ينظر بعض المفكرين والباحثين إلي العالم من منظور اعتمد المرجعية الدينية كأساس وحيد وثابت في منهجه، وفي تفسيره لما يواجه من قضايا وأمور حياتية، مهما بلغت تلك القضايا والأمور من تعقيدات متراكمة عصرية تفرضها سنن التطور ودواعي الرقي الحضاري المستمر، وتحديدا في مجال تنظيم سلوكيات الأفراد مع أساليب المعيشة، وهو ما أصطلح علي إدراجه تحت مسمي علم الاقتصاد فكان أن تم اضفاء هالة قدسية تتفق وتلك الرؤي المحصورة، وتم تقديم فيها عرف بالاقتصاد الإسلامي، وذلك تمييزا له عن الاقتصاد الوضعي المصنع من قبل البشر، حتي يتسرب إلي منطقة الوعي البشري أن هذا الاقتصاد الآخرإنما هو اقتصاد مخالف للعقيدة الإسلامية. إلا أن ما يدعو إلي التأمل أن هذا الاقتصاد الذي يدعون إليه وبمثل هذه الصفة، نجد أن في مجال تطبيقه، قد تم اختزال كل ملامحه ومعانيه السامية وآليات تفعيله في خاصة واحدة فقط تمثلت في كونه اقتصادا لا يتعامل بالربا أخذا وعطاء، وأصبح ذلك هو الشاغل الأوحد والهم الأكبر في المسألة الاقتصادية برمتها وفيما عدا ذلك خلاف واضح نراه فيما يتم طرحه أو يثار عما بينه وبين النظم الاقتصادية الأخري. في ظل هذا الحصر الضيق لتطبيق ما إنتهي إليه هؤلاء في تسمية الاقتصاد، ووجوب تنفيذ ما ينهي عنه من محرمات بشكل مطلق، ودون أي اعتبار لنخبة أخري من العلماء تري رأيا آخر في تلك القضية، فقد انتهوا إلي أن تحديد سعر العائد مقدما، سواء في قبول المصارف للودائع أو إعادة اقراضها هو الربا بعينه، وبالتالي تلك المعاملة بشكل قاطع ونهائي، ويتعين البحث عن صيغ أخري لاستثمار الأموال سواء من قبل البنوك أو في بورصة الأوراق المالية لا تتعامل علي سعر ثابت مفروضا مقدما. صك التمويل الإسلامي ولأنه أصبح من ضمن أهم ما يشغل فكر الحزب الحاكم في تجربته الأولي، والتي انتظرها طويلا لإدارة شئون البلاد في منطلقاته العقائدية، هو ما يواجهه الاقتصاد القومي من أزمة شديدة، تمثلت أخطر مؤشراتها في تصاعد عجز مزمن في الموازنة العامة لخزانة الدولة، وما ترتب عليه من تصاعد للدين العام بشكل يدعو إلي قلق عميق، مما يعوق تحقيق ما نسعي إليه جميعا بشأن العدالة الاجتماعية ومشاريع البنية التحتية والخدمات الصحية والتعليمية، ونظرا لأن تمويل هذا العجز يعتمد في الأساس علي ما تصدره الحكومة من سندات وأذون خزانة ذات سعر عائد محدد مسبقا، فإنه يصبح من الضروري الأمر كذلك البحث عن أداة تمويليلة بديلة تقوم بذات الوظيفة، ولكن دون تحديد سعر ثابت مربوط مقدما، فكان أن اهتدي التفكير إلي إيجاد اداة تمويلية، تم تجربتها ببعض الدول الإسلامية بالقارة الآسيوية، تحت ظل مجموعة من المحددات وأطلق عليها صكوك التمويل الإسلامية، باعتبارها صكوكا لا تتعامل بالفائدة، أي الربا والملاحظ هنا أن فريقا كبيرا من أعضاء الإدارة الحكومية الحالية من ذوي التوجهات الدينية، والمنتمين لاحزاب تحمل الرموز الإسلامية في مسمياتها، يروجون في أحاديثهم ونشراتهم عن تلك الأداة التمويلية (السحرية) وما سوف تبثه من تدفقات تنشيطية في شرايين الاقتصاد، وأنه يمكنها أن تقيله من عثرته التي يعاني منها حاليا. ويمكن الاجتهاد في التعرف علي أهم ملامح هذا الصك، بحكم مسماه الديني ووظيفته التمويلية علي النحو التالي: 1 هو عبارة عن ورقة مالية، شأنه في ذلك شأن الأسهم والسندات. 2 هذه الورقة تأخذ من السند صفة القرض المتوسط والطويل الأجل، وتختلف عنه بأنه ليس لها سعر فائدة محددة مقدما، وتأخذ من السهم بأن العائد عليها مرتبط النشاط، وتختلف عنه بأنها لا تأخذ صفة الملكية لرأس المال. 3 لا يوجد تشريع ينظم اصداره أو تداوله، سواء في القانون المصري أو في الغرب. 4 الغرض من اصدار هذه الصكوك كما يصرح من يسوقون لها هو تمول العجز في الخزانة العامة للدولة المخصص للانفاق علي الاستثمارات الحكومية، ولذا سيكون اصدارها من خلال البنك المركزي، أسوة باصدار السندات وأذون الخزانة، ولكن من الممكن أن تقوم باصدار هذا النوع من الصكوك بعض الشركات الخاصة العاملة في الحقل الاقتصادي، وإن كان لا يوجد قانون ينظمها حتي الآن علي جميع المستويات، سواء الخاصة أو الحكومية. أهم الأوراق المالية المتداولة في السوق وحتي يمكن توضيح جميع أبعاد الصورة لهذا الصك فإنه قد يكون من الضروري الإشارة بشكل مختصر إلي خصائص أهم ثلاث ورقات مالية متداولة في سوق الأوراق المالية، وهي تحديدا: الأسهم، والسندات، وأذون الخزانة وذلك في إشارة سريعة علي النحو التالي: الأسهم وأهم خصائصها كما نص عليها القانون تتبين في النواحي التالية: 1 عبارة عن صكوك ملكية، تكون في مجموعها رأس مال الشركة. 2 ليس لها تاريخ استحقاق محدد، فهي مستمرة طالما أن الشركة قائمة. 3 لأصحابها حق التصويت في الجمعية العمومية للشركة. 4 يحصل حامل السهم علي العائد متغيرا طبقا لما تحققه الشركة من ربح، ويتوقف قرار توزيع الارباح علي قرار الجمعية العمومية للمساهمين. 5 عند تصفية الشركة، فإن أصحاب الأسهم لا يحصلون علي أي شيء من حصيلة بيع أصول الشركة إلا بعد سداد مستحقات الاطراف الأخري. السندات 1 وهي عبارة عن صكوك مديونية متوسطة وطويلة الأجل، وتصدرها الحكومة وكذلك الشركات بفائدة سنوية ثابتة معلنة مسبقا. 2 عند تصفية الشركة، فإن لأصحاب السندات الأولوية في الحصول علي مستحقاتهم. 3 ليس لصاحب السند أي صلة تدخل في إدارة الشركة المصدرة لتلك السندات، أو حضور جمعيتها العمومية. أذون الخزانة وهي الصكوك التي تصدرها الحكومة عند رغبتها في الاقتراض من الأفراد والجهات المختلفة، من أجل تمويل العجز في ميزانية الدولة، وتتراوح فترة استحقاق تلك الأذون ما بين ثلاثة أشهر إلي سنة واحدة، وهي تصدر بفائدة دورية محددة نسبتها مقدما، ولها طريقة خاصة في احتسابها. ولعله يكون من واقع تلك الأدوات التمويلية المسموح لها بالتداول في مختلف الأسواق المالية سوف يكون هذا المشتق المالي الجديد، الذي سيحمل خليطا من صفات الأوراق الثلاث المتداولة حاليا بالبورصة فهو من ناحية وكما يري الرعاة الرسميون لهذا الصك التمويلي سوف يتكفل وهو الدور الذي تقوم به السندات الحكومية وتعاونها فيه أذون الخزانة ومن ناحية أخري فإن هذا الصك بما يحمله من صفة (مقدسة) تنأي به عن أي موضع شبهات محرمة قد أخذ من صك رأس المال ممثلا في الأسهم مبدأ العائد المتغير المرتبط توزيعه بنتيجة النشاط. ويبقي السؤال الملح هنا، وعلي أساس طرح افتراضي بأنه قد تم وضع تشريع جديد ينظم هذه النوعية من الصكوك، الذي قد يستغرق اقراره من مجلس الشعب بظروفه الراهنة فترة التعدي العام علي أقل تقدير، هل يستطيع هذا الصك، بما يعقد عليه من آمال وحلول سحرية، أن يفك بالفعل من طلاسم العجز المزمن لموازنة الخزانة العامة للدولة وتأثر هذا العجز المباشر علي حجم الدين العام، ويحرر الموازنة من الأغلال التي تحد كثيرا من انطلاقات الدولة الاستثمارية بما يعنيه من إيجاد فرص عمل جديدة وتوفير سبل معيشة أفضل للمواطنين، هل يمكن لهذا الصك أن يكون قاطرة التنمية التي ستقود الاقتصاد المصري نحو آفاق التقدم بين اقتصادات دول العالم كما يذاع. وقبل الغوص في الأوهام، فمن الضروري أن ندرك أن أغلب المشروعات الحكومية التي تسهم في تمويلها تحت بند سد العجز بالموازنة كلا من أذون الخزانة والسندات الحكومية، هي مشروعات خدمية في الواقع ذات عائد حكومي بالدرجة الأولي، وذات مردود اقتصادي بالدرجة الثانية أو حتي الثالثة، حيث إن دور أي حكومة في عرف الأنظمة السياسية علي مختلف توجهاتها في العالم، أن تسعي في الجوهر والأساس إلي الانحياز لأهداف ذات الطابع الاجتماعي التي ترسي مبادئ العدالة الاجتماعية بين طبقات شعوبها، بل ويعتبر ذلك هو المقياس الأهم في الحكم علي نجاح هذه الحكومات. فإذا كان الأمر كذلك، فسوف يتأكد لدينا أنه لن تكون هناك أرباح عن نتائج تلك المشروعات الحكومية بالمعني المحاسبي أو الاقتصادي المتعارف عليه، والتي قد تسهم في تمويلها هذه النوعية من الصكوك، فالمدارس والجامعات وتجهيزاتها، وإنشاء الطرق والكباري ومحطات الكهرباء ومياه الشرب والصرف الصحي وجميع مقومات البنية التحتية للدولة، إنما هي جميعا بمثابة القاعدة الصلبة التي تقوم علي أساسها المشروعات الاقتصادية، سواء منها المحلية أوالجاذبة للاستثمارات الخارجية، ولكنها في حد ذاتها لا تغل أي أرباح دفترية. وهنا تمكن خطورة الخلط أو يعني آخر تسطيح الأمور بين المشروعات ذات التوجهات الاجتماعية وبين المشروعات الاقتصادية، سواء من حيث العائد عليها أو مصادر التمويل، وهنا يصبح أمام حامل هذا الصك اختيار أحد هذين البديلين: فإما أن يحصل علي عائد مقابل استثماراته المالية، أسوة بعائد السندات وأذون الخزانة وهو من المؤكد عائد غير مرتبط اطلاقا بنتائج نشاط تلك المشروعات الممولة من تلك الصكوك كما سبق وأن أشير إليه، إنما هو عائد قد تم تحديد نسبته مسبقا وفقا لأسس اقتصادية محددة، أي عائد ثابت، أو اختيار البديل الآخر، وهو في هذه الحالة عدم توزيع أي عائد بالمرة، فقائمة الدخل هنا ونتيجة النشاط المحقق محاسبيا ورقميا سوف تساوي صفرا. هناك أمر آخر ذو علاقة وهو أكثر خطورة وقد سبق التفكير فيه والتلميح إليه في أواخر عصر النظام السابق، بل وتم بالفعل تقديم مشروع قانون لاسباغ الحماية القانونية عليه، وقد تمثل ذلك في محاولة تقنين مساهمة القطاع الخاص في تمويل المشروعات الحكومية التي لا تقدر موازنة الدولة علي تمويلها، وهذه المساهمة بطبيعة الحال يبغي ممولها الحصول علي عائد من ورائها، بل وأفضل عائد ممكن ومتاح في السوق وهو حق مشروع من الوجهة الاقتصادية والمستثمر الخاص يعرف جيدا الفرق بين التبرع بالمال وبين الاستثمار المال كما يدرك علماء الاقتصاد والاجتماع جيدا حجم الشراهة التي يكون عليها المستثمر وهو يضارب بأمواله. فإذا تحقق ذلك فإنه سيعني ضياع الدور الاجتماعي الأصيل للإدارة الحكومية، حيث إنه سيتم في مثل هذه الحالة تغليب الطابع الاقتصادي علي الطابع الاجتماعي وهي تقوم برسم سياسات شئون معيشة مواطنيها فإذا أراد القطاع الخاص علي سبيل المثال إنشاء محطة توليد كهرباء فإنه لن يستطيع تسويق منتجها في ظل السعر الاجتماعي المنافس الذي تقدمه الدولة وفي هذه الحالة فإنه سيلجأ إلي عقد اتفاق مع الإدارة الحكومية، يتم يموجبه بيع منتجه من الكهرباء إلي هذه الحكومة وبطبيعة الحال سيكون البيع بسعر السوق المرتبط بالسعر العالمي، علي أن تقوم الحكومة بدورها بإعادة البيع لأفراد شعبها، ولكن سيكون بالسعر المدعم، مقابل أن تتحمل موازنة الخزانة العامة للدولة الفرق بين السعرين. ونري أن هذا لن يكون بالفكر السديد فمن ناحية فإن مقدار الفرق المدعم الذي ستتحمله الموازنة بين الشراء بسعر السوق وبين السعر المدعم وذلك عند الشراء من القطاع الخاص سيكون هامشه أعلي بكثير بطبيعة الحال عن الفرق بين سعر التكلفة والسعرالمدعم، كون أن هذه المحطة مملوكة للدولة، وعندئذ سيكون الاقتراض من أجل إنشاء محطات أفضل من تحميل الموازنة بعبء أكبر بالسعر الدعم، كما أنه سيمكن تعويض المبلغ المستثمر في إنشاء المحطة خلال سنوات قليلة قياسا علي هامش التكلفة الأعلي الذي يفرضه حال الشراء بسعرالسوق. من ناحية أخري فإنه سيكون من الأفضل دائما للاقتصاد القومي أن يتفرغ المنظمون من رجال الأعمال لمهمتهم الأساسية، ممثلة في تلبية احتياجات التنمية الاقتصادية بكل متطلباتها، وعدم مزاحمة استثمارات القطاع الخاص والتي تعاني ضعفا في الأصل مع الاستثمارات الحكومية التي تمليها طبائع خاصة، لعل أوضحها هو الالتزام بالبعد الاجتماعي واحتكارها لمثل هذه النوعية من المنتجات الحيوية التي تمس حياة شعوبها بشكل متواصل، خاصة إذا كانت تنتمي هذه الشعوب لشعوب العالم الثالث الفقيرة. ثم هناك من ناحية ثالثة أمر لا يمكن إغفاله ومن شأنه أن يوجد مرتعا خصبا لنمو علاقات من الفساد الحميمي، حينما تتداخل مصالح القطاع الخاص مع القطاع الحكومي والتي لا حصر لأشكالها وأنواعها وفي جميع مراحلها وسيكون من الحكمة والعقل دائما غلق الأبواب في وجه وسوسة الشيطان ودسائسه، وأن يعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر، فلا نخلط هذا بذاك. ** وهكذا سوق يظل دائما هناك فرق كبير بين المنطق الاجتماعي والمنطق الاقتصادي في إدارة شئون الحياة. وهنا يثور سؤال مهم: وفقا لأي من المنطقين ستشارك الصكوك الإسلامية في تمويل الأنشطة الاقتصادية، منطق الربح الحاكم لكل نشاط استثماري فردي.. أم المنطق الاجتماعي عن الحاكم لنشاط الدولة؟ هذا سؤال لا يمكن القفز عليه عند مناقشة المسألة.. وهو سؤال يضع فكرة الصكوك الإسلامية بمجملها أمام اختبار عسير. ** ولعله من ذلك كله يتضح أن التعسف في تحميل الأشياء ضد طبيعتها، تحت غطاء من المسميات ذات الصبغة الدينية الموجهة سياسيا في الأصل من شأنه إيجاد نوع من التضليل الفكري، وإشاعة الوهم في مناطق خطرة لا تتحمل مثل هذا الترف من البدع.