ما يجري هذه الأيام في لبنان يجعلنا نضع ايدينا علي قلوبنا وعقولنا في محاولة لفهم ما يجري. تنظيم فلسطين الأصل سوري التربية والنشأة قاعدي المذهب والعقيدة، يخرج علي السطح فجأة ويوجه مدافعه ضد الجيش اللبناني وتدور معركة علي مدي أسبوعين يدفع فيها الشعب اللبناني والشعب الفلسطيني الكثير وتتفرج سوريا وتقف الأنظمة العربية موقفا بين الإدانة والحياد ويتساءل المواطن العربي هل كان ينقصنا ظهور تنظيم إرهابي آخر ليزيد من اشتعال النيران التي كانت مشتعلة بالفعل في لبنان. ونظرة إلي ما يجري في لبنان بل وفي العالم العربي كله بل والإسلامي كله لا تسر حبيبا أو حتي غريبا، فالنيران تشتعل في كل مكان من أفغانستان شرقا وحتي الجزائر والسودان والصومال مرورا بالعراق ولبنان وفلسطين. هذه النيران غير المقدسة تشمل المنطقة الممتدة من أواسط آسيا حتي المحيط الأطلسي غربا ويحك الإنسان رأسه بعنف ويشم رائحة شياط العقل وهو يتساءل: لماذا؟ لماذا هذه المنطقة دون العالم كله تشتعل فيها حروب وحرائق غريبة هي أقرب إلي الحروب والصراعات الأهلية والعرقية والمذهبية. يقول الجاهزون سلفا بالأجوبة انه من فعل الاستعمار والصهيونية ونقول نحن نعم لقد كان ومازال الاستعمار وبشكل أخص الولاياتالمتحدة وإسرائيل يعمل علي إخضاع المنطقة لنفوذه وسيطرته ولكن الاستعمار ليس ظاهرة جديدة فطوال القرن العشرين كله كان الاستعمار يلعب دوره في دول آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية مثلما في العالم العربي. وطوال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كان الاستعمار يلدغ في كل مكان لكن رد الفعل العربي كان مختلفا فحينما جري العدوان الثلاثي علي مصر 1956 هبت كل الشعوب العربية لمناصرة الشعب المصري وانتصرت حركة التحرر المصري والعربي وحينما جري انزال القوات الامريكية في لبنان والقوات الانجليزية في الأردن في أعقاب الثورة العراقية 1958 وقفت الشعوب العربية كلها ضد هذا الغزو الذي انتهي بانسحاب هذه القوات. وفي الجزائر والمغرب وتونس والجنوب اليمني وقف الشعب العربي يساند تلك الشعوب في معاركها ضد الاستعمار حتي حصلت علي استقلالها وحتي بعد هزيمة 1967 أعطت قمة الخرطوم الشهيرة دفعة قوية لمصر وسوريا والأردن وبرزت منظمة الجزيرة الفلسطينية التي أصبحت الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. كان هذا أيام زمان أيام كانت المعركة مباشرة بين الشعوب العربية والمؤامرات الاستعمارية والصهيونية وكانت حركة التحرر العربي جزءا من حركة التحرر العالمي التي شملت بلدانا عديدة في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية ولم يكن للدين والجنس والعرق والمذهب ودور تلك الحركة العالمية. لكن صراعات هذه الأيام في العالم العربي والإسلامي شيء آخر فهي في غالبيتها صراعات دينية وعرقية ومذهبية تكاد تغرق المنطقة كلها إن لم تكن قد أغرقتها بالفعل في حروب وصراعات داخلية بينما يقف الاستعمار والصهيونية في بلكونة المتفرج وهو يصفق للمآسي الدامية التي تجري أمامه. والسؤال الذي يجب أن نطرحه ويجب أن نبحث عن اجابة شافية له هو لماذا تشتعل الحرائق في المنطقة العربية والإسلامية فيما هناك في مناطق أخري لا تقل أهميتها الاستراتيجية عن منطقتنا مضت في طريق آخر تماما وحققت نجاحات ملحوظة في بناء المجتمعات المصرية والديمقراطية مثل الصين والهند والنمور الآسيوية وفي أمريكا اللاتينية التي كانت تعتبر الفناء الداخلي للولايات المتحدة بل وحتي في افريقيا جنوب الصحراء حيث قامت النظم الديمقراطية وارتفعت معدلات التنمية. بالتأكيد فيه حاجة غلط في منطقتنا العربية والإسلامية.. لكن أين؟ الأمر يحتاج إلي رصد موضوعي ودقيق لما يجري علي الساحة بعيدا عن حالة الدردشة القدرية والسطحية والانفعالية وذلك لنضع ايدينا علي أسباب تلك المأساة الكئيبة التي تلم بالعالم العربي والإسلامي. ما معني هذا القتال الذي جري ويجري في لبنان يسقط فيه القتلي والجرحي وليس في معركة ضد اسرائيل والاستعمار بل في معركة داخلية حول الفرق والتنظيمات المختلفة خاصة تلك التي ترفع رايات دينية مثل فتح الإسلام لقد ناصرنا وأيدنا حزب الله في معركته ضد اسرائيل ووقفت كل القوي اللبنانية والشعوب العربية موقفا مساندا للحزب رغم أن الذي أثار المعركة هي مليشيات حزب الله ولكنا لن نستطيع أن نفهم أو نتفهم محاولة حزب الله واصراره علي أن يكون دولة داخل الدولة رافعا شعاراته الدينية وخارجا علي كل القواعد الديمقراطية في بلد تقوم فيه السلطة علي أساس توازنات بين أديان وأعراق مختلفة. ما معني ما يجري في غزة وما تقوم به حماس بشعاراتها الدينية والتي تؤدي إلي زيادة الآلام والأوجاع الفلسطينة فطوال أكثر من عام منذ وصول حماس إلي السلطة يتعرض فيها الشعب الفلسطيني إلي حملة ضارية من الحصار أو التجويع، نعم جاءت حماس إلي السلطة من خلال انتخابات ديمقراطية ولكنها في الوقت نفسه تصر علي المضي علي طريق المزيد من الآلام للشعب الفلسطيني وتتجاوز الكثير من قرارات حكومة الوحدة الوطنية التي ترأسها وتعطي إسرائيل الفرصة كاملة للرد علي صواريخ حماس غير المؤثرة بضربات موجعة للفلسطينيين. وهذه المعارك الدامية التي جرت بين حماس وفتح في غزة وسقط خلالها عشرات القتلي والجرحي ماذا تعني؟ إنها تعني بوضوح أن قيادات حماس وفتح لم تعد تشغل بالها بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة بقدر اهتمامها بتأكيد سيادتها علي المقدرات الفلسطينية وليذهب الشعب إلي الجحيم. وفي العراق تجري المذابح اليومية البشعة التي راح ضحيتها حتي الآن خلال الأعوام الثلاثة الماضية أكثر من 150 ألف عراقي مدني غالبيتهم من النساء والأطفال والفقراء المطحونين الذين يتجمعون في الأسواق الشعبية وفي المساجد أو حول مكاتب العمل، ويقوم باغتيالهم فرق الموت المحترفة أحيانا باسم السنة واحيانا باسم الشيعة والاحتلال الأمريكي يتفرج منتشيا. وفي الصومال مثلما في أفغانستان تخرج لنا جماعات مختلفة تمولها جهات ومصادر مشبوهة عربية وغير عربية تحت اسم المحاكم الشرعية الإسلامية وتحويل الصومال إلي قاعدة للحركات الأصولية، وفي دارفور في السودان تدور معركة بين مسلمين ومسلمين وعلي أساس عرقي وقبلي وفي الجزائر تقوم الجماعات السلفية بحرق القري وقتل الأطفال تحت دعوي ابن الكافر كافر، فالكل كافر فيما عداهم. فيه حاجة غلط.. ولكن أين؟! * هل هي في الأنظمة المستبدة الحاكمة والمتحكمة في غالبية العالم العربي والإسلامي؟ * أم انها نتيجة للمؤامرات الاستعمارية التي تثير الفرقة والانقسام داخل العالم العربي؟ * أم انها نتيجة مباشرة لتلك الاتجاهات التي تخلط بين الدين والسياسة وراحت تتحدث عن شرعية السماء التي احتكرت ملكيتها؟ انها ولا شك كل هذا..