بقلم : موسى راغب من الواضح أن معظم الدول الغربية وعدداً من النخبة في وطننا العربي يوجهون أصابع الاتهام إلى النظام القائم في سوريا فيما يتصل بعملية الاغتيالات السياسية التي وقعت وتقع في لبنان .. كان آخرها اغتيال الشاب النائب بيار أمين الجميل الذي يعد من أبرز المعارضين الأشداء لدمشق . فقد ذهب بعض الكتاب إلى عنونة مقاله حول عملية الاغتيال هذه ب "الباقي اثنان" ، بمعنى أن على السوريين أن يقوموا باغتيال عضوين آخرين من وزراء قوى 14 آذار التي تشكل الأغلبية في البرلمان اللبناني ، حتى يضمنوا سقوط الحكومة الحالية برئاسة السنيوره . كما استشهد البعض الآخر بتصريح أدلى به وليد جنبلاط المعارض الأكثر تشدداً ضد سوريا قال فيه قبل يومين من عملية اغتيال بيار : إن لبنان سيشهد في الأيام القادمة مرحلة جديدة من الاغتيالات السياسية بهدف الإطاحة بالحكومة اللبنانية الحالية . وإذا كنا نأخذ بمثل هذه التصريحات التي تتنبأ (مسبقاً) بما يمكن أن يقدم عليه النظام السوري وقوى المعارضة اللبنانية المؤيدة له من أعمال لإسقاط حكومة السنيورة ، فهذا يعني أن أصابع الاتهام كانت ستوجه بصورة آلية ومسبقة للنظام السوري ، سواء كان مسئولا عن عملية الاغتيال هذه أم لا ، هذه واحدة . أما الثانية ، فهي أن أياً من الشخصيات أو الأحزاب اللبنانية المعارضة لكل أشكال النفوذ السوري في لبنان ، لم تحاول - سواء بالتصريح أو بالتلميح - توجيه أي اتهام للقوى والأحزاب اللبنانية المعارضة لحكومة 14 آذار بتنفيذ سلسلة الاغتيالات التي جرت مؤخراً في لبنان ، وتجددت الآن باغتيال وزير الصناعة النائب بيار الجميل .. وإنما سارعت باتهام النظام السوري بارتكاب هذه الجريمة النكراء وما سبقها من جرائم الاغتيال ، دون أن تنتظر نتائج التحقيقات التي عادة ما تجري في مثل هذه الأحوال . وهذا يعني أن سوريا أصبحت في عرف قوى 14 آذار المستهدف الرئيس لكل ما يصيب لبنان من اضطرابات وقوى 14 آذار ذاتها من نكسات . والنقطة الثالثة التي يجب أن ننتبه إليها جيداً هي أن التركيبة السياسية والاجتماعية في لبنان تتصف بقدر كبير من التعقيد بسبب تعدد الطوائف والمذاهب والأديان والاتجاهات السياسية والعقائدية السائدة ، والتي تتأثر بعوامل داخلية كوجود خلل في توزيع الموارد والثروات على مختلف طوائف الشعب اللبناني ، والإبراز المتعمد والمستفز لمواطن التباين والاختلاف بين المذاهب والطوائف المهيمنة في المجتمع اللبناني ومدى تفاعل كل منها سلباً أو إيجاباً مع الآخر ، كما تتأثر بعوامل خارجية مثل علاقات لبنان بالدول العربية التي باتت تنظر إليه من خلال علاقته بسوريا ومواقف حكومته من حزب الله وإيران ، فضلاً عن تأثر تلك التركيبة بمواقف الدول الغربية من لبنان ، والتي عادة ما تنظر إليه عبر علاقاته مع سوريا وحزب الله وإيران مثل فرنسا وأمريكا وغيرهما . وهذا يعني أن التعقيد الشديد في التركيبة الديمغرافية للبنان لا بد وأن يتدخل بصورة أو بأخرى في كل ما يجري فيه من أحداث ، وبخاصة إثارة الفوضى وأعمال الشغب والاغتيال لشخصيات لها موقعها الاجتماعي والقيادي في الطائفة أو العقيدة أو المذهب الذي تنتمي إليه ، كما الحال بالنسبة لاغتيال النائب والوزير الشاب بيار ابن رئيس حزب الكتائب اللبناني الشيخ أمين الجميل . أما النقطة الرابعة فهي أن لبنان أصبح - في ظل الصراع العربي الإسرائيلي - ساحة لتصفية الحسابات بين القوى الإقليمية والدولية .. كل حسب مصالحة وسياساته في المنطقة . فلكون لبنان واحداً من دول الجوار بالنسبة للكيان العبري أولاً .. ثم وجود حزب الله المناهض لإسرائيل وسياسات أمريكا في المنطقة في جنوبه ثانياً .. وبعد أن احتلت القوات الأمريكية العراق ومن قبله أفغانستان وأخذت تهدد إيران وسوريا اللتين تدعمان حزب الله ثالثاً ، كل ذلك جعل من لبنان أرضاً مستباحة لتصفية الحسابات وحسم بعض القضايا التي مازالت عالقة في لبنان والمنطقة العربية بعامة . فبتنا نسمع عقب اغتيال الوزير بيار الجميل تصريحات تصدر عن أنصار الحكومة تتهم سوريا بتنفيذ عملية الاغتيال هذه بهدف إسقاط الحكومة وتعطيل المحاكمة الدولية للمتهمين بقتل رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري ، بينما نسمع تصريحات مقابلة تصدر عن القوى المعارضة للحكومة تتهم فيها قوى 14 آذار بتنفيذ عملية الاغتيال هذه ، بهدف تعطيل خططها الرامية لإسقاط الحكومة الحالية وتشكيل حكومة وحدة وطنية ، أو إجراء انتخابات تشريعية جديدة تأتي بحكومة وحدة وطنية تمثل جميع طوائف لبنان وأطيافه السياسية . كما تؤكد قوى المعارضة المتمثلة في حزب الله وحركة أمل إضافة لقوى سياسية أخرى ، على أن المستفيد الأول من عملية الاغتيال هذه ليست المعارضة أو سوريا وإنما قوى 14 آذار والحكومة اللبنانية التي تفتقد - في نظر المعارضة - للشرعية ، فضلاً عن خشيتها من الاحتكام للشارع اللبناني في إقرار شرعية هذه الحكومة أو بطلانها . وليس من شك أن هذه المواقف تتشابك وتتفاعل مع مصالح وسياسات القوى الدولية والإقليمية التي تتأثر وتؤثر في مجرى الأحداث وصنعها في المنطقة العربية بعامة وفي لبنان بصفة خاصة ، ولا يهمها أن تغتال مؤيديها قبل معارضيها ، إن كان ذلك يصب في مصلحتها ويعين في تنفيذ سياساتها ويحقق أهدافها في لبنان والمنطقة . أما المسألة الخامسة التي تتصل بالوضع في لبنان بشكل عام ، فيتمثل في وجود حوالي 350 ألف لاجئ فلسطيني فيه تتردد الدعوات بين الحين والآخر لتوطينهم في لبنان . وخطورة هذا التوطين - إن حدث - يكمن في الإخلال بالتركيبة الديمغرافية للبنان ، والتي يقوم على أساسها التوافق الطائفي الذي يحكم تشكيل الحكومات وتوزيع المناصب القيادية في الدولة ، الأمر الذي سيخل حتماً بالتوازن القائم بين الطائفتين الشيعة والسنة المسلمتين من ناحية ، كما سيخل بالتوازن بين المسلمين والطوائف المسيحية من ناحية أخرى . وهذا ما أكده العداء المرير والدامي الذي واجهه الفلسطينيون المدنيون من طوائف لبنانية معينة (المارونيون وحركة أمل) أثناء الحرب الأهلية التي شهدها لبنان ، وبخاصة بعد رحيل المقاومة الفلسطينية لتونس عام 1982 حيث تعرضوا لمذابح رهيبة على يد المليشيات المارونية ، كان من أبشعها تلك المذبحة التي ارتكبتها تلك المليشيات ضد المدنيين الفلسطينيين في تل الزعتر . فهاجس توطين الفلسطينيين المتواجدين في لبنان ، يؤرق الكثير من الطوائف الإسلامية والمسيحية على حد سواء وبخاصة الطوائف غير السنية من المسلمين وكذلك الطوائف المسيحية كما أسلفنا ، رغم إعلان الفلسطينيين الدائم رفضهم لكل مشاريع التوطين سواء في لبنان أو في أي بقعة أخرى في العالم . غير أن إدراجنا لهذا العامل ضمن المشكلات التي يعاني منها لبنان ، لا يعني إمكان تدخله بصورة مباشرة أو غير مباشرة في عملية اغتيال الوزير الشاب بيار الجميل ، وإنما يجيء في سياق توضيح كمّ المشاكل التي يعاني منها لبنان في ظل الأوضاع العربية والدولية السائدة ، والتي تجعل من هذه المنطقة ساحة للصراع على النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية وبخاصة في غياب الفعل العربي المؤثر فيما يجري في المنطقة من أحداث . والنقطة السادسة التي تلعب دورا في تحديد سياسة لبنان في المحيطين العربي والدولي ، كونه دولة يغلب عليها الطابع المسيحي ، حيث يعتبر وجودها - في نظر الغرب - عامل توازن للوجود العبري في المنطقة (على المدى الطويل على الأقل) ، وإن بدا مثل هذا القول أمام النخبة وفي نظر القادة العرب أمراً يبعث على الاستغراب إن لم يكن الاستهزاء والتندر . أما النقطة السابعة التي تؤرق الكثيرين من الطوائف الموالية فكرياً وثقافياً وعاطفياً ودينياً للغرب ، فتتمثل في حقيقة أن سوريا ولبنان وفلسطين والأردن تشكل في مجموعها سوريا الكبرى (بلاد الشام) ، وأن خصوصية العلاقة بين شعبي سوريا ولبنان بالذات - بغض النظر عن طبيعة النظامين القائمين فيهما - ليس من السهل على أي طائفة أو فريق سياسي لبناني أو سوري تجاهلها ، الأمر الذي غالباً ما يدفع أعداء الشعبين للعمل حثيثاً على تعكير العلاقات بينهما . لهذه العوامل وغيرها ، فإن المسألة تتمحور الآن حول نقطة واحدة باتت تقسم المجتمع اللبناني لفريقين متقابلين : الأول يرى أن العلاقة بين بيروت ودمشق ، علاقة وطيدة تاريخياً وجغرافياً وديمغرافياً وحتى طائفياً ، ولا يجب فصمها أو التقليل من أهميتها ، بل يجب الحفاظ عليها تحت كل الظروف . أما الفريق الآخر فيرى أن هذه العلاقة قد تصبح خطراً محققاً يهدد استقلال لبنان إذا ما تجاوزت حدود العلاقات البينية المتواضع عليها دوليا . وبين هذا الرأي وذاك ، تظهر أطراف أخرى تناصر أحدهما على الآخر بدافع مصالح محلية أو إقليمية أو دولية تزول بزوال مسبباتها والحاجة إليها ، وإذا ما انتصرت أو سادت فإلى حين لأنها ليست متجذّرة في ضمير شعبيهما ولا تخدم مصالحهما . وهنا تظهر محاولات خبيثة للإيقاع بين الشعبين والنيل من الخصوصية التي تجمع بينهما كوقوع عمليات اغتيال وتفجير وافتعال الأزمات وتبادل الاتهامات بين البلدين . وليس من شك أن وجود الكيان العبري - بما يتمتع به من قوة طاغية - بجوار لبنان ، وما له من مصالح كالتخلص من اللاّجئين الفلسطينيين (عام 48) وتوطينهم حيث يقيمون فيه ، أو للحيطة من الخطر الإيراني الذي يعتمد في وجودة على تماس حزب الله مع حدود إسرائيل الشمالية ، إضافة لأخطار إسلامية أخرى يتحسب لها الكيان العبري .. كل ذلك دفع بالدولة اللبنانية لكي تتوزع في اتجاهين مختلفين ، أولهما : تأييد بقاء النفوذ السوري في لبنان وتوظيفه فيما يراه أصحاب هذا الاتجاه دعماًً للتصدي العربي ضد أطماع الكيان العبري الاستيطانية والهيمنة الأمريكية على المنطقة ، والثاني معارض لهذا النفوذ بكل أشكاله وألوانه ومبرراته خشية أن يفقد لبنان استقلاله . وليس من شك أن التناقض بين هذين الاتجاهين لا بد أن يخلق مشاكل من قبيل استخدام عمليات الاغتيال والتخريب وتوزيع الاتهامات ونشر الإشاعات التي تستهدف في مجموعها إيجاد أجواء مشبعة بعدم الثقة بين الشعبين والإيقاع بينهما . هذه هي المشكلات الحقيقية التي يعاني منها لبنان الآن ، كما تعاني منها دول عربية أخرى باتت نهباً للمخاوف .. ليس من التدخلات الأجنبية فحسب ، وإنما من التوجهات السياسية والعقائدية التي يجنح الكثير منها داخل المنطقة العربية للتطرف والتعصب الأعمى ، حتى أصبحت تمثل تهديداً خطيراً يستوجب قلعه من جذوره . ولنا فيما حدث ويحدث بالنسبة لتقويم الفشل الذريع والهزة العميقة التي أصابت إسرائيل وجيشها على يد حزب الله في الحرب القذرة التي شنتها إسرائيل على لبنان مؤخراً .. مثلا يستحق منا التأمل بعمق وروية . فحين سكتت المدافع وأخذ جيش الكيان العبري وساسته يلعقون جراحهم ، راحت بعض الفئات النخبوية في العالمين العربي والإسلامي تهوّن من الآثار المدمرة للزلزال الذي أحدثته تلك الحرب في الكيان العبري ، والذي دفع بالصهاينة ومؤيديهم الأمريكان لاتخاذ قرار بإعادة تأهيل الجيش الإسرائيلي الذي لم يستطع - رغم ما لدية من أسلحة وعتاد متقدم ومعرفة تكنولوجية متطورة - أن يصمد لأكثر من ثلاثة أو أربعة أيام في المعارك الصدامية المباشرة مع مقاتلي حزب الله . كل ذلك حدث بدعم من إيران وسوريا لحزب الله "شيعي المذهب" الذي يعمل - في رأي قوى 14 آذار - ضد الدولة العبرية لصالح الأجندة الإيرانية التي تريد "تشييع" المنطقة وإعادة مجد إمبراطورية فارس من ناحية ، ويعمل على تعطيل صدور القرار الذي كان مجلس الأمن على وشك إصداره بشأن تشكيل محكمة دولية خاصة تقوم بمحاكمة المتهمين باغتيال رئيس وزراء لبنان السابق المرحوم رفيق الحريري ، والذي يعتقد بأن سوريا متورطة في عملية اغتياله من ناحية أخرى . وهذا ما قد يحتسب عاملاً آخر لدعم الاتهام القائل بان سوريا تقف وراء عمليات الاغتيال التي وقعت في لبنان وكان آخرها اغتيال الشاب بيار أمين الجميل . وقد ذهب بعض هذه النخبة إلى حد القول بأن ما فعله حزب الله لا ينبغي أن يخرج عن نطاق مفهوم واحد ، وهو خدمة النظام في إيران الذي يتبنى تصدير الثورة الإيرانية للمنطقة العربية ونشر المذهب الشيعي فيها . لذلك فإن "التشيع" لحسن نصر الله انبهاراً بالانتصار الذي حققه حزب الله في تصديه للقوات الإسرائيلية التي حاولت غزو جنوب لبنان مؤخراً ، لا يجب - في رأي هذه النخبة - أن يأخذنا بعيداً عن حقيقة المذهب الشيعي الذي يهاجم صحابة رسول الله رضي الله عنهم ويسب أم المؤمنين السيدة عائشة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد ذهب البعض في ذلك إلى حد تكفير الشيعة والتوصية بعدم الدعاء لهم بالنصر ، مع معرفتنا المتواضعة بأن كل من ينطق بالشهادتين ويقر بالقرآن كتاباً منزلاً من السماء وأن محمداً نبي الله ورسوله هو مسلم لا يجوز تكفيره . والشيعة - على حد علمنا - هم ممن ينطقون بالشهادتين . لكن هذا لا يمنعنا من الاستنكار الشديد لكل من يتعرض بسوء لأم المؤمنين السيدة عائشة زوجة النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه ولآل بيته وصحابته رضي الله عنهم . ما يهمنا من هذا كله هو أن ثمة خطراً حقيقياً يتربص بأمتنا العربية والإسلامية ، متمثلاً في إسرائيل والمحافظين الجدد في أمريكا والعالم ، وفي اليمين المسيحي المتصهين الذي بدأ ينتشر ضد العرب والإسلام والمسلمين في أمريكا والدول الأوربية . فما لم ينتبه العرب مسلمين ومسيحيين في لبنان وغير لبنان لهذه الحقيقة ، فإن التوسع العبري الاستيطاني في المنطقة سوف يستمر ليتجاوز أراضي فلسطين إلى الأرض العربية من الفرات إلى النيل بحسب بروتوكولات حكماء صهيون . فليس من المستبعد - إن لم يكن يقيناً - أن تقف إسرائيل وأمريكا وراء اغتيال الشاب بيار الجميل بهدف إرباك الأوضاع اللبنانية التي يسودها أصلاً القلق وعدم الاستقرار قبل وقوع هذه الجريمة القذرة . وكم احترمت الشيخ أمين الجميل - برغم أنه وأخيه بشار الجميل كانوا ممن سمحوا بإراقة الدم الفلسطيني على أرض لبنان خلال الحرب الأهلية اللبنانية - حين دعا أتباعه ب"الابتعاد عن الغرائز والانتقام" في التعامل مع هذا المصاب الجلل حفاظاً على مصلحة لبنان ووحدة شعبه .. بًعيد وصول نبأ مصرع ولده مباشرة إليه . وكم يكون حكيما لو واصل هذا النهج وقاد الثورة المتأججة في نفوس أتباعه ومؤيديه إلى بر الأمان ، حتى يأمن لبنان شر وقوع حرب أهلية أخرى لا يعلم إلا الله كيف ومتى وأين ستنتهي . فتعازينا الحارة لهذا الأب على مصابه الجلل ودعواتنا له ولكل اللبنانيين بالنجاة من المكائد والدسائس التي يحيكها أعداء لبنان الصابر وأعداء هذه الأمة إنه سميع مجيب الدعوات .