذه الجزيرة, ويلقي عليها بذورها, لذلك ملأ الشاب سفينته من تراب الجزيرة, وتابع رحلته حتي وصل الي الجزيرة التي لم يكن يعلم أن اخوته سجناء بها. قابل سلطانها, وحكي له عما يحمله من فاكهة عجيبة, فأبلغه السلطان أن هناك ستة رجال في السجن, لأنهم فشلوا في إثبات صحة ادعائهم عن هذه الفاكهة, وحذره أن مصيره سيكون كمصيرهم إن فشل مثلهم, وأعلمه أنه في الغد سوف يشهد بينة ما يدعيه. في الليل نشر الشاب في كل مكان التربة الخاصة التي أحضرها معه. وفي الصباح, وأمام السلطان وحكمائه, أكل الشاب الفاكهة, وألقي بذورها علي الأرض, فإذا بها من فورها تنمو وتنضج ثمارها. دهش السلطان, والحاشية, وشعب الجزيرة, وأكلوا جميعا منها, وألقوا بالبذور علي الأرض, فازدهرت الجزيرة كلها بالفاكهة السحرية. أراد الشاب أن يستثمر نجاحه, فطلب الي السلطان الزواج بابنته التي سمع عن جمالها, لا شك أن السلطان كان يدرك أن أمر الفاكهة يعد كشفا يثير, لكنه لا يشير الي اتساع قدرات عامة واعية لدي الشاب, دلالة عن الإدراك العام في كيفية إدارة الحياة, لذا فرض عليه ثلاث مهام, طالبه بحلها, فإن نجح تزوج الأميرة, وإن فشل سيموت. تبدت المهمة الأولي في تسلم الشاب كيسا كبيرا به خليط من كل أنواع الحبوب, وطالبه السلطان بفصل كل نوع منها علي حدة. اعتزل الشاب في غرفته, وحرق البخور الذي حمله من جزيرة الطيور, التي حضرت فملأت الفضاء, وهبط سلطانهم الي الشاب الذي أخبره بمطلب السلطان, ومن فوره أمر طيوره بالتقاط الحبوب وفرزها بمناقيرها. بعد معاينة السلطان لنجاح المهمة الأولي, كلف الشاب بمهمته الثانية, بأن يقطع بضربة واحدة من سيفه جذع إحدي أقوي الأشجار وأضخمها في الجزيرة. توجه الشاب الي غرفته, وحرق البخور الذي يحمله من جزيرة الجان, ظهر سلطان الجان, وسمع من الشاب, وفي لمح البصر أحضر نملا أبيض بأعداد ضخمة, راح ينخر في جذع الشجرة, تاركا القشرة فقط. وفي حضور السلطان وحاشيته, سدد الشاب ضربة قوية بسيفه الي الشجرة فانشقت نصفين, عندئذ أخبر السلطان الشاب بمهمته الثالثة, بأنه في صباح الغد, سوف تمر كل عذاري الجزيرة أمامه, بمن فيهن الأميرة, وعليه أن يتعرف إليها, فإذا ما نجح سوف يتزوجها, وإن فشل سوف يقتل في الحال. دخل الشاب الي غرفته, وحرق البخور الذي حمله معه من جزيرة الذباب, فهبط سلطان الذباب الي الشاب, واستمع إليه, ثم شرح له مسارات توجيه, وتعيين مصادر بث المعلومات وضخها, وذلك بأنه سيكون أمامه عندما تمر عزاري المدينة, وعليه أن يراقبه, إذ لحظة أن تقترب الأميرة, سوف يطلق صوتا طنانا, وعند اقترابها من الشاب سوف يحط علي كتفها, عندئذ عليه أن يأخذها دون إرجاء. وأمام موكب العذاري, تحقق للشاب بالفعل انتصاره, حين أخذ بذراع الأميرة, وتزوجها, وأطلق سراح اخوته الستة. لكن تظل المقارنة بينه وبينهم هي أصل هذه الحكاية الإفريقية الخرافية, التي بعنوان الاختيارات الثلاثة, إحدي الحكايا التي اختارها عالم الفلكلور الأمريكي روجر إبراهامز في كتابه الصادر1983. إن الحكاية تتضمن بدائل استعارية متعددة, إذ الفاكهة المتوالدة سريعا بديل استعاري لضرورة تسريع توالد الخير العام كي يسود المجتمع, وتعد الأميرة بديلا استعاريا عن الحياة الجديرة بالعيش, حيث يسعي الشاب الأصغر لاستحقاقها, فتجلي مهر هذا الاستحقاق في حتمية إنجاز المهام الثلاث, بوصفها بديلا استعاريا لقيم هي: العمل, والقوة, والمعرفة التي لا ينجزها إلا كائن منفتح خارج حدوده علي شبكة علاقات, لا يعفي نفسه من مسئولياته تجاهها. صحيح أن هذه العلاقات قد حررته من مآزقه, لكن الصحيح أيضا أنه أحسن الاختيار في كل مهمة لمن يصلح لها. إن الإخوة الستة الذين سجنوا, إنما يمثلون بديلا استعاريا للثقافة المهيمنة, التي تسعي للاستحواذ ويحكمها تفكير أناني منغلق, يجرف حدود القيم. أما الأخ الأصغر فيناقض تلك الثقافة المهيمنة, بوصفه بديلا استعاريا لقيمة الانتباه للاخر ورعايته, وهو ما تجلي مجسدا في تلك الصورة المشرقة بحس العدالة في استجاباته التي فرضت إيجابياتها علي سلبيات حياة نوعيات الكائنات المغايرة التي قابلها. صحيح أن هذه الحكاية تعزز الحس الإنساني للعدالة, باستنهاض الانتباه للآخر وحقوقه, وصحيح أيضا أنها بالتوازي مع ذلك تؤكد ضرورة أنه لابد للعدالة أن تحميها رقابة صارمة, تصون الخير العام, وتحقق الإنصاف والاستحقاق علي المستويين الفردي والاجتماعي, لكن تري أليس صحيحا أن الحكاية صياغة لطموح إنساني متجدد, قناعته أن العدالة هي القيمة المركزية لتوازن المجتمع واستقراره المزيد من مقالات د.فوزي فهمي