عجبي من بعض الزملاء الصحفيين الذين تنتابهم نوبة شجاعة مفاجئة ويتناولون "حبوب" منع الخوف ضد الوزراء الذين غادروا التشكيل الحكومي ويستلون أقلامهم ليكتبوا عن فساد بعض الوزراء القدامي وجبروتهم وديكتاتوريتهم في إدارة المنصب خلال فترة تكليفهم.. بل إن البعض يطالب الاَن بمحاكمتهم علي سوء السير والسلوك.. بعد أن ذهبوا إلي بيوتهم ولم يعد لهم نفوذ يذكر و"لا شنة ولا رنة" لأسمائهم.. وكأن الحقائق الدامغة ظهرت لهم فجأة وأصبحت مقنعة وتستوجب المحاسبة! والسؤال: أين كانت هذه الأقلام خلال فترة عمل هؤلاء الوزراء؟ بل أين كانت قبلها بعدة أيام فقط من التعديل الوزاري؟ الغريب أن أحد الكتاب الصحفيين كتب ينتقد دكتاتورية كمال الشاذلي وجمع كل مثالب الرجل في خلطة بالتوابل الحارة من جميع أنواع الشتائم، وبعضها ربما يعاقب عليها القانون.. وكان نفس الكاتب وصحيفته "يمدح ويمجد" الشاذلي قبل يومين فقط من التعديل الوزاري. ورأيي أنه في الموقفين لم يكن الصحفي محقا ولم يلتزم ب "ذرة" موضوعية، وسواء كان السبب الخوف من بطش المسئول الكبير أو رغبته في التقرب منه أثناء المنصب أو سعيا إلي الاقتصاص منه والانتقام بعد أن خرج.. فإن المعايير الموضوعية والميثاق الصحفي غاب في الحالتين. وكذا الأمر بالنسبة للدكتور عوض تاج الدين وزير الصحة السابق الذي كان الأكثر شعبية وتواصلا مع الصحافة والإعلام عامة، فقد قرأت بعض الأقلام مؤخرا تدينه علي ما اقترفت يداه من إهمال أصاب الخدمات الطبية والتسيب الذي أصبح سمة عامة في المستشفيات الحكومية.. وكان هذا الموقف سيبدو عاديا لولا أن غالبية النقد ترمي لصالح الوزير الجديد، الذي لا يحتاج إليه أصلا.. حتي لكي نطالبه بالمزيد أو بإصلاح مظاهر الإهمال لتحسين الخدمة للمواطنين. وأعتقد أن الشجاعة نحتاج إليها كصحافة وإعلام لنواجه بها المسئول وهو في المنصب، ولنقنعه بضرورة الإنصات للنقد البناء والموضوعي إذا كان غير مقتنع بإقامة صيغة للحوار مع الإعلام.. نحتاج "حبوب" الجرأة لنرسخ قيمة مهمة أن المسئول والصحفي في خندق واحد.. المصلحة العامة، وأن الصحفي يمكن أن يكون العين الثالثة لهذا المسئول قد تري ما يغيب عنه، ويحتاجه ليس للتلميع لينشر أخباره كلما راح أو جاء، أو كلما نطق بكلمة حتي لو كانت لا تستحق الإبراز، لكنه يحتاج إليه أكثر للتنبيه عن مواطن القصور إذا كانت موجودة! والحقيقة أن الصحفيين والمسئولين علي حد سواء هم ضحايا ثقافة مغلوطة ويعيدون صناعة الفهم الخاطئ عن طبيعة ودور كل واحد، فالصحافة ليست مهمتها كيف يتحول الوزير إلي "زعيم" فيصبح المندوب بالوزارة مجرد مندوب عنها في جريدته أو القناة التليفزيونية التي يعمل بها فهذا نشاط اَخر هو الدعاية والإعلان ببساطة شديدة وليس له اسم اَخر كما أن الوزير ليس شخصا معصوما من الخطأ ومنصبه لا يجعل له حصانة ضد النقد والتوجيه بل إن المفهوم الأصلي لدور الوزير أنه يتحمل مسئولية ليخدم الناس من موقعه.. باعتباره جزءا من سياسة حكومة ومجلس وزراء يتعاون مع زملائه من أجل هدف عام. ولعل القيم الصحفية والقواعد المهنية التي تعلمتها تقوم علي مبدأ الاحترام وفرضه علي أي كان حتي لو كان وزيرا، علي ألا ننسي هذا الاحترام ولو في حالة الخلاف في الرأي.. وأحيانا يخطئ الوزير ويكابر لأنه لا يقبل فكرة أن ينقده الصحفي ومع ذلك فلا نفقد احترامنا لشخصه ونفصل بينه وبين قراراته كوزير.. وللأسف في الغالب لا يمتلك الوزير ثقافة أن يكون الصحفي ندا.. ندية يكتسبها من قلمه الصادق ومن حقه في الحصول علي المعلومات والشفافية خلال ممارسة عمله بالمنصب الرسمي. وأتذكر واقعة شهيرة في جريدتنا "العالم اليوم" عندما غضب وزير الإسكان السابق المهندس محمد إبراهيم سليمان من تحقيق صحفي ومقالات تناولنا فيها بعض مشروعات إسكان الشباب وكيف أنها تفتقر لمقومات السكن اللائق وكان أن ثارت ثائرة الوزير رغم أن التحقيق كان مسجلا بالصور من داخل تلك الوحدات السكنية ولم يسع قط للحوار بل اتخذ "سلوكيات" وظن أنه يعاقب بها الجريدة وصحفييها! ولا أعتقد بدوري أن نموذج إبراهيم سليمان يعكس فكر القاعدة العريضة من الوزراء بل لعلي غير مبالغة إذا اعتبرته استثناء.. وعلي كل حال لا نشمت في "سليمان" عندما خرج من الوزارة بل أدعو له بالتوفيق وأن يعينه الله علي نفسه وإرثه.. أقول هذا وأنا أدرك جيدا مدي صعوبة أن يتعايش وزير سابق مع وضعية جديدة خاصة إذا كان قد حصد أعداء لا يحصون.. هذا علي المستوي الإنساني والشخصي أما فيما يهم الناس فلابد أن يحاسب كل مسئول وليس سليمان فقط عندما يكون في المنصب أولا وقبل أن يعفي منه ولابد أن يتم ترسيخ قواعد واضحة للشفافية وللمراقبة والمحاسبة سواء داخل مجلس الوزراء باعتبار أن عمل أي وزير يعود بالمسئولية إلي رئيس الوزراء أو داخل مجلسي الشعب والشوري باعتبارهما أداتي المراقبة لعمل الوزراء والحكومة ككل. وإذا كنا "سنة أولي" في ترسيخ هذه القواعد، فليس متأخرا أن نبدأ في أي وقت.. وأعتقد أن القطار انطلق وهناك "نية" موجودة لتفعيل قواعد الشفافية والمحاسبة، ودليلي علي ذلك القضية التي طرحت مؤخرا بوضوح حول ضرورة إعلان رجال الأعمال الذين تقلدوا مناصب وزارية تنحيهم عن مسئولياتهم في شركاتهم واستقالتهم من جميع مشروعاتهم التي يديرونها وكيفية ضمان فصل المصلحة الخاصة عن المال العام. وهذه القضية هي حقيقة ليست شأنا خاصا بالوزراء ولكنها مسئولية الحكومة بدءا من تعيينهم ومرورا بمراقبتهم ثم وصولا إلي الدفاع عن اختيارهم باعتباره منهجا لمتخذي القرار السياسي قبل أن يكون رغبة من مجتمع الأعمال في تقلد المناصب.