بعد غيبة عن الأضواء عاد وزير الخارجية الأمريكي "المتواري" كولن باول للظهور علي مسرح الأحداث الذي يرتع فيه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد وزعانفه من صقور البنتاجون وغربان المحافظين الجدد المهيمنين علي مقاليد الأمور في دوائر صنع القرار في واشنطن. وكالعادة.. فإن وزير الخارجية الأمريكي الضعيف والمكسور الجناح والذي لا حول له ولا طول لا يستطيع الاستقواء إلا علي العرب، ولذلك فإن سبب عودته إلي دائرة الضوء التي انحسرت عنه طويلا كان هذه المرة أيضا تهديد دولة عربية جديدة بالويل والثبور وعظائم الأمور. وكان الدور في الظهور الأخير للجنرال المتقاعد علي السودان. فقد وقف أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ يوم الخميس الماضي ليقدم تقريراً طويلاً ومملا عن دارفور خلاصته ان ما يحدث في هذا الاقليم الواقع في أقصي غرب السودان يرقي إلي تصنيف الإبادة الجماعية. ان تهمة الابادة الجماعية تهمة خطيرة بكل المعايير.. ويزيد من خطورتها عدد من العوامل: أولها: ان باول نفسه كان قد رفض من قبل وضع أحداث دارفور تحت هذا التصنيف، وقال في السابق انه لا تتوافر له الدلائل التي تجعله يقرر وجود إبادة جماعية أو تطهير عرقي في هذا الاقليم السوداني. ثم كرر نفس الموقف أثناء وبعد زيارته لدارفور. ثانياً: ان المراقبين الموفدين سواء من الاتحاد الأوروبي أو الاتحاد الافريقي أو الصليب الأحمر امتنعوا أيضاً عن دمغ أحداث دارفور بهذه الصفة، بل علي العكس فانهم قد أشاروا إلي حدوث تقدم في الأوضاع مؤخراً. ثالثاً: أن مجلس الشيوخ الأمريكي كان هو السباق إلي إلصاق هذه التهمة بالسودان في 22 يوليو الماضي وتحفظت وزارة الخارجية الأمريكية وقتها علي تبني موقف الشيوخ. رابعاً: من هذه الزاوية لا يعد موقف باول خضوعاً فقط لضغوط مجلس الشيوخ وجماعات الضغط الأخري، وانما انطوي هذا الخضوع علي ما هو أسوأ حيث اقترن توجيه الاتهام للخرطوم بارتكاب أعمال إبادة جماعية بتشخيص لا يقل خطورة حيث تكرر علي لسان باول ان هذه الإبادة الجماعية هي أحد مظاهر الصراع بين العرب والأفارقة في السودان، في إشارة صريحة تتهم العرب عموماً بالعنصرية والوحشية. خامساً: ان هذا الموقف "الجديد" لوزير الخارجية كولن باول يأتي بعد مرور عشرة أيام علي انتهاء المهلة التي منحها مجلس الأمن في نهاية شهر يوليو الماضي للحكومة السودانية لنزع سلاح ميليشيا "الجنجويد" ذات الأصول العربية ومحاكمة قادتها بتهمة التقل والاغتصاب وطرد قرويين من أرضهم أثناء الصراع الذي استمر زهاء 18 شهراً أو مواجهة عواقب وعقوبات لم تحدد. وبعد انقضاء المهلة اجتمع مجلس الأمن فعلا يوم الخميس الموافق 2 سبتمبر الجاري لكن أعضاءه لم يتفقوا علي أية إجراءات محددة حيال الخرطوم، بينما أعدت الخارجية الأمريكية مشروع قرار يتضمن المطالبة بفرض عقوبات علي مبيعات البترول السوداني، وفرض حظر جوي علي الطيران الحربي السوداني في أجواء دارفور، والقبول بقوات أفريقية، وتشكيل لجنة دولية للتحقيق في الجرائم التي وقعت في دارفور. سادساً: هذا التصعيد الأمريكي المباغت الذي يتهم الخرطوم بممارسة الإبادة الجماعية أو التستر علي ميليشيات الجنجويد التي قال باول انها قامت بها، جاء في سياق نفس تقرير وزير الخارجية الأمريكي أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الذي أثني فيه باول علي الخطوات التي قامت بها حكومة الخرطوم مؤخرا لتحسين الأوضاع في دارفور، والذي تضمن أيضاً اعترافا صريحا بتورط الفصائل المعارضة للحكومة السودانية في أعمال هجوم علي منظمات الاغاثة الإنسانية. سابعاً: حتي بصرف النظر عن التناقضات المشار إليها في السطور السابقة، ومع افتراض صحة اتهام باول لحكومة الخرطوم بالتورط في جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي، فإن نفس المعايير التي استخدمها وزير الخارجية الأمريكي لتبرير هذا الاتهام تنطبق بحذافيرها علي الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.. بل ان سياسات شارون التي يعترف بها علي الملأ ويفاخر بها بكل صفاقة أكثر غلظة ووحشية من كل ما وصفه باول في دارفور. وهذا.. يجعلنا نتساءل عن هذه المعايير الأمريكية المزدوجة التي تكيل بمكيالين فتتوعد وتهدد وتستأسد إذا كان المتهم عربيا وتغض الطرف وتنتحل الأعذار والمبررات إذا كان المتلبس بالجرم المشهود إسرائيليا. ثامناً: بل ان نفس معايير "باول" التي يطبقها علي السودان وتدينه بتهمة الإبادة الجماعية والعياذ بالله، تجعل الممارسات الأمريكية في العراق افظع بعشرات ومئات المرات بدليل فضائح سجن أبو غريب، وفظائع قصف المدن والأحياء السكنية بالطائرات الحربية، والقتل الجماعي، والمقابر الجماعية الأمريكية التي تنافس مقابر صدام حسين. وهذا بدوره يجعلنا نتساءل: هل يمكن أن يكون الجاني خصما وحكما وواعظا أيضاً. لهذه الاعتبارات الثمانية.. فإنه يصعب علي المرء ابتلاع "عظات" السيد كولن باول.