هالني في كل مرة أزور فيها قريتي أنه علي طول الطريق من القاهرة الي المنصورة - حوالي 140 كيلومترا - تكاد تكون المباني متصلة، وليس هناك تقريبا كيلومتر مربع واحد يخلو من مبني أو عدة مبان. واعتقد أن ذلك هو الحال في كل الدلتا ووادي النيل الامر الذي لابد ان يشعل كل اشارات الخطر والخطوط الحمراء وفوق الحمراء، فالقضية ليست اقل من كونها اجابة عن السؤال الحائر هذه الأيام: نكون أو لا نكون؟ مع الاعتذار لوليام شكسبير وأميره هاملت. ويزيد الطين بلة هذه التصريحات غير المسئولة من وزراء مسئولين حول السماح بالبناء علي الأراضي الزراعية وتحويل 600 ألف فدان زراعي الي مبان سكنية في الدلتا تحت دعوي الواقعية وملء فراغ ما يسمي بالمساحات المتخللة. القضية خطيرة بالفعل وتمس الأمن القومي، وهل هناك أمن قومي أهم من وادي النيل الذي كسبه أجدادنا وأقاموا علي ضفافه أول حضارة زراعية إنتاجية في التاريخ. ولقد حذرت كثيرا في مقالات ودراسات وندوات من هذا الاتجاه، واخذت أدق ومازلت كل أجراس الخطر محذرا ومنذرا أنه مع استمرار انعدام التخطيط والسياسات العشوائية في الزراعة فاننا سنفقد غالبية أراضي الدلتا ووادي النيل في العقد الثالث من هذا القرن. والتقرير الصادر عن التنمية البشرية في مصر في العام الماضي يحذر من ضياع اكثر من نصف الاراضي الزراعية في وادي النيل بحلول عام 2020 اذا استمرت حالة البناء عليها بالمعدلات السائدة، كما اشار التقرير الي اهدار اكثر من 1.5 مليون فدان من الاراضي الزراعية الخصبة في وادي النيل نتيجة السياسات الزراعية المتضاربة وغياب التخطيط. وجوهر المشكلة أننا نمتلك رقعة زراعية محدودة للغاية هي دلتا ووادي النيل التي يقيم عليها حتي الآن 95% من السكان، رغم انها لا تمثل سوي 5% من مساحة مصر الكلية، وضمن لنا بناء السد العالي في الستينيات رصيدا متجددا من بنك المياه، سواء لاستصلاح أراضي الصحراء الواسعة المحيطة أو تحويل ري الحياض في اكثر من مليون فدان في صعيد مصر الي ري دائم، مما يعني مضاعفة مساحتها الانتاجية، نحن لدينا حاليا 6 ملايين فدان من الاراضي الزراعية تصل مساحتها الانتاجية الي حوالي 9 ملايين فدان. وهي مساحة محدودة للغاية خاصة مع الزيادة المطردة للسكان ونستطيع ان ندرك ذلك حين نعلم ان السودان مثلا لديه اكثر من 50 مليون هكتار قابلة للزراعة، ولدي العراق حوالي 2 مليون هكتار علما بان الهكتار أكثر من فدان ونصف الفدان. وفي مطلع القرن العشرين أي منذ مائة عام كانت مساحة الاراضي الزراعية في مصر 4.5 مليون فدان ومتوسط نصيب الفرد من الاراضي الزراعية حوالي 0.8 من الفدان وفي منتصف الخمسينيات كانت مساحة الاراضي الزراعية 5.2 مليون فدان وكان متوسط نصيب الفرد حوالي 0.5 من الفدان، ووصل متوسط نصيب الفرد في اوائل الثمانينيات الي 0.3 من الفدان ولو تواصل هذا التناقص بهذه المعدلات فان ذلك يعني ببساطة انه بعد فترة تتراوح من 20 الي 30 سنة سيكون نصيب الفرد من الاراضي الزراعية مساويا للصفر..! ونحن لا ننكر أن هناك جهودا بذلت خلال الخمسين عاما الماضية لاستصلاح اراض زراعية وتخضير الصحراء المحيطة بوادي النيل من كل جانب وتقدر الاراضي المستصلحة في تلك الفترة بحوالي 2 مليون فدان أي بنسبة 40% زيادة فيما كانت الزيادة السكانية في نفس الفترة تبلغ 300% ثلاثة أضعاف كما ان سياسات الانفتاح الاهوج وغياب التخطيط والهجمات الشرسة علي الاراضي الزراعية في الوادي خاصة في منطقة القاهرة الكبري قد ادي الي ضياع اكثر من 2 مليون من اراضي الدلتا والوادي في العقود الأربعة الماضية. واذا وضعنا في الاعتبار تقرير التنمية البشرية الذي وضعه عدد من العلماء والباحثين المتميزين والذي يؤكد اننا يمكن ان نفقد اكثر من نصف مساحة الاراضي الزراعية الحالية مع استمرار الاعتداء عليها بالمعدلات القائمة فان دراسات دولية ومحلية اخري تذهب الي ان ذلك قد يؤدي الي ضياع الدلتا باكملها وتحويلها الي غابة اسمنتية من المباني والمنشآت مع انعدام شبه كامل للزراعة والخضرة والاشجار. تصوروا إلي هذا الحد...! وأحسب اننا لسنا بصدد قدر محتوم، علينا ان نشاهد فصوله الدرامية المزعجة وقد اقتربنا من الفصل الثالث والختامي، بل انه من الممكن بل ومن الضروري تعديل النص ومواجهة هذا الخطر الحقيقي الامر الذي يتطلب مواجهة قومية شاملة مدعومة بالبيانات والاحصائيات والحقائق تقوم بها كوادر زراعية انتاجية، تعرف كيف تنظر الي المستقبل وتخطط له ولا تكتفي بالنظر تحت الاقدام وتحقيق مكاسب مصلحية ضيقة مثلما يفعل البعض عندنا في الزراعة والاقتصاد والتخطيط. ولاشك ان الاتجاه نحو غزو الصحراء بمشاريع كبيرة مثل سيناء وتوشكي والعوينات وشرق التفريعة ووادي النطرون هي مشروعات ايجابية وضرورية تصل الي الواجب الحتمي (The must) رغم كل ما يكون هناك من ملاحظات علي الاولويات، فهناك ضرورة لاعطاء الاولوية لتعمير سيناء والاسترشاد بالدراسات الكثيرة العلمية والعملية التي تؤكد ان هناك اكثر من 2 مليون فدان قابلة للاستصلاح والزراعة يمكن ان تستوعب حوالي 3 ملايين مواطن ولانها تقدم حلولا امنية انتاجية وتعيد توزيع خريطة انتشار المصريين. ولقد عانينا ومازلنا نعاني من السياسات الزراعية المتضاربة وقصيرة النظر التي أدت في النهاية الي اننا اصبحنا نستورد اكثر من 70% من احتياجاتنا الغذائية بعد ان كنا نمثل سلة القمح في المنطقة واصبح قوت يومنا في يد غيرنا واختفت أو كادت صادراتنا الزراعية. وكان الرئيس مبارك يردد دائما في ولايته الاولي ان من لا يملك غذاءه لا يملك استقلاله وبالتالي القدرة علي اتخاذ القرارات والسياسات التي تحفظ للشعب امنه الوطني والاجتماعي، الامر الذي يعني ان الحفاظ علي الاراضي الزراعية في الدلتا ووادي النيل والعمل علي زيادتها بالتوسع الافقي والرأسي هي قضية قومية تتعلق بالاستقلال والوجود والحلم بالمستقبل والعودة الي مجتمع الانتاج والابداع الذي تميز بهم المصريون في حضارتهم الزراعية. لقد كان لدينا وزراء زراعة وتخطيط يدركون تماما ابعاد هذه القضية من امثال سيد مرعي والدكتور مصطفي الجبلي وعبدالعظيم أبوالعطا واسماعيل صبري عبدالله ولكن يبدو ان البعض من المسئولين اللاحقين اكتفوا بالنظر تحت اقدامهم واتباع سياسة اطفاء الحرائق دون ادراك للابعاد السياسية والانتاجية والاجتماعية. ولندافع عن خضرة وادي النيل ضد كابوس الصحراء الزاحف ولا نترك السفهاء منا يحرقون الزرع والضرع ويستنزفون المستقبل.