يهرول البعض للحصول على جنسية مزدوجة، حتى لو كان يعيش مستقرا بمصر، بحثا عن الأمان أو الحصانة، وخوفا من غد مجهول. هل أصبح جواز السفر من دولة أجنبية يكفل الحماية للمواطنين المصريين فى مصر؟ تساؤل يطرحه على الشاشة فيلم «عسل اسود» بشكل كوميدى، ولكنه طرح فى الواقع بشدة فى أعقاب حادثة خالد سعيد الشاب السكندرى الذى لقى حتفه مؤخرا فى ظروف ملتبسة. القصة أثارت لغطا كثيرا ولكن البعد الآخر الذى تناولته بعض الصحف هو أن خالد يحمل الجنسية الأمريكية فقد نشرت مثلا جريدة «البشاير» الإلكترونية فى 13 يونيو الماضى: «قامت الدنيا ولم تقعد.. مظاهرات وتنديد محلى ودولى، ما السر فى كل هذا التصعيد فى قضية قتل لم يحسمها القضاء وتحدث كثيرا فى مصر. السر كشفه عم الشاب فى برنامج (من قلب مصر): خالد أمريكى، معه جرين كارد وأيضا أمه وأخوه!» وهو الأمر الذى دفع الولاياتالمتحدةالأمريكية لاستصدار بيان تعرب فيه عن قلقها حيال الأوضاع الحقوقية فى مصر. ومثل هذا الكلام يحمل فى طياته نوعا من التمييز الصارخ ويفرض تساؤلا آخر: هل لو لم يكن خالد أمريكيا بحسب ما تردد لم تكن هذه القضية لتأخذ كل هذا الاهتمام وكأن دم المواطن المصرى أصبح مباحا؟ هل وجود جنسية أخرى إضافة للمصرية تعتبر سندا ضروريا و«طاقة القدر» للكثيرين؟ يوسف (34 سنة) يعمل صحفيا فى مؤسسة قومية بعقد مؤقت. يحمل جواز سفر إحدى دول الاتحاد الأوروبى، ويعيش فى مصر منذ نحو 15 سنة، وعلى الرغم من أن من حقه حاليا الحصول على جنسية والدته المصرية وبالتالى الحصول على وظيفة ثابتة فى المؤسسة التى يعمل بها فإنه يرفض كل ذلك. وقد قرر الاستغناء عن هذه الميزات لأنه يعتقد أنه يعيش أفضل من المصريين سواء عند دخوله البلاد أو عند معاملته كخبير أجنبى فى عمله فيحصل على أجر أعلى من نظرائه المصريين، ويفسر أيضا: «لاحظت أن سفارتى تكون أكثر إيجابية عندما يكون الفرد أوروبيا خالصا، ولكن عندما يكون معه الجنسية المصرية تتركه يتصرف مع مؤسسات بلده على أساس أن الرعايا الآخرين أولى بالرعاية». قد تكون ورقة «الجنسية المشتركة» من الحقائق التى استشعرها مبكرا بعض النشطاء السياسيين. داليا (30 سنة) مترجمة وناشطة سياسية تؤكد أن جواز سفرها الأوروبى كانت تستخدمه عندما يقبض عليها فى المظاهرات خوفا من بطش رجال الشرطة، خصوصا بعد أحداث يوم الأربعاء الأسود عام 2005 الذى تصاعد فيه العنف ضد ثلاث من الصحفيات المصريات ومزقت ملابسهن أثناء قيامهن بتغطية تظاهرات استفتاء الرئاسة الأخير. مها، صحفية مصرية، تشاركها الرأى موضحة: «كنت اصطحب إحدى زميلاتى الفرنسيات لتغطية الحملة الانتخابية لأحد مرشحى الحزب الوطنى ومنافسه من جماعة الإخوان فى الدائرة نفسها. كانت الأمور تسير على ما يرام عندما كان مرشح الوطنى يقابل الجماهير. لكن تغير الوضع عندما جاء مرشح الإخوان وزاد الجمع على عشرة أفراد، وجدنا قوات الشرطة تهرول وراءنا. لما كانت ملامح صديقتى أجنبية لم يقترب منها أحد وكأنها قلعة حصينة ممنوع الاقتراب منها. أما أنا فلم أجد بدا من الهرولة والاختباء فى أحد المنازل، ظللت أرتجف وأترقب الشرطة من فتحة الشباك تماما مثل مشهد عمر الشريف فى فيلم (فى بيتنا رجل). لكن المفارقة أنه كان يناضل الاحتلال أما أنا فأجرى خوفا لأننى مصرية!» يذكرنا الوضع فى مصر الآن بما كان يحدث فى عهد الخديو توفيق قبيل الاحتلال البريطانى، على حد تعبير الدكتور جمال حميد، الباحث فى التاريخ المصرى. فقد كان الأجانب يحظون بنوع من الامتيازات الخاصة بل كانت لهم محاكم مختلطة لفض منازعاتهم، وكانت هذه المحاكم تمثل تمييزا صارخا ضد أبناء البلاد. هذا الشعور بتميز الأجنبى حتى فى الوطن الأم هو ما يجعل الكثير من المصريين خصوصا من أبناء الطبقات الثرية يسعون وراء حلم الجنسية الغربية، فدولة مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية تطرح قرابة 55 ألف فرصة هجرة سنويا على مستوى العالم، طبقا لأرقام إدارة الهجرة التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية. ونظرا لأن الطلبات المقدمة قد تصل إلى 82 ألفا فقد يلجأ البعض لوسائل أخرى من أجل أن تطأ قدمه بلاد العم سام تمهيدا للحصول على الجنسية الأمريكية التى أصبحت تفتح باب الجنة. كرسى ما بعد الولادة هند مثلا تستعد حاليا لمشروع قد يغير مجرى حياتها، فهى لم تتورع أن تركب الطائرة فى شهرها السابع كى تذهب للولايات المتحدةالأمريكية وتضع مولودها هناك، فهذا الأخير بحكم محل مولده قد ينقذ أسرتها المكونة من أربعة أفراد. مشروع هند تمت دراسته جيدا، لم تترك شيئا للمصادفة، فقبل أن تشرع فى الحمل قامت بجولة على المستشفيات الأمريكية كى تتعرف على تكاليف عملية الإنجاب التى قد تصل إلى 55 ألف جنيه مصرى، قامت هند بتدبيرها من خلال «جمعية» مع زملاء العمل. قامت أيضا بدراسة مستفيضة للقوانين الأمريكية الخاصة بمنح الجنسية. وخلال شهور الحمل عكفت على استخراج كل الأوراق المطلوبة ومستلزمات المواطن الأمريكى القادم. وتروى: «كرسى السيارة مثلا الذى سوف اصطحب فيها وليدى يجب أن يراعى شروطا معينة، لو لم تتوافر قد لا أتمكن من تسلم الطفل! إجراءات طويلة لا تنم عن شىء سوى احترامهم للإنسان القادم للحياة والذى سوف يحمل جنسيتهم». التجهيزات شملت أيضا سائر أفراد الأسرة، فالأب سوف ينظم إجازته السنوية فى الوقت نفسه الذى سيتم فيه تسجيل الابن كأمريكى لأن القوانين الأمريكية تستلزم وجوده. تعتقد هند أنها تضمن لأبنائها على هذا النحو فرصة أفضل فى المعيشة والتعليم، خصوصا أن الأوضاع الاقتصادية فى مصر تسير من سىئ إلى أسوأ منذ نهاية التسعينيات. الاتجاه للحصول على جنسية مزدوجة بدأ يسرى بين المواطنين وبصفة خاصة بين رجال الأعمال كوسيلة للحماية إذا ما شب نزاع مع الدولة، فيكون بالتالى لديه بلد آخر يتوجه إليه، كما أنه وسيلة لضمان نوعية أفضل من الخدمات الصحية والتعليمية. وهو ما يؤكده حمدى أستاذ الفيزياء الذى حصل على الجنسية الأمريكية من خلال ابنه المقيم بالولاياتالمتحدة، فقد قرر أن يمضى فترة المعاش هناك وكان يدفع تأميناته كأمريكى، لأنه لا يريد أن «يتبهدل فى مصر فى أواخر عمره». على حد تعبيره. و قد تكون الأقليات الدينية اليوم هى الأكثر بحثا عن الجنسية المزدوجة كنوع من الشعور بالأمان، ففى مقال لنور منصور نشرته مجلة «أيام اشتراكية» منذ بضع سنوات جاء أن الثلاثين عاما الماضية تعتبر من أسوأ العصور التى مرت على الأقباط، ذلك على الرغم من الانطباع السائد بأنهم قد حصلوا على الكثير من الحقوق. فكلما زاد الضغط سواء السياسى أو الاقتصادى على الأكثرية تكون الأقلية هى كبش الفداء على أساس أنها المتنفس الذى تنفس فيه الأغلبية عن سخطها. وفى هذا الاتجاه تؤكد دراسة أخرى نشرتها المجلة الإلكترونية «ميدل إيست» (الشرق الأوسط) أن قرابة 700 ألف قبطى قد تقدموا فى غضون السنوات العشر الماضية بطلبات هجرة، فيما وصفته الصحيفة بأكبر موجة نزوح جماعى. وهو السبب الذى دفع ميرا، الموظفة الأربعينية، للسعى وراء الحصول على جنسية أخرى من كندا أو أمريكا أو أستراليا لأنها تخشى وصول الإخوان للحكم ولا تدرى ماذا سيكون مصير الأقباط فى هذه الحالة. بين البحث عن الأمان والحياة الآدمية تبقى فئة أخرى تبحث عن القبول الاجتماعى فى الخارج، فمثلا حصلت مؤخرا إحدى الراقصات على الجنسية الأمريكية، مؤكدة أنها لجأت إلى هذا الإجراء على الرغم من أنها تعيش فى رغد ببلادها لأنها تخشى أن يعاير الناس ابنها بمهنة والدته عندما يكبر. ولذا فهى تفضل أن يخالط الأجانب فى إحدى المدارس الدولية حتى لا يدفع ثمن النظرة الدونية لمهنتها.