استرعي انتباهي خبر طالعته قبل أيام يفيد بأن الحكومة الإيطالية تنوي هذه الأيام تقديم اعتذار رسمي لليبيا عن الفترة الاستعمارية، التي احتلت خلالها ليبيا ما بين 1911 و1943، وتعويضها عنها من خلال بعض المشاريع التنموية العملاقة في ليبيا كإنشاء طريق سريع يربط منطقة رأس جدير علي الحدود الليبية التونسية بمنطقة السلوم علي الحدود المصرية. وذلك في إطار مساعي الإيطاليين لطي تلك الصفحة المؤلمة من تاريخ العلاقات بين البلدين المتوسطيين، اللذين يسعيان منذ أمد طويل للتوصل إلي اتفاق بشأن تعويض ليبيا عن سياسات إيطاليا الاستعمارية التي شملت ترحيل آلاف الليبيين إلي ايطاليا، توطئة لتوثيق عري التعاون فيما بينهما علي كافة الأصعدة مستقبلا. ولقد حفل التاريخ البشري المعاصر بنماذج رائدة في مجال رد الاعتبار للشعوب المقهورة وطي صفحات مؤلمة ودامية من تاريخها من خلال تقديم دول استعمارية أو دول مخطئة في حق تلك الشعوب في فترات تاريخية معينة، اعتذارات عما اقترفته في حقها من آثام أو تعويضها قدر المستطاع عما لحق بها من أضرار. ولعل النموذج الأبرز عالميا في هذا الصدد والذي يدنو من مستوي الابتزاز هو ما حصل عليه اليهود من اعتذارات عن الهولوكوست وما تحصلت عليه الدولة العبرية من تعويضات في صورة مساعدات اقتصادية وعسكرية هائلة وترضيات سياسية وقانونية من الدول الغربية، لم تنقطع حتي يومنا هذا، وقد لا تتوقف حتي قيام الساعة. غير أن النموذج الجدير بالتوقف عنده في تعاطي الدول الاستعمارية مع مستعمراتها السابقة هو ذلك الذي جسدته اليابان حيال الدول التي سبق وأن خضعت للاحتلال الياباني خلال النصف الأول من القرن الماضي، لاسيما الصين وكوريا. حيث سعت اليابان جاهدة إلي فتح صفحة جديدة مع تلك الدول تقوم علي السلام والتعاون وحسن الجوار، وتحرت في سبيل تحقيق ذلك كافة السبل. ففي العام 1995، قدم رئيس الوزراء الياباني في حينها اعتذارا رسميا للصين إبان زيارة لها عن فترة الاحتلال الياباني لها وما صاحبه من أعمال غير مقبولة. وفي منتصف أكتوبر من العام 2001، قدمت طوكيو اعتذارا للكوريين عن استعمار اليابان لبلادهم خلال الفترة من 1910 إلي 1945، حيث اعتذر رئيس الوزراء الياباني وقتها جونيشيرو كويزومي لكوريا الجنوبية عن القسوة التي عانت منها أثناء الاحتلال الياباني الذي دام 35 عاما، ففي أثناء زيارته لمتحف سجن سودامن، الذي شهد في الماضي عمليات مروعة شملت سجن وتعذيب وقتل سجناء كوريين جنوبيين، قال كويزومي "إنني أعتذر بصدق عن الألم والحزن الذي فرض علي الشعب الكوري تحت الحكم الاستعماري الياباني. " وخلال انعقاد القمة الآسيوية في جاكرتا والتي افتتحت أعمالها في 22 أبريل2005، دان رئيس الوزراء الياباني كويزومي مرحلة السيطرة اليابانية علي معظم دول جنوب وشرق آسيا وما رافقها من أعمال إجرامية ضد شعوبها، حيث قدّم اعتذاراً علنياً أمام القمة عما ارتكبه الجيش الياباني من أعمال همجية ضد شعوب دول الجوار، خصوصاً الصين وكوريا. كما عاود كوزيرومي مجددا اعتذار بلاده عن احتلالها للصين خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن المنصرم. وفي ذات السياق، أقرت وزارة التعليم في اليابان مؤخرا النسخة المعدلة من كتاب التاريخ المدرسي الذي تعرض لانتقادات حادة من جانب الصين وكوريا وبعض الدول الآسيوية التي خضعت للاحتلال الياباني، والفظائع التي ارتكبها جيش اليابان خلال سنوات 1931 1945. وجدير بالذكر أن قضية تعويض شعوب العالم الثالث، التي رزحت تحت نير الاستعمار الأوربي خلال الفترة من نهاية القرن الخامس عشر وحتي منتصف القرن العشرين، قد حظيت باهتمام واسع النطاق من قبل بعض المنظمات الحقوقية والإنسانية الغربية، التي وعت لمدي مسئولية الدول الاستعمارية الغربية عن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والأزمات السياسية والثقافية التي عصفت بدول العالم الثالث وظلت ملازمة لها حتي بعد تحررها من الاستعمار الأوربي. فضلا عن أهمية رأب الصدع في العلاقات بين الدول الاستعمارية وتلك التي كانت خاضعة لها فيما مضي من خلال إسهام الأولي في دعم مشاريع التنمية في تلك الأخيرة، والتخفيف من وطأة معاناتها، التي لم تكن هذه الدول النامية وحدها مسئولة عنها. فلطالما إرتأي الاستعمار في إشعال فتيل الفتن الطائفية والأزمات السياسية في الدول المحتلة مسوغا لبقائه وعاملا مساعدا لإطالة أمد ذلك البقاء. وفي هذا الإطار، يري روبرت يونج في كتابه الصادر في عام 2001 بعنوان "ما بعد الاستعمار: مقدمة تاريخية"، أن "حركة مراجعة الذات الغربية في علاقتها بالشرق" بدأت في الغرب ذاته عن طريق نظريات وحركات اجتماعية غربية _ علي رأسها الاشتراكية - انتقدت الأبعاد السلبية للثقافة الأوربية الرأسمالية واستغلالها للشعوب المستضعفة في أوربا والعالم، ويقول يونج أن نقد الاشتراكية القوي لمشاكل الثقافة الرأسمالية عجز عن تقديم وجهة نظر أبناء الشعوب الشرقية أنفسهم لأن الاشتراكية ظلت دائما منتجا ثقافيا غربيا ينطلق من منطلقات فكرية غربية، لذا ظهرت في مرحلة تالية حركات نقد قادمة من الشرق ذاته تبلورت بشكل واضح مع صعود حركات الاستقلال الوطنية في منتصف القرن العشرين. ويعتقد يونج أن حركات الاستقلال الشرقية عن الاستعمار الأوربي قدمت إسهامات هامة لحركة "مراجعة الذات الغربية في علاقتها بالشرق" لأن حركات الاستقلال سعت لإعادة اكتشاف الثقافات الشرقية الأصلية، كما أنها فضحت الآثار السلبية للاستعمار الأوربي علي المجتمعات الشرقية، كما قدمت نقدا للثقافة الغربية نابعا من منطلقات الشرق ذاته. وكم تتوق شعوب دول العالم الثالث التي عانت من ويلات الاستعمار ونهبت ثرواتها وخيراتها علي يديه وتفجرت مشكلاتها الإثنية والحدودية بفعل مؤامراته وسياساته التوسعية، إلي مبادرة جريئة وشجاعة من الدول الاستعمارية الغربية علي غرار تلك التي قامت بها اليابان حيال جيرانها من أجل بناء علاقات أفضل تضع أسسا أكثر رسوخا لحوار بين الثقافات والحضارات. وأحسب أن خطوة مهمة وملحة كهذه تتطلب جهودا حثيثة من قبل الغرب والشرق علي السواء، حيث يتعين علي الدوائر السياسية والقانونية والحقوقية علي الجانبين أن تتعاون وتتضافر جهودها لحث الحكومات والشعوب الغربية علي القيام بالمبادرة المرجوة في هذا الصدد. وظني أن السبيل الأمثل لبلوغ تلك الغاية يكمن في تلاقي الجهود من أجل صوغ آليات أو قواعد قانونية دولية ملزمة تعكف علي إعادة الاعتبار للدول النامية التي خضعت لاستعمار واستنزاف الدول الاستعمارية لعقود طويلة حيث أسهمت موارد وخبرات الأولي في بناء نهضة وتقدم تلك الأخيرة. فمن شأن تلك الآليات والقواعد أن تحض الدول الاستعمارية السابقة علي تقديم الاعتذارات و التعويضات للدول التي كانت خاضعة لها يوما ما بعد الاعتراف بالجرائم والأضرار التي ألحقتها تلك الدول الاستعمارية بالدول التي استعمرتها. ويمكن للعالم أن يبدأ من قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 لسنة 1960 والمتعلق بمنح الشعوب استقلالها، وكذلك لجنة الاستعمار التي تشكلت بعد ذلك، فتلك بدايات يمكن الإنطلاق منها نحو آليات وقواعد دولية أكثر فعالية ليس من أجل إزالة آثار الاستعمار القديم فحسب، وإنما للحيلولة أيضا دون تفاقم وتفشي ظاهرة الاستعمار الجديد الذي ترسف في أغلاله هذه الأيام شعوب دول مثل أفغانستان و العراق وقريبا السودان والصومال.