هل الشعب المصري غاوي يتنصب عليه؟ اعتقد أنه لا يوجد شخص يتعمد إيذاء نفسه، وإلحاق الضرر بها، لكن المصريين يثبتون انهم "غاوين شقاء" بدليل أن الآلاف يقدمون مدخراتهم الناتجة عن سنوات العمل والغربة في الخارج، أو عن حصاد مدة خدمتهم في الوظيفة.. إلي "النصابين" الذين يطلق عليهم شركات توظيف الاموال، وهي شركات وهمية لتهريب وإضاعة الملايين! وقد تخيلت خطأ أن المصريين وعوا الدرس القاسي الذي استمر لأكثر من عقدين في أكبر عملية نصب في التاريخ والتي استمرت منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي فيما عرف بقضايا توظيف الاموال.. تخيلت ذلك لأن الثمن كان باهظا سواء في الضحايا الذين ماتوا كمدا أو مرضا.. حزنا علي ضياع تحويشة العمر أو من الضحايا الذين تحولوا فقراء بعد ان دفعوا كل ما يملكون وأصبحوا يتسولون ثمن علاجهم، وتكاليف معيشتهم. تخيلت ان كل تلك المآسي كافية لتلقين الدرس "ومحدش يتعلم بالساهل" لكن مر الدرس القاسي دون استخلاص العبر ولم تفلح المآسي وخراب البيوت في ايقاظ الناس من التنويم المغناطيسي الذي يصيبهم بمجرد سماع قصص عن الثراء السهل والعائد المغري من مثل تلك الانشطة التي يدعيها بعض الافراد متخصصي النصب والمتاجرة بأحلام الناس. ومسلسل توظيف الاموال مستمر بدليل تلك القضايا المتعددة التي تكشف عنها الاجهزة المختصة.. وهي بالعشرات تم الكشف عنها مؤخرا، وما يستوقفني عند استعراضها ان النصابين لا يملكون علما ولا شهادات، بل مجرد "لسان" وقدرة جهنمية علي ايقاع الضحايا، وفي المقابل نجد ان اولئك الضحايا لديهم من المستوي العلمي والثقافي والمناصب والوظائف ما يفترض ان يحميهم من الوقوع فرائس سهلة في براثن المنحرفين والجهلة. آخر هذه القضايا جزار تقاضي بمساعدة شقيقه ووالدتهما مليونا و750 الف جنيه بدعوي توظيفها في تجارة الماشية وتمكن من الايقاع ب27 شخصا تراوحت المبالغ التي دفعوها له ما بين 5 آلاف جنيه و300 الف جنيه.. وبقية السيناريو معروفة اختفي الجميع وتركوا مقر سكنهم وضاعت اموال الناس حتي لو تم القبض عليهم لان ما سيضبط لن يغطي ما استولوا عليه. قضية اخري للمدعو خالد دياب الذي كان يعمل بمرفق الصرف الصحي واستولي علي اكثر من 250 مليون جنيه، من سكان حي حلوان حيث كان يقطن.. والمتهم دائما في هذه القضايا ما يعمد الي الاستعانة بأقاربه.. وطبعا اختفي هو والعائلة الكريمة.. وعندما قبض عليه كان معه 280 الف جنيه فقط لاغير، ولا عزاء للضحايا. مؤخرا أيضا تم الكشف عن 3 شركات بالاسكندرية قامت بتوظيف اموال المواطنين بدعوي استخدامها في انشطة زراعية، وقد استخدمت تلك الشركات اعلانات مدفوعة الاجر في الصحف.. فهل هناك جرأة أكبر من هذه! ووسيلة المجرم في الايقاع بالضحية هي دائما متشابهة إذ يتم الاعتماد علي تحريك فيروس الطمع لدي اصحاب الاموال ويتحلي المجرم بقدرة "ساحرة" علي الاقناع لكنه لن ينجح ابدا لو لم يقابلها طمعا جارفا يسيل لعاب الضحية. وعجبي من سلوكيات الناس الذين يخرجون الاموال من تحت البلاطة بسهولة غريبة، في الوقت الذي قد يفاوضون لساعات وأيام لكي يتنصلوا من دفع عشرة جنيهات مقابل صيانة أسانسيرات او اصلاح أي مرفق داخل العمارة التي يقطنوها. وغالبية الضحايا الذين اعرفهم وسقطوا فريسة لشركات التوظيف يظهر عليهم الحرص الشديد و"مصحصحين" ويسألون مائة الف سؤال في الدقيقة.. ولكن يبدو ان الاسئلة الحقيقية لا تؤرق مضاجعهم ولعل أهم سؤال: كيف يمكن لمشروع استثماري مهما كان نشاطه ان يعطي عائدا مغريا في الشهر الموالي لإيداع المال؟ وكيف يمكن لأي مشروع أن يكسب ويغطي نفقاته قبل أن يمر ما لا يقل عن سنتين من إقامته؟ إن عودة شركات توظيف الاموال مؤشر خطير علي أن المدخرات المحلية، التي تعد احدي مؤشرات قياس النمو في أي دولة لا تجد طريقها الصحيح للاستثمار.. إن الفائدة المتدنية عامل آخر علي توجيه الناس لمدخراتها الي ايد غير أمينة ولعل تفكير الجهاز المصرفي مؤخرا في رفع سعر الفائدة أمر حيوي لاصلاح هذه المعادلة. لكن ومع ذلك ستظل تلك الظاهرة تطرق بيوتنا وتهدد تحويشة عمر المواطن مادام هناك فيروس الطمع يلعب في العقول.. وسيظل الشعب المصري فريسة "مثالية" بين شعوب العالم و"يلدغ" مرة وثانية وأخري وتضيع مدخرات أبنائه بمليارات الجنيهات طالما ظل الطمع هو المحرك الرئيسي لفكر المواطن "الاستثماري" وطالما غابت التوعية بخطورة توظيف الاموال. أقول ذلك لان هناك مواطنين لا يقتنعون حتي الان ورغم الضحايا والمآسي بان شركات توظيف الاموال هي عملية نصب، بل يرون ان "الحكومة" هي التي تفسد مشاريع تلك الشركات بتدخل الاجهزة التنفيذية والقبض علي اصحابها لاجهاض النجاح!!