في بلد يباع فيه "الكشري" في أكياس بلاستيكية حيث يقوم البائع "بنفخ" الكيس المغلق بفمه قبل أن يضع فيه الكشري فإن ظهور حالات تسمم جماعي لا يمكن أن يكون حدثا أو أمرا غريبا..! فنحن أمام مجتمع أصبح يفتقر إلي أبسط قواعد النظافة العامة وكيفية الحفاظ علي صحة المواطنين والوقاية من انتشار الأمراض والفيروسات والأوبئة. ولذلك نسمع كل يوم عن حالات للتسمم الجماعي وزيادة في نسبة أمراض المعدة وارتفاع في حالات الفشل الكلوي والكثير من الأمراض الغريبة التي لم نكن نسمع عن انتشارها الكبير من قبل..! وما حدث في قرية "أبو الغيط" بالقناطر الخيرية مؤخرا من حالات تسمم جماعي بسبب إنتاج خبز غير مطابق للمواصفات بأدوات بدائية التصنيع وبه نسبة عالية من الرصاص..! وحقيقة لا أفهم ما المقصود من استخدام أدوات بدائية التصنيع كما تقول تقارير محافظة القليوبية، ومنذ متي كان إنتاج رغيف الخبز يحتاج إلي تقنية عالية في الاستخدام وهل حقيقة الخبز هو سبب التسمم بالرصاص.. أم أن هناك أسبابا أخري مازالت مجهولة..! ولا يوجد شيء مستبعد، وسواء كان الدقيق هو السبب أو الأدوات المستخدمة، أو المياه المخلوطة مع الدقيق أو أي سبب آخر فإنه لا يوجد ما يدعو للاستغراب في ذلك لأن كل الطرق والمقدمات والعوامل تؤكد ان كل شيء جاهز الحدوث وان حالات التسمم والإسهال أصبحت أمرا يجب ان نعتاد عليه لأن يحدث وسوف يستمر في الوقوع..! ولماذا نستغرب إذا كانت مياه الشرب عندنا تخلو من الضمانات التي تؤكد سلامتها، وهناك تحذيرات كثيرة تطلقها السفارات الأجنبية في بلادنا تحذر فيها مواطنيها من عدم شرب المياه العادية في مصر، كما أن عددا كبيرا من السائحين أصبحوا حاليا يتوقفون عن تناول أية خضراوات في مصر بزعم أنها غير نظيفة وبها ميكروبات وديدان قد تؤدي إلي أمراض في المعدة..! ولماذا نستغرب ونحن بلد المصانع التي تنتج الأغذية تحت "بير السلم" وتبيعها بدون إشراف صحي ولا تاريخ صلاحية ولا حتي تاريخ إنتاج.. ومن يهتم ومن يدقق..! ولماذا نستغرب وفي كل أو معظم المطاعم غير السياحية والسياحية أيضا فإنه لا توجد "غلايات" وربما لا توجد مياه ساخنة أيضا توضع فيها الأطباق والأكواب قبل تقديمها للناس، وفي بعض هذه المطاعم يوجد "برميل" ضخم تغسل داخله الأطباق والسكاكين والملاعق دون استخدام صابون ولا منظفات ولا غيره، ومن هذا لذاك ولا أحد يهتم ولا أحد يراقب..! ولماذا نستغرب بعد ان أصبح أمرا طبيعيا ان يباع رغيف الخبز في كل مكان فوق الأرصفة وبجوار البرك والمستنقعات التي تتواجد في الشوارع والحواري..! ولماذا نستغرب إذا كنا لا نجد عاملا واحدا في محلات الحلويات أو البقالة يرتدي قفازا في يده قبل أن يمسك بالأغذية التي يقدمها للزبون، وعندما تسأل أحد هؤلاء العمال لماذا لا يرتدي قفازا فإن إجابته السريعة ستكون دائما.. إن يده نظيفة..! وهي أزمة نفاق وأزمة أخلاق، وأزمة رقابة، فنحن لا ندرك خطورة إهمال قواعد النظافة العامة، ولا ندرك أيضا خطورة الغش في إنتاج المواد الغذائية واستخدام مواد كيماوية غير مصرح بها في عملية الحفظ والإنتاج، كما لا نمارس الرقابة المطلوبة والفعالة والرادعة التي تضمن عدم التلاعب أو التهاون في تطبيق إجراءات ومفاهيم السلامة الصحية والغذائية. ونحن كمجتمع ندفع ثمنا باهظا لهذا الجهل الذي يحيق بنا من كل جانب في كل شيء، ولذلك تواجه صادراتنا من المواد الغذائية مأزقا كبيرا عند التصدير للخارج فقد أصبحت هناك دول كثيرة تتردد في قبول هذه المنتجات وتفرض عليها قيودا وإجراءات مشددة للتأكد من عدم خطورتها ومن عدم المغالاة في تعرضها للمبيدات الحشرية، ومن عدم وجود أضرار لها، وفقدت المنتجات الغذائية المصرية لهذه الأسباب جودتها وانتشارها في الخارج وأفقدتنا ما هو أهم ألا وهو سمعة بلادنا ومكانة الإنسان وقيمته عندنا. ويبدو اننا في حاجة إلي عدداً حملات التوعية الصحية والغذائية فليس عيباً اننا جهلاء بالصحة العامة، ولكن العيب ان لا نعالج ذلك أو ان يصيبه اليأس ونتوقف ونعتقد ان هذه الأمور بديهيات يجب ان يعرفها كل مواطن دون الحاجة إلي حملات التوعية..! اننا نحزن للحديث في هذه الموضوعات التي كان يجب ان نكون قد تجاوزناها من عقود طويلة من الزمان، فليس مقبولا في القرن الحادي والعشرين ان نظل نطالب الناس بأن يغسلوا ايديهم قبل الأكل وبعده، وان يغسلوا الخضراوات جيدا قبل أكلها، ولكن ما باليد حيلة، فعلي ما يبدو فإننا مازلنا خارج دائرة التطور والحضارة مادام بائع العرقسوس في الشارع يروي ظمأ الجميع من كوب واحد، وبائع عصير القصب يفعل الشيء نفسه.. وزبائن المقاهي يشربون مياها تأتيهم من خزان به من الطحالب والحشرات ما تقشعر له الأبدان. وهلم جرا..! [email protected]