من المعروف تاريخيا في بريطانيا أن الطلاب لم يكونوا علي وفاق مع نقابات العمال الانجليزية.. ومنذ شهور كاد المستقبل الدراسي لطلاب الجامعات البريطانية يتأثر لأن نقابة المحاضرين والأساتذة في جامعات وكليات بريطانيا نظمت إضرابا عن العمل للمطالبة بزيادة الأجور ولم تنهه إلا يوم 7 يونية الحالي بعد الاتفاق علي هذه الزيادة التي بلغت 13.1% في السنوات الثلاث القادمة. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إنه حتي بعد أن تنتهي الدراسة وتأتي العطلة الصيفية فإن الطلاب قد لا يمكنهم العودة إلي أسرهم بسبب الإضراب الذي تهدد به نقابة عمال السكك الحديدية والنقل.. والحقيقة أن نقابات العمال البريطانية لها دائما صوت في الأخبار، ففي العام الماضي هددت هذه النقابات بشن أكبر إضراب في التاريخ منذ 80 سنة واستطاعت بهذا التهديد أن تجبر الحكومة علي التراجع عن زيادة سن المعاش من 60 لتصبح 65 سنة.. كما أن سائقي مترو الأنفاق كثيرا ما يثيرون الاضطرابات في لندن، وفوق هذا تسعي ثلاثة اتحادات نقابية هي أميكوس واتحاد النقل العام واتحاد GMB إلي الاندماج معا لتكوين أكبر قوة نقابية في البلاد وحتي في القوات المسلحة المشهورة بفض الإضرابات العمالية هناك الاَن من يتحدث عن تكوين نقابات عمالية عسكرية. ولأول وهلة تبدو نقابات العمال البريطانية قوة لا حدود لسطوتها ودورها ونفوذها ولكن الحقيقة أنها قوة تتجه نحو الأفول منذ عدة عقود وإن كانت لا تزال تقاوم وترفض تحجيم دورها. والأرقام هنا واضحة الدلالة، ففي عام 1979 أي منذ أكثر من ربع قرن كان عدد العمال المنضمين لعضوية النقابات في بريطانيا 13.2 مليون عامل وقد تقلص العدد فأصبح الاَن لا يتجاوز ال 7.5 مليون وإن كان التدهور في العضوية قد توقف أخيرا. وفي عام 2005 كان عدد أيام العمل التي أهدرت بسبب إضرابات العمال 158 ألف يوم عمل وكان هذا العدد في الثمانينيات 7.2 مليون يوم عمل أما في السبعينيات فكان العدد 12.9 مليون يوم عمل. والحقيقة أن عضوية النقابات العمالية قد تراجعت في معظم البلدان الغنية بما في ذلك بريطانيا بعد دخول هذه البلدان عصر اقتصاد الخدمات وتزايد نصيب قطاع الخدمات من الاقتصاد القومي بالمقارنة مع نصيب الصناعات الثقيلة.. ففي اقتصاد الخدمات تكون قوة العمل متحركة وسهلة الانتقال من شركة إلي شركة، وهذا يجعل تكوين النقابات صعبا والاحتفاظ بعضويتها أصعب وأحيانا يكون العاملون في قطاع الخدمات أقوياء بدرجة تجعلهم في غير حاجة إلي نقابة تساوم أرباب العمل باسمهم علي حد قول ريتشارد هايمان الأستاذ في لندن سكول أوف إيكونوميكس، أما العمال غير المهرة فهم عادة ما يعملون بعقود مؤقتة تجعلهم غاية في الضعف. وفي عصر العولمة أصبح لقادة الشركات كما يقول ويليام براون الأستاذ بجامعة كامبردج قدرة هائلة علي كبت العمال بعد أن امتلكوا سلاح الهجرة إلي الأسواق الناشئة سواء للاستثمار المباشر أو لشراء المكونات الجاهزة رخيصة الثمن.. وهذا جعل سلاح الإضراب يرتد إلي صدور العمال. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن القطاع العام المملوك للحكومة البريطانية هو الاَن أكثر القطاعات أمانا بالنسبة للعمال في بريطانيا.. فقد استطاع القطاع الحكومي البريطاني في الاَونة الأخيرة إيجاد 700 ألف وظيفة جديدة، ومع ذلك فإن القطاع الحكومي لا يستوعب سوي 20% من جملة قوة العمل في بريطانيا أما الأربعة أخماس الباقية فلاتزال تعمل في القطاع الخاص.. والملاحظة الجديرة بالنظر أن عضوية النقابات في القطاع الحكومي أعلي من عضوية النقابات في القطاع الخاص. وقد لعبت السياسة أيضا دورها في إضعاف أو تحجيم دور النقابات فالسيدة مارجريت تاتشر استطاعت خلال رئاستها للحكومة البريطانية تقييد سلطة النقابات حيث منعتها من تنظيم الإضرابات الثانوية أو إغلاق المحال، كما فرضت علي النقابات استفتاء العمال قبل القيام بأي إضراب.. ويعتقد توني بلير رئيس الوزراء البريطاني عن حزب العمال أن تأجج كفاحية النقابات في السبعينيات كان سببا في سيطرة حزب المحافظين علي حكم بريطانيا لمدة عقدين متواليين تقريبا ولذلك نجده رغم كونه زعيما عماليا ينفر من النقابات وسطوتها ويعمل بطرق متعددة علي إضعافها. وليس معني ذلك أن بلير يعمل ضد مصلحة العمال بل ربما كان العكس هو الصحيح فالرجل هو الذي أصدر قانون الحد الأدني للأجور وتزايده بنسبة تفوق معدل التضخم سنويا كما أنه وقع العهد الأوروبي الذي يضمن حقوق العمال ويقويها وغير ذلك من القوانين والحقوق التي كانت تحتاج في الماضي إلي مساومة جماعية من أجل إقرارها. باختصار، فإن بلير يسبق خطوات النقابات لكي يفقدها جاذبيتها بالنسبة للعمال، ومع ذلك فإن دور نقابات العمال لن ينتهي حتي لو تراجعت جاذبيته، فقد أعلن وزير الخزانة البريطاني جوردان براون منذ أيام أن الإنفاق العام سوف يتقلص في بريطانيا من 5% ليصبح 2% سنويا وهذا معناه أن الإصلاحات سوف تتباطأ خاصة في القطاع الحكومي وهو الأمر الذي سوف يستفز عمال هذا القطاع ونقاباته ويجعلهم يعودون إلي كفاحية السبعينيات وليعود للنقابات بعض من قوتها الغاربة.