مناضلون يساريون وليم إفرايم طانيوس كنت مديرا في شركة كبيرة، وأتقاضي مرتبا كبيرا جدا، وأعيش في فيلا أنيقة، فجأة جاءني قرار من الحزب، اترك كل شيء واذهب محترفا إلي المحلة ومرتبك سيكون ثلاثة جنيهات في الشهر، وقبلت علي الفور. وليم إفرايم «في حواره معي» إنه ذلك الجيل الذي بني مجد اليسار المصري، القدرة علي التضحية، والقدرة علي الالتزام حتي ولو كان قرار القيادة غير منطقي أو حتي كان قرارا مجنونا. الأسرة متوسطة اشتغل أغلب أفرادها في محالج القطن وأحيانا في الإتجار المحدود بالقطن، أما أبوه فقد تجول حائرا في أكثر من مدينة بحثا عن رزق أكثر وفرة، فتنقل بين ملوي ونجع حمادي والمنيا وبني مزار والقاهرة، حقق بعضا لا بأس به من المال لكن الأسرة كبيرة (9 بنات وولدان) والعبء ثقيل والتنقل المتعدد أربك تعليم الأولاد، وفطن وليم وهو صغير إلي أن مستقبله رهن بأن يتعلم، وبالفعل حصل علي شهادة الثانوية العامة الإنجليزية «المتريكليشن» بالمراسلة ثم دبلوم اقتصاد من جامعة لندن بالمراسلة أيضا، وبعدها أصبح جاهزا للصعود إلي مستوي اجتماعي مرموق، هو يتذكر أيامه وهو صغير في عام 1940 في نجع حمادي كانوا يسكنون في فيلا علي النيل أو كما كان يسمونه الساحل، وفي المرسي كانت المراكب كثيرة والتجار أكثر والأنظار كلها مشدودة للحرب وتطوراتها يحضرون الجرنال ولا أحد يعرف القراءة ووجدوا في وليم ضالتهم يجلسون جميعا في صمت وهو يقرأ وبعدها تنفجر نقاشاتهم وخلافاتهم وهو يستمع ويستمتع، وعاش الفتي في غمار السياسة، وكره الإنجليز كما كان يكرهه كل الذين يقرأ لهم الجرنال، ذات يوم قتل السكان جندياً إنجليزياً وحملوه علي عربة كارو وهم يهتفون «رطل الإنجليزي بقرش»، وبالمصادفة وقع في يده كتاب لسلامة موسي عن «الاشتراكية» وتعلق بالفكرة ويقول «كنت أحلم وأنا في هذه السن أن أفتح محل بقالة وأبيع للفقراء بدون ربح، وأن أتزوج طبيبة تعالج الأطفال مجانا، وفي القاهرة توظف وليم الذي أصبح يجيد الإنجليزية في شركة كبيرة لبناء محطات الكهرباء، ذات يوم أعطاه قريبه لطيف فرج وكان طالبا بالجامعة كتابا عن الاشتراكية ثم كتابا عن الماركسية، ثم سلمه لطالب جامعي يلتهب حماسا هو ضياء الدين بدر وبدأ يدرس الماركسية علي يديه وأسعفته معرفته بالإنجليزية في قراءة كتب عديدة، لكنهم تركوه هكذا لم يضموه إلي أي مجموعة أو خلية ولم يعرفه إلا عدد قليل جدا، فقد جعلوا من بيته مخزنا للمطبوعات الحزبية، وبقي هكذا حتي 1950، وفي هذه الأثناء رقي لكفاءته ليصبح مديرا عاما وعاش حياة مرفهة، فيلا ومرتب وفير، وفي هذه الأثناء ضمه قريبه رءوف فرج «طالب طب - انتقل إلي سيدني في الستينيات ليصبح أحد أشهر أطباء استراليا» إلي منظمة الحزب الشيوعي المصري «الراية» وفي هذه المنظمة ظل يعمل أيضا في أشد الأجهزة خطورة توفير آلات الطباعة وتخزين المطبوعات وترتيب شبكة الاتصال، نجح وليم نجاحا باهرا، أقام شبكة اتصال دقيقة ومتقنة، واحد من الرفاق العاملين معه هو المهندس نعيم محروس وضع تصميما لمطبعة بسيطة جدا وشديدة الكفاءة، وذهبا معا إلي صاحب ورشة ميكانيكية في شبرا هو عبدالعزيز خاطر حاولا خداعه طلبا منه تصنيع عدة قطع منفصلة صنعها وهو يبتسم وبعد أن أنجز المهمة سألهم «إنتوا بتعملوا مطبعة ليه» صارحوه أنهم شيوعيون وضحك قائلا: «متقولوا كده من الأول» وتخصص عبدالعزيز خاطر في ابتكار مطابع بسيطة وجيدة الطبع، بل أصبح يمارس طباعة المطبوعات الحزبية، وذهب وليم إلي طنطا حيث هيأ مخبئا ماكرا للمطبعة، بني حائطا يسد إحدي الغرف ثم ركب علي الحائط المصنوع حوضا وحنفية وتحت الحوض باب سري، وفي الغرفة السرية كانت المطبعة التي لم ينس عبدالعزيز خاطر أن يزودها بمواد عازلة لتقليل صوت الماكينة، ومع هذا النجاح المذهل وبرغمه أو بسببه سيان أتاه قرار حزبي، اترك عملك وبيتك واذهب محترفا إلي المحلة، ترك الوظيفة والفيلا، وأخذ زوجته وطفله سعد إلي غرفة محشورة في حارة ضيقة في بيت مهدم، المرتب عشرة قروش في اليوم قرشان للسجاير وقرش ليستطيع أن يجلس علي القهوة كي يبدأ علاقات اجتماعية تمكنه من تجنيد رفاق جدد، وسبعة قروش للسكن والطعام وكل حاجياته هو والزوجة وسعد، ومع هذا التفاني في الكفاح صعد وليم إلي اللجنة المركزية، وأصبح أيضا مسئولا عن كل أجهزة الطباعة وفي منشية البكري كانت هناك شقة بها مطبعة صغيرة، كان هو هناك وكان عبدالناصر يخطب في مؤتمر لعمال السكة الحديد وأتي صوته عبر الراديو مهاجما «الشيوعيين العملاء» كتب بسرعة بيانا مختصرا يرد عليه، وطبعه علي الفور ثم أسرع به إلي أحد الزملاء العاملين في السكة الحديد هو غنيم مصطفي، سلمه البيان وأمره أن يوزعه في مكان الاجتماع وفيما الخطب تتوالي وعبدالناصر علي المنصة إذا بمنشور يلقي فوق رءوسهم يرد علي ما قاله عبدالناصر في ذات الاجتماع، رفاقه اعتبروه بطلا، أما هو فقد واصل حياة شديدة العذاب هو احتمل برضاء، ولكن ما ذنب زوجته وطفله، ذات يوم أسرع إلي ملوي في مهمة حزبية عاجلة ترك لزوجته كل ما معه من قروش غاب عدة أيام القروش نفدت والجوع كاد أن يفتك بالطفل لم يكن لديهم سوي حلة بها بقايا أرز مطبوخ من عدة أيام الزوجة أكلت هي وطفله وأصيبا بتسمم وعاد ليجدهما علي وشك الموت، وفي نوفمبر 1954 قبض عليه بعد أن كان قد استعاد وجود الحزب في عديد من المناطق وإلي سجن القناطر، الزوجة جاءت لزيارته ومعها سعد، تعلق سعد في عنقه ورفض أن يترك أباه، ضابط غليظ القلب انتزع سعد بوحشية وأصيب سعد من يومها بالصرع «سعد أصبح دكتور مهندس لكن هذه اللحظة المتوحشة لم تفارقه حتي الآن»، قبض مع وليم علي اثنين من أقربائه د. رفقي والمهندس نعيم ومع كل منهما أوراق حزبية، هو ضبط ومعه أدوات طباعة ومطبوعات وأرشيف أي أنه مسجون، مسجون فوقف أمام القاضي معترفا أنه شيوعي وأن المضبوطات تخصه، وحتي مضبوطات رفقي ونعيم قال إنه وضعها في بيتهما دون أن يعلما بذلك وأفرج عنهما أما هو فقد حكم عليه بسبع سنوات أشغال شاقة، لكن المأساة لم تكتمل.. فقد شكلت لجنة للتحقيق في أسباب الاختراق الأمني للحزب، كانت هناك أخطاء أمنية كثيرة، لكن الاعتراف بها يهز مكانة القيادة ولم يجدوا سوي اتهامه بأنه عميل للأمن، كاد أن يموت حزنا لكنه تحمل وظل مرفوع الرأس واثقا من نفسه، وفي عام 1961 انتهت مدة العقوبة ومن المفترض أن يفرج عنه لكن رجل البوليس السياسي حسن المصيلحي استقبله وقال له لماذا تبقي معهم وهم يتهمونك بأنك عميل؟ اتركهم واستنكر مبدأهم وأنا أفرج عنك، ورفض، فعاد إلي الواحات معتقلا، لكن زوجته لم تعد تحتمل وقررت الانفصال عنه فكانت لطمة أخري، ومع ذلك ظل مبتسما، هادئا، مرفوع الرأس واثقا من نفسه حتي أفرج عنه عام 1964 مع الجميع، وبعدها عمل مديرا للمكتب التجاري الروماني في شارع طلعت حرب ليمر عديدا من الحركات كل أسبوع علي مقر التجمع، يسأل ويشارك ويتبرع بالكثير.. حتي رحل.