قرابة أسبوعين منذ إعلان نتائج الانتخابات الألمانية، ومازال البحث والتحري جارياً في برلين سعياً وراء تشكيل الحكومة الجديدة وأهم من ذلك المستشار الجديد. وتجري الحسابات وتشكل التجمعات أو الجهات الشكلية التي سرعان ما تتفكك في مواجهة واقع جديد وظروف جديدة أسفرت عنها الانتخابات، حتي أن البعض أطلق عليها مرحلة الجمهورية الثالثة الجمهورية الأولي والتي تسمي بجمهورية تايمز أعلنت في أعقاب الحرب العالمية الأولي وهزيمة ألمانيا والقيصرية تلك الجمهورية التي قضي عليها هتلر والحزب النازي حين استولي علي السلطة سنة 1933. أما الجمهورية الثانية فهي تلك التي أعلنت عام 1949 علي الأراضي التي كانت محتلة في أعقاب الحرب العالمية الثانية والهزيمة الثانية لألمانيا وهي جمهورية ألمانيا الاتحادية التي انضم إليها سنة 1991 الجزء الشرقي من ألمانيا والذي كان يسمي بألمانيا الديموقراطية. وبعيداً عن الصراع حول المستشارية بين انجيلا ميركل رئيس الحزب المسيحي الديموقراطي وشقيقه الحزب المسيحي الاجتماعي في بافاريا والتي حصلت علي 2.35% في الانتخابات وتعتبر نفسها الأحق بالمنصب، وبين جيرهارد شرويدر مستشار ألمانيا طوال السنوات الثماني الماضية وزعيم الحزب الاشتراكي الديموقراطي والذي حصل علي 3.34% في الانتخابات الأخيرة وتعتبر نفسه الأحق بهذا المنصب لأن النسبة التي حصل عليها حزبه من وجهة نظره هي الأكبر حيث إن الحزبين المحافظين المسيحي الديموقراطي والمسيحي الاجتماعي لم يحصد أي منهما منفرداً علي تلك النسبة. الجديد حقاً في نتائج هذه الانتخابات أنها أفرزت مؤشرات ودلالات جديدة ربما تصلح لأن تكون مؤشرات ودلالات أوروبية بدأت إرهاصاتها من ألمانيا، والغريب أن البعض بل الكثير ممن تعرضوا لتحليل هذه الدلالات في العالم العربي أخطأوا كالعادة في الحسابات وركزوا علي جوانب هامشية دون محاولة جادة لاقتحام الواقع وتحليله وتفسيره وفهمه. فلقد توقف هؤلاء المحللون وأشباه المحللين الذين امتلأت بهم الصحف العربية والمصرية عندما أسموه عجز الديموقراطية في حل المشكلات ضاربين المثل بما أسموه حالة التعادل بين الأحزاب والعجز عن تشكيل حكومة قوية، وكم يشعر الإنسان بالأسف وبالمرارة لمثل هذا المنطق الذي يخفي وراءه أفكاراً خطرة دفاعاً عن النظم الفردية والأحزاب الحاكمة والمتحكمة في العالم العربي، والحقيقة هي أن ما جري ويجري في ألمانيا يعتبر فخراً للشعب الألماني وانتصاراً للديموقراطية الحقة التي تفرز كل القوي والشرائح الاجتماعية وتعطيها الفرصة الكاملة لكي يكون لها رأيها ودورها في تشكيل أية حكومة جديدة. وعلي عكس ما ذهب إليه هؤلاء المحللون والمبررون للأنظمة الفردية الحاكمة، فإن نتائج الانتخابات الألمانية بكل معطياتها قد أعطت مزيداً من الثقة في النظام الألماني الديموقراطي القائم وفي الاقتصاد الألماني ثالث اقتصاد عالمي القائم علي مؤسسات انتاجية قوية. أما الخطأ الشائع خاصة عند محللي الفضائيات العربية فهو القول بأن هذه الانتخابات التي لم يخرج فيها منتصر واضح أو مهزوم مستسلم قد أكدت بروز دور الأحزاب الصغيرة في ألمانيا بعد فشل أي من الحزبين الكبيرين في الحصول علي أغلبية مريحة، والواقع العملي يقول إنه منذ إنشاء جمهورية ألمانيا الفيدرالية في أواخر الأربعينيات وحتي اليوم كان للأحزاب الصغيرة دور رئيسي في تشكيل الحكومات الألمانية لأنه لم يحدث أن حصل أي من الحزبين الكبيرين المسيحي الديموقراطي أو الاشتراكي الديموقراطي علي أغلبية مريحة تؤهله لأن يشكل الحكومة وحده. ولقد كان الحزب الديموقراطي الحر الليبرالي والذي كان يحصل دائماً ما بين 6 و9% من الأصوات هو صانع الملوك والمستشاريه في ألمانيا طوال الخمسينيات وحتي أواخر الستينيات، وكان تحالفه مع الحزب المسيحي الديموقراطي هو الذي ضمن لآديناور ثم من بعده إيرهارد في تولي المستشارية، وحينما تحالف هذا الحزب الصغير مع الحزب الاشتراكي الديموقراطي منذ أواخر الستينيات حتي أوائل الثمانينيات تولي المستشارية رموز اشتراكية مثل فيللي براندت وهيلموت شميت. وكان الهرجنشر رئيس الحزب الليبرالي هو صانع المستشار وظل قابعاً في وزارة الخارجية لفترة تقارب ال 30 عاماً وبينما كان المستشارون يتلونون ويتغيرون وفق مزاج الهرجنشر. وحينما برز حزب الخضر في أواخر الثمانينيات وأصبح يحصل علي نسب تتراوح ما بين 6 و8% خطف لعبة صانع الملوك من الحزب الليبرالي وأوصل الاشتراكيين إلي الحكم والمستشارية في السنوات الثماني الماضية، أي أن دور الأحزاب الصغيرة كان مؤكداً دائماً طوال العقود الماضية كذلك عجز أي من الحزبين الرئيسيين في الحصول علي أغلبية منفردة، فهل يعني ذلك أنه ليس هناك جديد في نتائج هذه الانتخابات؟! هناك بالقطع عامل جديد تماماً أجري تغييراً في المعادلة التي كانت قائمة في ألمانيا طوال نصف قرن، وطرح حسابات جديدة هي بروز حزب اليسار الجديد وحصوله علي 7.8% من الأصوات وضمان 54 نائباً في البوندستاح (البرلمان). وحزب اليسار الجديد هو تحالف بين قوتين أساسيتين من قوي اليسار الألماني هي حزب الديموقراطية الاشتراكية PDS، وهو امتداد لحزب العمال الموحد (الشيوعي) الذي كان يحكم في ألمانيا الديموقراطية حتي انهيار سور برلين والوحدة الألمانية الثانية سنة 1991. ولقد حضرت أول مؤتمر للحزب الجديد سنة 1992 حين أعلن تغيير اسمه إلي حزب الديموقراطية الاشتراكية وقدم نقداً حافلاً لممارسات حزب العمال الموحد (الشيوعي) خاصة فيما يتعلق بالديموقراطية والحريات الأساسية، ولقد نجح هذا الحزب في الوصول إلي اليوندستاح (البرلمان) بعد الوحدة، بل إن الكاتب الكبير ستيفاي هايم عضو الحزب ترأس أول برلمان بعد الوحدة باعتباره أكبر الأعضاء سناً، وألقي خطاباً مهماً في الافتتاح أكد فيه أن الفكر الاشتراكي الجديد بأبعاده الديموقراطية والإنسانية سيجد أرضاً خصبة في التربة الألمانية. أما القوي الثانية التي تشكل منها حزب اليسار الجديد فهو الجناح اليساري في الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي انشق عن الحزب منذ سنوات بعد اتهامات وجهها إليه المستشار شرويدر بأنه تجاهل مصالح المنتجين والعمال والطبقات الوسطي والصغيرة في برنامجه الإصلاحي، وزعم هذا الحاج اليساري هرأونسكا لافونين الذي تولي في يوم من الأيام منصب رئيس الحزب الاشتراكي الاشتراكي الديموقراطي. قد استطاع الحزب الجديد الذي تسانده قطاعات واسعة من اتحاد العمال أن يغير الصورة إلي حد كبير في الخريطة السياسية الألمانية، وطرح البديل الممكن لما يسمي بيمين الوسط أو يسار الوسط. وبالرغم من أن الحزب الاشتراكي الديموقراطي والمستشار شرويدر قد أعلن مراراً أنه لن يتحالف مع حزب اليسار الجديد، وبالطبع فان انجيلا ميركل اليمنية المحافظة لن تفكر في التحالف مع هذا الحزب، إلا أن كلا الحزبين الكبيرين يدركان جيداً أن القضية لم تعد محصورة فيمن سيصبح المستشار الجديد، ولكن المؤكد أن الخريطة السياسية والطبقية في ألمانيا قد تغيرت إلي حد كبير.