هل هناك ارتباط شرطى بين «العسل الأسود» و«المعتقلات السياسية»؟! الإجابة على الأرجح بالنفى. ومع ذلك فإننى كلما رأيت العسل الأسود أو سمعت اسمه تذكرت على الفور معتقل طرة السياسى فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى. والسبب هو أن «الطبق الرئيسى» فى «قائمة الطعام» فى هذا «الفندق السياسى» كان شيئا يصعب وصفه يسمى «اليمك»– بفتح الياء والميم وتسكين الكاف – بالتبادل مع الفول الموشَّى بالسوس أو العدس المسلح بالزلط. أما «الحلو» – الذى كان يطلق عليه رسمياً اسم «الترفيه» – فقد كان العسل الأسود مرتين فى الأسبوع. والمشكلة هى أن هذا العسل الأسود كان يتعرض فى أحيان كثيرة للغش أو الفساد، فإما تجده خفيفاً نتيجة لخلطه بالماء، أو «حمضان» نتيجة لسوء التخزين أو انتهاء تاريخ الصلاحية أو خراب ذمة المتعهد والمستلم على حد سواء. ورغم ذلك كانت الأيام تمضى والأمور تسير بصورة رتيبة لعدد يزيد أو يقل من الأيام أو الأسابيع حتى يحدث تحرش غير مبرر من جانب إدارة المعتقل أو تجدّ فى الأمور أمور تزيد صعوبة الحياة منزوعة الحرية أصلاً. فنحاول مقاومة ذلك بالإضراب عن الطعام أو غير ذلك من أساليب المقاومة السلبية التى تكون مصحوبة فى العادة بصياغة بيان نارى ينتهى بسلسلة من المطالب التى يجىء على رأسها المطالبة بالديمقراطية كاملة غير منقوصة، اليوم قبل الغد، وما يستلزمه ذلك من الإفراج الفورى عن المعتقلين السياسيين من جميع الاتجاهات.. ثم تتدرج المطالب إلى أمور «دنيوية» تخص المعاملة اليومية داخل المعتقل، وتنتهى إلى المطلب الأخير ب «تحسين مستوى العسل». وفى الأغلب الأعم كانت هذه المناوشات المتكررة تنتهى بقبول إدارة المعتقل مطلب تحسين مستوى العسل والوعد برفع ما عداه من مطالب إلى القيادة السياسية للنظر فيها. وبعد أن نستمتع ب«ترفيه» العسل الأسود غير المغشوش لمدة أسبوعين أو ثلاثة على الأكثر، تعود ريما إلى عادتها القديمة، ويعود العسل الأسود «الحمضان» من جديد! ■ ■ ■ أما المناسبة التى ذكّرتنى بهذه العلاقة العجيبة بين العسل الأسود والمعتقلات السياسية، فهى مشاهدتى مؤخراً فيلم «عسل إسود». الفيلم يحكى قصة شاب هاجر إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية مع والديه وهو فى العاشرة من عمره، وبعد وفاتهما عاد بعد عشرين عاماً إلى القاهرة، لكنه جاء هذه المرة حاملاً جواز سفر أمريكياً إلى جانب جواز سفره المصرى. والمفارقة المدهشة هى أن المجتمع -وقبله الأجهزة الحكومية- يفتح له الأبواب على اتساع مصاريعها عندما يبرز جواز السفر الأمريكى، أما إذا سولت له نفسه التعامل بجواز السفر المصرى فإنه يفتح على نفسه أبواب جهنم. ومن خلال تلاحق الأحداث يقوم الفيلم بتشريح المجتمع ويكشف عوراته وسلبياته بصراحة وشجاعة. ودون خطب رنانة أو مباشرة فجّة يكشف الفيلم الوجه القبيح لسوءات كثيرة، فى مقدمتها البطالة وفساد نظام التعليم وتفشى الرشوة وإهانة المواطن المصرى وإهدار آدميته فى المرافق الحكومية وحرمانه حتى من الحد الأدنى من حقوق الإنسان. كل هذا من خلال معالجة كوميدية تجعلك «تموت» من الضحك، لكنك سرعان ما تجد ضحكاتك ممتزجة بالدموع. إنها الكوميديا السوداء التى تعبر عن واقع مأزوم وحافل بالإحباطات والانكسارات. لكن هذه المعالجة الكوميدية الراقية لا تتوقف عند رصد «الأسود» والسلبى واللامعقول، وإنما تنظر إلى الواقع المصرى بحلوه ومره. فالصورة ليست حالكة السواد وإنما هناك الإبداع المصرى فى «التحايل على المعايش»، وهناك الشهامة التى لم تختف تماما بل مازالت تعلن عن نفسها فى أوقات الشدائد، وهناك الأم المصرية التى «تظلل» على أولادها وتأخذهم تحت جناحها حتى بعد أن يشبوا عن الطوق ويصبحوا رجالاً «طول وعرض»، وهناك الدفء الاجتماعى الذى يندر أن تجد له مثيلاً فى أى بلد آخر، وهناك الأصالة التى مازالت عميقة الجذور، حتى بعد التحول الذى حدث للشخصية المصرية، فحتى وإن كانت هذه الأصالة مطمورة تحت ركام العشوائية والضوضاء والتلوث وجبال المشاكل فإنها لا تحتاج سوى أن ننفض عنها التراب. ■ ■ ■ «عسل إسود».. باختصار.. يقدم حلاوة «العسل» وكآبة «الأسود».. بميزان حساس مثل ميزان الذهب، دون أن يجامل الشخصية المصرية المعاصرة أو يخفى عيوبها ومثالبها، وفى نفس الوقت دون أن يتحامل عليها ويظلمها ويفترى عليها. ولست ناقداً فنياً، لكنى – كمشاهد – أصفق بحرارة للمؤلف خالد دياب والمخرج خالد مرعى والموسيقار الرائع عمر خيرت الذى قدم لنا موسيقى تصويرية بديعة، ومهندس الديكور محمد أمين، ومدير التصوير سامح سليم، والشاعر أيمن بهجت قمر، مؤلف أغانى الفيلم التى شدت بها ريهام عبدالحكيم فأشجتنا وأبكتنا. وتحية خاصة إلى أبطال الفيلم أحمد حلمى (مصرى سيد العربى) وإدوارد (سعيد) وإنعام سالوسة (أم سعيد) ويوسف داود (عم هلال) ولطفى لبيب (راضى) وجيهان أنور (ابتسام) وشيماء عبدالقادر (نوسة) وعبدالله مشرف (موظف السجل المدنى) وطارق الأمير (عبدالمنصف) ودينا (ضيفة الشرف) ومحمد شاهين (رفيق الطائرة) وإيمى سمير غانم (ميرفت) وهشام إسماعيل ياسين (ضابط المباحث) وسعيد طرابيك (صاحب الكشك) وأحمد راتب (لواء الشرطة). كل واحد من هؤلاء أبدع فى تقديم دوره، وليس هذا بالأمر الجديد بالنسبة لعدد من الفنانين المتمرسين أمثال إنعام سالوسة ولطفى لبيب وعبدالله مشرف وسعيد طرابيك ويوسف داود، لكن العدوى الحميدة للأداء السهل الممتنع انتقلت إلى معظم الشباب، وأخص بالذكر إدوارد الذى جسد دور الشاب العاطل ببراعة، وطارق الأمير مفاجأة الفيلم وإيمى سمير غانم، التى نجحت نجاحاً باهراً فى تجسيد شخصية مدرسة اللغة الإنجليزية التى تنطق هذه اللغة الأوروبية بلكنة ريفية مصرية مألوفة وشائعة. هؤلاء رسموا لنا لوحة مدهشة، صحيح أن اللون «الأسود» يطغى على ملامح مصر، لكن حلاوة «العسل» لا تفارق روحها.. ولأنها لوحة «واقعية» – رغم مرارتها – فإنها تستحق المشاهدة والتأمل. ■ ■ ■ واللافت للنظر أن هذا الفيلم ليس سوى واحدة من عشرات المحاولات لرصد التحول فى الشخصية المصرية نتيجة التطورات الدراماتيكية دائما والتراجيدية كثيرا، التى طرأت على البلد وعلى الإقليم، وهى تطورات وصلت فى أحيان كثيرة إلى ما يقرب من «الانقلاب» على أمور دأب المصريون على النظر إليها طويلا باعتبارها فى عداد «الثوابت» و «البديهيات». ولذلك نجد عنوان «ماذا حدث للمصريين؟» يتكرر بكثافة فى السنوات الأخيرة ويتناول «تحولات» المصريين من زوايا متعددة.. سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. ■ ■ ■ و«عسل إسود» هو إحدى هذه المحاولات لرؤية وجوهنا فى المرآة دون خجل ودون عمليات تجميل أو عمليات تشويه. لكن هل ينتهى بنا الحال بعد أن فشلنا– حتى الآن– فى انتزاع إصلاحات جوهرية، مثل تعديل الدستور أو قانون مباشرة الحقوق السياسية ونظام الانتخابات.. إلى مجرد المطالبة بتحسين مستوى العسل.. حتى لو كان هذا العسل أسود من قرون الخروب؟! [email protected]