لم يكن مشهد المياه التي غمرت بعض الأراضي بمحافظة المنوفية خلال الأيام الأخيرة دليلاً على أزمة، بقدر ما كان انعكاسًا طبيعيًا لدورة النهر وسنة فيضانه الموسمية. فالمساحات التي تأثرت بالغمر ليست من القرى أو الأراضي الزراعية السكنية كما صوّر البعض، بل هي أراضي طرح النهر، وهي بطبيعتها جزء من القطاع المائي لنهر النيل، تتعرض للغمر في فترات ارتفاع المنسوب ثم تعود إلى حالتها الطبيعية مع انخفاض المياه. الفرق هنا أن الحكومة المصرية كانت مستعدة مبكرًا لهذه اللحظة، بخطط استباقية وإجراءات ميدانية شملت المحافظات المطلة على النهر من المنوفيةوالبحيرة إلى سوهاج والأقصر.
التحذيرات التي أطلقها رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي قبل أسابيع كانت واضحة وصريحة: كل من يتواجد على أراضي طرح النهر عليه أن يخليها فورًا، لأنها ليست صالحة للإقامة أو الزراعة في هذه الفترة من العام.
هذه الرسالة لم تأتِ ارتجالًا، بل جاءت بعد رصد دقيق لمعدلات التصريف القادمة من بحيرة ناصر، وقراءات تؤكد زيادة منسوب المياه نتيجة السيول في السودان وفتح بوابات سد النهضة الإثيوبي.
وكما أوضح خبراء الري، فإن فتح بوابات السد العالي بين الحين والآخر أمر معتاد لتخفيف الضغط على جسم السد وتنظيم تدفق المياه داخل المجرى المصري، وهو ما تم بالفعل خلال الأسبوع الأخير من سبتمبر، لتصل المياه إلى ذروتها في أكتوبر، المعروف تاريخيًا بأنه شهر الفيضان الموسمي.
في قلب المشهد، كانت محافظة المنوفية مركز الاستجابة الأولى، إذ تحرك المحافظ اللواء إبراهيم أبو ليمون إلى المناطق المتأثرة مثل جزيرة أبو داوود وقرية دلهمو، حيث تابع ميدانيًا أعمال رفع الجسور وتأمين الممرات، ووجّه بتعلية الجسر الرئيسي وتزويده بالإنارة ودعم الأسر المتضررة.
كما أعلنت المحافظة إعفاء المتضررين من الإيجارات السنوية بالتنسيق مع وزارة الري، في إشارة إلى حضور الدولة الميداني واستجابتها السريعة لأي آثار محدودة.
ولم تقتصر التحركات على المنوفية؛ ففي البحيرة أصدرت المحافظ جاكلين عازر تعليمات برفع الجاهزية في جميع الوحدات المحلية المطلة على فرع رشيد، مع تنفيذ خطة وقائية شملت خفض منسوب المياه احترازياً استعدادًا لأي زيادة مفاجئة.
أما في سوهاج والأقصر، فقد شددت غرف الطوارئ على المتابعة على مدار الساعة، والتنسيق بين الحماية المدنية ومديريات الري والزراعة لإخطار المواطنين المقيمين على أراضي الطرح بضرورة الإخلاء المؤقت.
ورغم تداول صور وفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي توحي بأن "المنوفية غرقت"، فإن الواقع الميداني يختلف تمامًا. فبحسب المتحدث باسم المحافظة معتز حجازي، فإن "المنازل التي تضررت غير مأهولة بالسكان وغير معدة للمعيشة، وقد سبق التنبيه على أصحابها بالإخلاء الفوري، لكن بعضهم لم يلتزم بالتحذيرات"، بمعنى آخر، ما حدث لا يتجاوز إطار أراضٍ مخالفة تم استخدامها خارج القانون في مناطق الطرح المائي.
وفي المقابل، جاءت شهادة نقيب الفلاحين حسين عبد الرحمن أبو صدام لتضع الأمور في نصابها الواقعي، حيث أوضح أن "غمر بعض الأراضي أمر متوقع وطبيعي ولا يدعو للقلق، وأن المساحات التي تأثرت لا تتجاوز ألف فدان على امتداد الجمهورية، بينما المساحات المزروعة فعليًا أقل من ذلك بكثير".
وأضاف أن "الأراضي التي تُزرع في طرح النهر تُستخدم أصلاً كمناطق تصريف موسمي، وأن أغلب المزارعين يعلمون هذا جيدًا ويتخذون احتياطاتهم السنوية".
تصريحاته لم تخلُ من بعد نقدي، إذ دعا الحكومة إلى استمرار دعم المتضررين وتعلية الجسور المحيطة بالجزر وتخفيف الإيجارات عن المستأجرين، لكنه في الوقت نفسه أكد أن "التهويل حول غرق المنوفية أو غيرها لا يمتّ للواقع بصلة، وأن الدولة تملك من الإمكانيات الفنية ما يجعلها قادرة على مواجهة أي فيضان أو جفاف بفضل منظومة السد العالي".
في السياق ذاته، يعكس تعامل الدولة مع هذا الحدث فلسفة الإدارة المصرية الجديدة في التعامل مع الأزمات الطبيعية: التحذير المبكر، التدخل الوقائي، والاستجابة الميدانية الفورية، فقد أثبتت تجربة ارتفاع منسوب النيل أن الأجهزة التنفيذية على استعداد دائم، وأن غرف العمليات المركزية بالمحافظات تعمل بتنسيق لحظي مع وزارة الري والتنمية المحلية، ما ضمن عدم وقوع خسائر في الأرواح أو الممتلكات.
وعلى امتداد المشهد، يبقى الثابت أن مصر آمنة. ففتح بوابات السد العالي وإدارة منسوب المياه عملية هندسية دقيقة تُنفذ وفق خطط زمنية ثابتة تضمن حماية البلاد من تقلبات الفيضان، كما أن ما جرى في المنوفية ليس أزمة بقدر ما هو دليل على كفاءة منظومة الإنذار المسبق والتنسيق بين مؤسسات الدولة.
إن ما حدث هو تذكير بسيط بأن نهر النيل ليس مجرد مجرى مائي، بل نظام بيئي متكامل يعيش ويتنفس وفق توازنات دقيقة، وأن إدارة هذا النظام تتطلب يقظة دائمة. ومصر، بخبرتها التاريخية وقدراتها المؤسسية، أثبتت مجددًا أنها قادرة على حماية النهر، وصون حياة من يعيشون على ضفتيه.