جاءت زيارتي لماليزيا بعد بضعة أشهر من زيارة إلي اليابان، ولعل التشابه بين التجربتين في تحقيق طفرة في النمو والنهضة الاقتصادية والاجتماعية ليس بالشيء المستغرب، فقد تتلمذت ماليزيا - إن صح التعبير - علي النموذج الياباني الرائد والسبّاق في النهضة، الذي قدم يد العون بنقل التكنولوجيا اليابانية وتصنيعها أو تجميعها في ماليزيا، وكان ذلك بمثابة "اللبنة" الرئيسية في بناء التقدم الحالي الذي عرفه أبناء مهاتير محمد رئيس الوزراء السابق وصانع نهضتها الحديثة، وعرفوا كيف يستفيدون من الدعم الياباني لتحقيق القيمة المضافة القصوي. ولا أنكر أن هناك اختلافات بين النموذجين تقف لصالح اليابان من حيث الأرقام، لكنها تقف لصالح الإنسان في ماليزيا. فالنظام أو "السيستم" الصارم جداً في اليابان أفقد المواطن حيويته ومتعة الحياة، ولأن أي نهضة أو تقدم هي أولا وأخيرا لصالح الإنسان، فإن فكر مهاتير كان متميزا وحقق الاثنين معاً الرفاهية والتقدم الاقتصادي بالاحصاءات والأرقام، واستمتاع المواطن وحفاظه علي هويته وعاداته وتقاليده ومميزاته الثقافية والعرقية في نفس الوقت. ولو أن مهاتير محمد تغاضي عن القيم الإنسانية والمعنوية في عملية الإصلاح الاقتصادي، لكان حقق أرقاما مضاعفة في التنمية، والصادرات والناتج المحلي الإجمالي. إن النتائج في حد ذاتها ليست هدفاً في ماليزيا، وإنما الإنسان هو جوهرها.. لذلك يلاحظ السائح أن المواطن العادي يمتاز بخفة ظله، وإقباله علي الحياة، وبشاشته واتجاهه إلي إنجاب أكثر من طفل، خاصة في ضوء انتشار الإسلام الذي يحض علي التمتع بزينة الحياة، المال والأولاد في مقدمتها، كما يستمتع الماليزي بشتي الفنون كالرقص والموسيقي، الذي يميز التنوع الثقافي، والأكل وهو متنوع بشكل لا يضاهيه في أي ثقافة أخري. ورغم أن الزائر قد يستغرب في بداية إقامته بماليزيا ذلك التنوع الكبير في الأكل خاصة كمية التوابل المختلفة المستعملة في تحضيره، إلا أنه وبعد التجربة يمكن أن يستطعم الأطعمة رغم اختلافها، ولا اخفي إعجابي الكبير بوضع الأكل والغذاء علي رأس وسائل الترويج السياحي لهذا البلد، فالمعدة ليست بيت الداء هنا، وإنما دافع غريزي لقدوم السياح. ولا نجد الكثير من المطاعم التي تقدم الأكل الغربي، مثل سلاسل المطاعم العالمية المعروفة وغالبيتها أمريكية، لأن متخذي القرار في ماليزيا يريدون نشر ثقافاتهم المتنوعة، وتحقيق قيمة مضافة من تشغيل مطاعمهم، فهناك مزارعون سيستفيدون من الطلب المتزايد علي خضرهم وفواكههم، وهناك صيادون سيحققون المزيد من تنمية مجتمعاتهم الصغيرة.. إضافة إلي الصناعات الغذائية، والطلب علي العمالة وتوفير المزيد من فرص العمل في قطاع السياحة عموما. والذكاء الماليزي اتجه إلي جذب المزيد من السياح، فهو لا يفتخر برقم 20 مليون سائح، ويرتكن لهذا النجاح.. ودمتم، لكنه يسعي إلي مضاعفة هذا الرقم، مع حلول عام 20،20 ومن خلال ذلك يستطيع أن يحقق المزيد من النمو في مختلف القطاعات المغذية لصناعة السياحة، من مقاولات حيث يتم التوسع في بناء الفنادق وعلي فكرة هي تصنيف خمسة نجوم ولكنها تستحق عشرة نجوم والأغذية والمشروبات، والسفر والنقل الجوي، والصناعات التقليدية، والملابس الجاهزة وشتي البضائع والسلع، فكل مواطن ماليزي سوف تدخل جيبه ثمار من تلك الطفرة السياحية، بداية من سائق التاكسي مرورا بالمستثمر الكبير سواء صاحب الفندق والقرية السياحية أو صاحب المصنع، وصولا إلي الاقتصاد الكلي. ثمار التنمية سوف تتساقط علي المجتمع الماليزي، لذلك تجد الابتسامة تعلو الوجوه الآسيوية السمراء، ترحب بالسائح وتريد أن تخدمه بشتي الوسائل المريحة، فالحرص علي الضيافة لا يصل إلي حد الإلحاح البغيض، وتعكير الصفو، مثلما يحدث في بلدنا، حيث يشعر السائح أن الناس يريدون سرقة ما في جيبه. ومن علامات ذكاء البرامج السياحية المصممة للسياح، ممارسة الرياضة، فلا تستغرب أن يوقظك المرشد السياحي الساعة السادسة صباحا لتمارس رياضة في الحدائق العامة المنتشرة هناك، وهي تشبه رياضة "اليوجا" ومعروفة جدا في الثقافة الماليزية، فتظن أنك ستكون بمفردك تغني واحد اتنين يا دنيا جودمورنينج بونجور، وتكتشف أن هناك العشرات في "البارك" يشاركونك تلك الرياضة بخلفية موسيقية محلية ومدربا عجوزا محنكا يعلمك فنون اللعبة، وسط بهجة ومرح لا محدودين، وتخرج في نهاية المطاف بقيمة كبيرة في منتهي الذكاء، وهي أن صناع القرار تسللوا إلي "قلبك" وتمكنوا من سحبك إلي أرضيتهم الثقافية، وجعلوك تمر بتجربة المشاركة في حياتهم الاجتماعية، وعاداتهم، لأن المعايشة هي التمهيد الحقيقي للحب، ثم عشق البلد وتكرار الزيارة. ولدي الكثير من القصص الأخري الطريفة تعكس جميعها الذكاء الماليزي، الذي يتصرف بوعي وهدف محدد هو ضمان تكرار زيارة السائح، بل وجذب المزيد من الزبائن في المرات القادمة، ربما أتحدث عنها لاحقا، وإني أنحني تقديرا علي قدرة العقل الماليزي علي تنفيذ خطط تؤدي في الأخير إلي تحقيق النتائج المرجوة. واختم بكلمة يتخذها المسئولون الماليزيون شعارا: "مادام في الإمكان أن نحلم بالكثير فلماذا نخطط للقليل؟!"، وبنفس هذه المعاني والقيم يقول الفيلسوف شارل فرانس كترنج: "إن المستقبل يمكن أن يكون أي شيء نريده.. إذا صحّ عزمنا علي أن يكون كما نريد". ** الطوارئ مد الطوارئ في مصر لعامين خبر تصدر الأخبار العالمية في الصحف الماليزية.. وذيّل الخبر بأنه من المعروف أن الطوارئ تفرض في البلاد في حالة الحروب والنزاعات والإرهاب، أو الكوارث الطبيعية لذلك فمن الطبيعي أن ينظر إلي هذا الإجراء في إطار أحد هذه الأسباب. وقد واجهت سؤالا من سائحة بريطانية هناك عن أسباب مد الطوارئ إذا كان لا يوجد أي من تلك المبررات علي أرض الواقع، وكانت المعضلة أن اقنعها أن مصر آمنة، وتنعم بالاستقرار، ولا كوارث، ولا نزاعات، مع احترام عقلها!! شعرت من نظراتها أن هناك شيئا اخفيه.. هناك شيء ناقص في الإجابة ولعلي لا أختلف عنها كثيرا في هذا الشعور.