خلال رحلة القطن الطويلة منذ بداية ظهوره وصعوده في عهد محمد علي إلي قيام الحرب العالمية الأولي كان الأجانب يهيمنون علي السوق ويحتكرون العمل في مجالي التصدير والتجارة ويحصدون الأرباح الطائلة حتي جاء محمد أحمد فرغلي والذي لقب فيما بعد ب "ملك القطن" ليضع حدا لهذه الهيمنة وهو ما يجعلنا نتفهم قوله: "كان محركي إلي تحقيق النجاح هو التفوق علي الأجانب في عملي وإيماني بمصريتي وأن المصري لو أتيحت له الظروف المناسبة فسوف يظهر بمعدنه النفيس الأصيل" ويضيف فرغلي شارحا بعض جوانب ريادته: "ولقد حاولت ذلك بالفعل وبعد أن مجالي التصدير من المجالات التي يحتكرها الأجانب تمكنت خلال سنوات معدودة من أن أتفوق عليهم وأصبحت المصدر رقم واحد في مصر كلها ولقد كان تفوقي علي الأجانب في عملي يعوضني عن الإحباط الذي كنت أشعر به نتيجة عجزي عن تغيير الواقع الذي لم أكن راضيا عنه من الناحية السياسة".. ويمكن الوعي بكلمات فرغلي عندما نعرف أن قاعدة الجنيه المصري لم تكن الذهب أو الاسترليني وإنما محصول القطن، علي ضوء أسعاره تتوقف سياسية الائتمان في البنوك وما يترتب علي ذلك من تضخم أو انكماش في السوق المالية كما تتوقف علي أسعار القطن أيضا ميزانية الدولة وما ينتابها من توسيع أو تضييق. ... ولكن من هو محمد فرغلي؟ هو ابن أسرة مقتدرة نزحت من مدينة أبوتيج بمديرية المنيا إلي مدينة الإسكندرية حتي أن الشارع الذي يقع فيه بيت الأسرة الذي ولد فيه الاقتصادي الكبير يحمل أسم "شارع فرغلي". وفي نشأته تنقل محمد أحمد فرغلي بين أحياء الإسكندرية المختلفة من المنشية ومحرم بك إلي الجمرك ومينا البصل، واستمع إلي الكثير من الحكايات عن العمل التجاري، خاصة في المجالات التي كانت تعمل فيها أسرته وهي تجارة الحبوب والاخشاب. كان محمد هو الابن الأوسط بين إخوته وأخواته السبعة، وكأبناء الأسر الميسورة بدأ دراسته في مدرسة الجيزويت الفرنسية، إلا أن والده سرعان ما نقله إلي كلية فيكتوريا الإنجليزية العريقة بالإسكندرية. وبعد انتهائه منها أرسله والده لاستكمال دراسته في لندن لكنه اضطر قبل إتمامها إلي العودة إلي أرض الوطن بسبب مرض والده، ولمعاونة شقيقه الأكبر علي فرغلي في إدارة الأراضي بينما تولي محمد إدارة العمل التجاري. وكان الاستثمار الرئيسي يتعلق بتجارة الحبوب والاخشاب أما النشاط الثانوي ففي تجارة القطن الداخلية وهو ما جعل محمد يبدو حزينا دوما وهو يري بورصة مينا البصل بؤرة النشاط التجاري في الإسكندرية وفي مصر كلها وهي تعج بخليط من الأجانب من الجنسيات الإنجليز والفرنسيين واليونان والايطاليين والأرمن ومعهم اليهود بلا منافسة وطنية لكل أعمال البورصة وتصب في جيوبهم الأرباح الطائلة التي تحقق من الاتجار في المحاصيل التي ينتجها الفلاح المصري ولا يجني من تعبه إلا أقل القليل وتساءل: لماذا لا أعمل بالتصدير مثل هؤلاء الأجانب ولماذا لا يقتحم أبي هذا المجال المربح الذي يهيمن عليه الغرباء؟ وظل يفكر كيف يمكن الإجابة عن هذا التساؤل وخوض هذا المجال، وكان قد عرض أفكاره علي والده في حياته، إلا أن الأب قد رفض هذه الأفكار ومع ذلك كان محمد فرغلي شديد المراس فلم يستلم، وآمن بأن الأجانب لم يصلوا إلي ما وصلوا إليه إلا بالعمل الجاد فلماذا لا يتحرك المصريون ويعملون وينافسون ويحطمون أصنام الاحتكار. ولأن الأب والابن مدرستان مختلفتان وعالمان لا يلتقيان قرر محمد أن يستقل عن والده وأن يجرب حظه ويكتسب خبرة واقعية تتيح له أن يعمل مستقبلا في المجال الذي يحبه، فاتجه إلي تصدير القطن المصري، ولكن الصفقة الأولي في هذا المجال حققت خسارة فادحة تزيد علي أربعة آلاف جنيه وكان غريبا أن تحقق الخسارة سعادة كبيرة للأب في تجربة الأبن الأولي ذلك أنه كان يخشي النجاح السريع الذي قد يقوده إلي الغرور. من التجربة الأولي الفاشلة تعلم محمد أن يدقق ويحسب لكنه لم ييأس بل أصبح لديه دافع أكبر للنجاح.