لم تجد الحكومة خيارا أفضل للمحافظة علي وتيرة التنمية بالمعدلات التي تنشدها سوي اللجوء إلي ملاذ الإنفاق بقصد الاستثمار، ودون أن تفرق بين الطبيعة المختلفة للمردود من هذا الإنفاق، فهناك المردود الاجتماعي وهناك أيضا المردود الاقتصادي، وهذه التفرقة يترتب عليها أمورا كثيرة سوف نتعرض لها في حينه. وكان هذا الاختيار قناعتها وهي تتأهب لمواجهة إعصار الأزمة المالية العالمية بتوابعها الاقتصادية، واضطرت آنذاك أن تطرح علي مجلس الشعب مشروعا ملحقا بالموازنة العامة للدولة للموافقة الاستثنائية علي إدراج مبلغ 15 مليار جنيه يتم تدبيره علي حساب العجز، لإنفاقه علي بعض مشاريع البنية التحتية علي وجه الخصوص، بغرض إيجاد فرص عمل جديدة يمكنها أن تعوض ما قد يحدث من فقد لبعض الوظائف، خاصة المرتبط منها بأنشطة التصدير أو السياحة، أو لمقابلة أعداد العمالة المصرية المتوقع أن تفقد وظائفها بالخارج، وكان أن قدرت قيمة العجز بين مصروفات الإنفاق ومتحصلات الإيراد عن موازنة عام 2009/2010 بعد إضافة هذا الملحق إليها بنحو 94 مليار جنيه وهو الرقم الأضخم في عمر الموازنة -وبنسبة 8% من إجمالي الدخل القومي. ولابد من الإشارة إلي أنه ببلوغ هذه النسبة سوف يتعين علينا أن نتذكر دائما المعيار الدولي الذي وضعته اتفاقية ماستريخت -التي مهدت لقيام الاتحاد الأوروبي وهي بصدد وضع شروطها علي الدول الأوروبية التي تسعي للانضمام إلي الاتحاد يقضي بألا تزيد نسبة العجز لموازنة أي دولة عن 3% من إجمالي حجم دخلها القومي. وما يزيد من خطورة هذا الأمر هو ما يتردد حاليا من سعي الإدارة الحكومية لتدبير مبلغ آخر يتراوح ما بين 10 مليارات إلي 15 مليار جنيه للسير في نفس الاتجاه الإنفاقي الاستثماري خصما علي حساب العجز. ولعل في هذا التوجه ما يدعو إلي التنبيه إلي مخاطر الاستسلام لدوامة التمويل بالعجز، وهنا قد نجد من الصعوبة أن يمر هذا الفارق في العجز علي أذهاننا مرور الكرام دون أن نشير إلي بعض مخاطره، ولنذكر منها: أن عجز الموازنة عندما يتزايد إلي هذا الحد دون رابط، والذي تلتهم خدمته من فوائد وأقساط مستحقة نحو 25% من إجمالي الإيرادات المتاحة، فإن الأمر سوف يتطلب في يوم من الأيام إن آجلا أو عاجلا وقفة حازمة لمواجهته، ولن تخرج تلك المواجهة ساعتها عن سبيلين لا ثالث لهما: فإما اللجوء إلي إعادة النظر في بنود الدعم وتخفيض أو شطب بعض من مكوناته، أو البحث عن ضرائب جديدة يتم فرضها، وذلك كما حدث مع ضريبة المبيعات التي ظهرت فجأة ووضعت ضمن المنظومة الضرائبية مع بدايات عام 1990 تطبيقا لروشتة صندوق النقد الدولي الذي التجأنا إلي مد يد عونه في ذلك الوقت، أو اللجوء إلي هاتين الوسيلتين معا ليكتمل بذلك تعميق صعوبة الوضع حينئذ. والأثر السريع لهذا الموقف سيتمثل ساعتها في إعصار تضخمي، سواء علي المقياس الحديث الذي ابتدعه البنك المركزي، أو علي المقياس التقليدي المتعارف عليه، ولقد مررنا بتلك التجربة أكثر من مرة دون أن نعطي لها بالا أو اهتماما كافيا، ولعل آخر مرة علي سبيل التذكرة كان يوم أن رفع الدعم عن السولار فوصل التضخم إلي نحو 35% مازلنا نعاني من آثاره حتي اليوم. ودائما ما يعقب ذلك أثر انكماشي علي السوق نتيجة لانخفاض القدرة الشرائية، حيث إن أغلب أفراد المجتمع يعتمد في معيشته علي الدخول الثابتة، ويترتب علي ذلك عدم القدرة علي تصريف المنتجات أو تسويق الخدمات لدي المنتجين، وبالتالي الاستغناء عن الكثير من العمالة، فتتعمق أزمة البطالة أثكر من ذي قبل. وعندما تتآكل قيمة الجنيه نتيجة لذلك مع الإصرار في نفس الوقت علي تخفيض سعر الفائدة بقصد تشجيع المنظمين علي الاستثمار وخفض عبء التمويل الخارجي سنجد أن العائد علي مدخرات الأفراد في النهاية سيصبح بالسالب، علما بأن فئات كثيرة من المجتمع بعد تطبيق نظام المعاش المبكر وخلافه قد رتبت معيشتها علي هذا العائد من المدخرات، وفي هذه الحالة -والأمر كذلك- من الممكن أن يقع هؤلاء الناس في حبائل شركات توظيف الأموال الخارجية عن القانون. كما سنجد أن تمويل عجز الموازنة بهذا القدر الكبير من خلال المدخرات القومية -علي ضعفها- سيحرم القطاع الخاص من مصادر تمويله اللازمة لمباشرة نشاطه، سواء لمشروعات جديدة أو لتوسعات في مشروعات قائمة. وأخيرا فإن من شأن التمويل بالعجز أن يزيد من حجم المديونية بالنسبة للدخل القومي، وبالشكل الذي سيدعونا للتساؤل: متي وكيف إذن يمكننا أن نسدد هذا التراكم المستمر من الدين؟