مناضلون يساريون محمد الزعفراني ظل رفعت السعيد يراسلني برسائل علي ورق البافرة موجها الحديث إلي «عزيزتي سونيا» وبرغم دهشتي لهذا الاختيار، إلا أن حسن المصيلحي قائد البوليس السياسي الشهير قد وقف مرتبكا أمام المجلس العسكري العالي عندما أتي ذكر واحدة من هذه الرسائل ضبطت مع أحد المتهمين.. إلخ الفريق هلال من سونيا؟ ثم فين سونيا؟ فقال المصيلحي فشلنا في العثور عليها يا أفندم. «محمد الزعفراني - في حواره معي» عندما التقيت محمد الزعفراني كنت قد خرجت من سجن طويل منذ يوم واحد فقط حيث اصطحبني محمد حجازي في جولة علي رفاق كان من المفترض أن أتعرف عليهم وأن أتعامل معهم، مررنا علي محل شحاتة النشار في شارع السد، ثم دار الغد في شارع شريف حيث التقيت إبراهيم عبدالحليم، ثم إلي شارع الأزهر حيث عمارة الأمير طلال صعدنا دورا واحدا لنجد مكتبا صغيرا مليئا بالعديد من البالات ورجل مبتسم دوما وزوجة شديدة النشاط حتي يخيل إليك أنها التي تدير كل شيء، الرجل هو محمد الزعفراني هو والمكان يوحيان لك أنك أمام تاجر نصف ميسور والزوجة هي كريمة أو كما كانوا ينادونها «أم أحمد»، جلسنا، شربنا القهوة، أتي العديد من الزبائن، محمد يعقد الصفقات بسرعة ويسر وابتسامة وكريمة تنجز كل شيء، وغادرتهما، ولكنني عدت بعد عدة أيام فقط، ففي صباح أول يناير المبكر كنت علي موعد في منزل مبارك عبده فضل لأحضر أول اجتماع تنظيمي لي، هو اجتماع اللجنة المركزية الذي صدر قرار بتصعيدي لها قبل خروجي، وفي البيت خرجت الزوجة النوبية وابنتها ماجدة بين أقدامها الاثنتين تبكيان، الزوجة أشارت بيديها امشي بسرعة قبضوا علي مبارك، ومشيت، تمشيت علي قدمي حتي دار الفكر وفي المدخل استقبلني بواب نوبي سألني متجهما: علي فين؟ قلت دار الفكر: فقال مشيرا بيديه إمشي البوليس فوق مستني أي حد ييجي، ساعتها أدركت خطورة الأمر، تمشيت حتي شارع السد لأجد الأب حزينا وقال: امشي شحاتة اتمسك، وأحسست أنني في قفص أشد قسوة من الزنزانة.. ولم يبق سوي محمد الزعفراني ليكون كهمزة وصل مع الحزب،ولست أدري لماذا كنت متعجلا لإيجاد همزة الوصل هذه، تمشيت إلي 90 شارع الأزهر وهناك كانت كريمة مبتسمة ورحبت بي بحرارة.. فلم تكن تعلم شيئا، قلت لها، فقالت ننتظر محمد، وتوالت المعلومات عن عديد جرا القبض عليهم. وحضر محمد، وبدأنا حوارا تركز حولي: ماذا أفعل؟ هل أعود للبيت حيث نظام المراقبة الليلية من الغروب حتي الفجر وحيث الصول الذي يصرخ عاليا ليجبرك علي تخفيض صوته برشوة يوميا «فين المراقب فلان» أم أتحدي ذلك وأترك أبي وأمي وأخوتي الذين تجمعوا يستقبلوني خارجا من السجن؟ ترددت، لكن محمد كان يستحثني ويلح الحزب قبض علي كثير من كوادره ونحن بحاجة إليك، المهم انتصر محمد وبدأ الحوار أين سأعيش حال هروبي، كريمة اقترحت منزل عائلتها في أبي زعبل، والمكان ملائم جدا لكنه بعيد والانتقال اليومي منه وإليه شديد الخطر، وأخيرا تقرر أن أقضي أياما في بيتهم في شارع طلعة الرفاعي بالقلعة ومنذ الليلة الأولي بدأنا سلسلة اجتماعات محدودة فقط لتتعرف علي من بقي من القادة.. وكانت المعلومات مخيفة فالضربة البوليسة أوسع مما توقعنا، والغريب أنها تركزت علي رفاق حدتو أكثر من المنظمات الأخري، رغم أن حدتو كانت تؤيد عبدالناصر أكثر من الأخري، ولعل هذا هو السبب فالأمن أراد قطع سبل التفاهم بين الطرفين. وكانت أمامنا عدة مشاكل، أجهزة الطباعة سقطت في يد الأمن، وكذلك المسئولون عنها، وكثير من القطاعات فقدنا الاتصال بها. وفيما نجهد أنفسنا في النقاش اتفقنا أن نبدأ بالقاهرة وبأجهزة الطباعة، واتفقنا علي فكرة غريبة وهي أن نجمع الرفاق في ثلاث مجموعات مستقلة تماما عن بعضها البعض، وأن نقتسم الاتصال بقياداتها، وداخ محمد السبع دوخات حتي تعرف علي ملامح من تبقي من كوادر وأخيرا تأسست قيادات الثلاث مجموعات عبر نشاط مكثف وشديد الكفاءة ولأنني لا أعرف أحدا كان محمد هو المنظم والمنسق واللاعب الأساسي، قيادة المجموعات الثلاث كانت: الأولي قدري شعراوي - ليلي الشال - ماري بابا دوبلو، والثانية طه دياب - سعاد زهير - مجدي نصيف - علي حنيطر والثالثة: أحمد عزالدين - محمد حسين جاد - عبدالله إسماعيل، وكانت هناك مجموعة طلابية كبيرة جدا يقودها حسين عبدربه - فتحي مجاهد - سمير عبدالباقي - السيد يوسف، لكن الزعفراني اقترح أن نتلامس معها بحرص لأن الأمن يركز عليها محاذرا من مشاركتها في مؤتمر شباب آسيا وأفريقيا الذي كان منعقدا في جامعة القاهرة، وتجلت كفاءة التاجر الشاطر في تصرفات محمد الزعفراني فلديه حلول لكل شيء، سمع أن ثمة جهاز طباعة متوسط الكفاءة مخزن في إحدي قري الغربية فأرسل محمد حسن جاد الذي أحضره ثم أتي بمن يصلحه، ثم اختار طه دياب للتدرب عليه، وماري باباديلو لتكون مسئولة الاتصال بالجهاز ثم شقة صغيرة في أطراف الجيزة، وبسرعة فائقة صدرت المطبوعات الحزبية التي تحولت علي الفور إلي مشكلة حقيقية فنحن لا نستطيع أن نغير الخط السياسي الذي يدعو إلي دعم معارك عبدالناصر ضد الاستعمار والصهيونية ولكن قواعد الحزب تفجرت في وجهنا رغم أننا أضفنا عبارات شديدة اللهجة ضد مؤامرة الأمن الذي يحاول الوقيعة بين الحزب وعبدالناصر، وجاءت رسالة من كمال عبدالحليم اضطررنا إلي طباعتها وتوزيعها فهو المسئول السياسي رغم اختفائه وعدم قدرتنا علي مقابلته، ويقرأ محمد الزعفراني الرسالة ساقطا وأنا مثله وفيها أن حزبنا يعاني من وضع يشبه ثمرة بين فكي كسارة البندق أحد أطرافها نظام وطني لكنه يطاردنا ويسجننا والطرف الآخر هو ضغوط القاعدة الحزبية التي تطالب بالهجوم الواضح علي الديكتاتورية العسكرية وبتأييد ثورة العراق التي ناصبها عبدالناصر العداء، وازدادت القاعدة التهابا إلي درجة أن محمد الزعفراني اقترح أن نكف عن التحليلات السياسية وأن نكتفي بالنضال العملي وأخباره، وفي ظل ذلك الارتباك كان الأمن يواصل تمشيط مواقعنا ومع تواصل النشاط وتدفق المطبوعات التي كان محمد يشرف علي طباعتها وتوزيعها، وفي نفس الوقت اقتحم الزعفراني وبجسارة مجال العمل الجماهيري فقد رشح عددا من الرفاق لعضوية لجنة قسم الاتحاد القومي بالخليفة، وربما كانت المرة الأولي في تاريخ الانتخابات التي تشكلت مجموعات من راكبي الدراجات يرتدون زيا موحدا عبارة عن تي شيرت صممه وصنعه الزعفراني وحمل شعارات انتخابية لزملائنا كانت حرية - اشتراكية - عدالة وانزعج الأمن وشن سلسلة حملات أخري طالت كثيرا من رفاقنا بالخليفة ومنهم أحمد عزالدين وعبدالله إسماعيل، ثم أمسك الأمن بالخيط الرئيسي وهو محمد الزعفراني فقبضوا عليه ليعتقل في أسوأ سجون الناصرية وأشدها وحشية وهو ليمان أبوزعبل حيث صمد مع الصامدين الشجعان ثم إلي الواحات، حتي يفرج مع الجميع ليبدأ رحلته من جديد ويبني بكفاءة نادرة صرحا من مصانع التريكو ويظل دوما كما كان منذ عرفته علي ولاء للمبدأ والالتزام بتقديم مساعدات مالية لحزب التجمع، حتي يرحل.