لا يعاني ميدان التحرير من الإهمال السياحي فقط، بل هناك من استوطنوا في الميدان -بدون مناسبة أو مبرر معقول- حتي في أوقات غير يوم الجمعة، حيث تعقد المظاهرات شبه الأسبوعية، منذ ثورة 25 يناير وحتي الآن، أي أن كل من "هب ودب" أصبح من رواد التحرير، فتقمص البلطجية دور الثوار، وأصبح الباعة الجائلون مناضلين، وتحول المتحرشون إلي منظرين، وارتدي "الفلول" ثياب الواعظين والمصلحين الاجتماعيين. وهؤلاء القلة من المرتزقة والجهلة واللصوص، لم يشوهوا جمال ميدان التحرير فقط، بل يلطخون إنجازات الثورة ويسيئون إليها بأفعالهم القبيحة، حيث لا تخلو مظاهرة في التحرير تقريبا، من اعتداء هؤلاء علي متظاهرين محترمين، أو علي رجال الجيش، أو التحرش بمتظاهرات، أو تأليب الجماهير علي بعضهم البعض، عن طريق بث الشائعات المغرضة، وللأسف تلك القلة المندسة والمنحرفة، تتخذ من ميدان التحرير العظيم مركزا لأفعالهم المخربة والمخزية. والميدان لا يعاني فقط من معتادي القبح والأعداء المستترين للثورة، ولكنه يعاني من سوء النظافة، وانعدام الصيانة واختفاء اللمسات الجمالية، وبدلا من إعادة الاعتبار لميدان التحرير، الذي كان حجر الزاوية لإسقاط نظام رهيب، ومركز لإعادة صياغة مستقبل مصر علي جميع الأصعدة، تركناه للجهلة يمسون هيبته، ويرتعون فيه مثل الكلاب الضالة. وبدلا من إعادة اكتشاف الميدان والإسراع بتخطيطه عمرانيا من جديد، نسيناه في زحمة المطالب الفئوية، وتحت رحمة المنتفعين وقصيري النظر، الذين أصبحت مهنتهم الأساسية تنظيم المظاهرات والوقفات الاحتجاجية والهتاف فيها لمن يدفع أكثر. لقد أصابني الألم والحسرة وأنا أتجول في ميدان التحرير بعد ظهر يوم الثلاثاء الماضي وشاهدت البلاط المكسر والمنزوع من الأرصفة، خاصة حول المتحف المصري رغم أننا من أشهر الدول المنتجة للسيراميك والبورسلين، وأصبحت معظم أرصفة الميدان يكسوها الرمال المختلط بالتراب، وزاد من قبح هذا المنظر، استمرار توقف العمل في الجراج المتعدد الطوابق المزمع إنشاؤه تحت الأرض، والذي تنفذه شركة "المقاولون العرب"، وأصبح الكردون "القبيح" المقام حول المشروع دليلا علي وجود مشاكل مادية تعيق تنفيذه، وكأننا نقول للأجانب الذين يزورون الميدان أن مشروعاتنا توقفت بعد الثورة، مع أن المفترض أن يحدث العكس، وننتهي من بناء ذلك الجراح كي يظهر الميدان في أبهي صوره. كما أن تمثال الشهيد العظيم عبدالمنعم رياض المقام خلف المتحف المصري يشكو أيضا من الإهمال وعدم النظافة، علاوة علي تصميمه البدائي الذي لا يليق ببطل عسكري استشهد في حرب الاستنزاف. ومن المناظر القبيحة أيضا في الميدان، الأعمدة الرخامية المخصصة للإنارة تقريبا والمنشرةفي بعض أرجائه، وتلك الأعمدة غير المحددة الملامح، تشبه "الخوازيق" ولا تعبر عن مشاهد جمالية، بل تدل علي "خازوق" يقف علي الرصيف، دون تنسيق أو ملمح جمالي كما أن لونها البني الباهت لا يدل علي وجود فنانين أو نحاتين أقاموها، بل فنيين يحملون دبلوم المدارس الصناعية شعبة رخام وجرانيت، رغم أن مصر لديها أنقي وأجمل أنواع الرخام في العالم، وبها العديد الأعمدة الرخامية التماثيل التي نحتها فنانون عظام، مثل أسود قصر النيل، المقامة قرب الميدان. إلي متي سيترك المسئولون ميدان التحرير، رمز الثورة المصرية بهذه الصورة المزرية؟ وأين جهاز التنسيق الحضاري، والنحاتون المصريون، والفنانون والمعماريون، ورجال الأعمال؟ لماذا لا يسهم رجال الأعمال، خاصة الذين يعملون في الاستثمار السياحي، في إعادة بناء وتجميل ميدان التحرير، مع الاحتفاظ بشكله المعماري القديم؟ بدلا من إنفاق أموالهم علي الحملات الصحفية الدعائية، والتي تبرر شراءهم بعض أراض الدولة بثمن بخس وتسقيعها بحجة الاستثمار السياحي؟ بل إن مشاركاتهم في تجميل الميدان فرصة تكفير عن ذنوبهم؟ أين الدكتور الاستشاري ممدوح حمزة، أحد ثوار 25 يناير؟ ولماذا لا يضع تصورا معماريا جديدا للميدان، يضم مثلا نافورة راقصة مثل نافورة دبي، وحديقة داخلية تقام داخلها المنتديات والمناظرات مثل حديقة "هايدبارك" بلندن، والعديد من الجداريات التي تجسد أحداث الثورة، خاصة جمعة الغضب وموقعة الجمل؟ بل وإقامة نصب تذكاري عظيم ولوحة رخامية للشهداء تكتب عليها أسماؤهم وتليق بما قدموه من تضحيات لهذا الوطن، بدلا من الخوازيق الرخامية المنتشرة في ميدان التحرير والتي تعبر في الواقع عن "ذوق" وإنجازات النظام السابق. حمدي البصير [email protected]