شهد المستشفى العام لمدينة ديرب نجم بمحافظة الشرقية إهمالا طبيا جديدا حيث قام الأطباء هناك بإشعال النيران فى فم طفل عمره (5 سنوات) داخل غرفة العمليات أثناء جراحة بسيطة لإزالة «اللوز» وسبب الحريق هو استخدام الطبيب جهاز الكى بحلق الطفل بعد رش مادة السبيرتو المساعد على الاشتعال مما دمر فم الطفل وفقد وظيفته.. هذه الحادثة لم تكن الأولى وليست الأخيرة فى ظل تفاقم ظاهرة أخطاء الأطباء القاتلة حتى فى أكبر المعاهد والمراكز الطبية الخاصة منها والحكومية وحتى الاستثمارية.. الأمر الذى يطرح بصورة ملحة قضية المسئولية عن تلك الأخطاء التى تؤدى بحياة المرضي؟ ومن يتحملها؟ ومن المسئول عن متابعة تنفيذ العقوبات التى حددها القانون؟ وقبل كل ذلك ما الأسباب التى أدت إلى تفاقم الظاهرة بهذا الشكل المدمر؟ وكشفت دراسة أعدها مركز قضايا المرأة تحت عنوان «إهمال الأطباء.. من يدفع الثمن؟» أن نسبة ضحايا الإهمال الطبى من الإناث حوالى 63% أما الذكور فبلغت نسبتهم 32% مما يعنى أن الإناث كانوا ضعف الذكور وهذا يرجع إلى أن الكثير من السيدات يلجأن إلى أطباء مغمورين ليست لهن خبرة ودراية كافية، وأن محافظة القاهرة كان بها أكبر قدر من الأطباء المخطئين بلغت نسبتهم 29% من العدد الكلى للأطباء المخطئين وتلاها فى ذلك محافظة الجيزة والإسكندرية حيث وصلت النسبة فى كل منهما 14% ثم محافظة الشرقية بنسبة 8% ثم الدقهلية بنسبة 6%.. وحول الآثار الناجمة عن أخطاء الأطباء أوضحت الدراسة أن أكثر الآثار تكرارا بنسبة 34% من الآثار الناجمة هى الوفاة ثم بتر الساق أو يد أو أصابع بنسبة 13% وكذلك النزيف الحاد، أما الشلل الرباعى فاحتل المرتبة الرابعة بنسبة 11% وجاء فقد الإبصار أو السمع بنسبة 10% ثم العقم أو فقدان القدرة الجنسية بنسبة 6% وتلا ذلك العجز الكلى بنسبة 5% واستئصال جزء من الأمعاء بنسبة 4% ثم الغيبوبة بنسبة 30% وأخيرا الأزمة القلبية بنسبة 1%. اعترف عدد من الأطباء بتدنى المستوى العملى فى ممارسة المهنة عند الكثير منهم وأشاروا إلى وجود عدة أسباب رئيسية للأخطاء التى يتورط فيها الأطباء ويدفع ثمنها المرضى وهى جهل الطبيب وافتقاده للكفاءة والخبرة اللازمة للتعامل مع الحالة وتشخيصها أو إجراء العملية الجراحية المطلوبة فضلا عن إهمال وتكاسل بعض الأطباء فلا يقتصر الأمر فى ذلك على الأطباء الصغار بل يتحمل مسئوليتها أساتذة كبار يقوم بعضهم بإجراء العملية دون إتمامها حتى النهاية ويترك استكمالها لبعض مساعديه. ومن جانبها أكدت «د. منى مينا» – أمين عام نقابة الأطباء – أن مشكلة أخطاء الأطباء تحولت بالفعل إلى ظاهرة خطيرة وقاتلة وذلك فى ظل منظومة صحية متدهورة وفوضى عارمة فى المستشفيات الحكومية أو الخاصة وعجز فى الإمكانيات وميزانية ضعيفة ومهدرة فى مكافآت لشريحة معينة من المستشارين بوزارة الصحة وبالتالى فإن الإهمال الطبى جزء من إهمال المنظومة الصحية فى مصر. وأضافت أن علاج هذه الظاهرة يتطلب قواعد صارمة للمحاسبة ولكن المحاسبة هى أحد أطراف تلافى الأخطاء فى حين أن منع الأخطاء يتطلب وضع أسس لضبط الممارسة الصحية منها زيادة ميزانية الصحة وتوفير الإمكانيات وأجور كريمة للفريق الطبي. ظروف سيئة وأوضح «د. أحمد أبوبكر» – استشارى جراحة قلب الأطفال، عضو نقابة الأطباء – أن الظروف الحاكمة للممارسة الطبية فى هذا البلد بشقيها الحكومى والخاص سواء مريضا بأمراض مزمنة أو عارضة وعلى كل المحاور سواء التعليم الطبى وكليات الطب التى تفرز أعدادا غفيرة سنويا دون الاهتمام بالمستوى التعليمى الكافى لكل طبيب داخل الكلية فضلا عن تعليم الممرضات وتأهيلهم، والمريض الذى يسيطر عليه فى معظم الأحيان بعض الخرافات ولا يلتزم بالتعليمات، ويضاف إلى ذلك المنظومة القضائية فى التحقيق والتعامل مع المشاكل الطبية.. كل هذا ساهم فى تفاقم الظاهرة. الملف الطبي وأضاف أن جزءا مهما من علاج المريض هو أن يكون هناك ملف طبى للحالة فدور الطبيب ليس مجرد وصف العلاج فى روشتة ولكن لابد من كتابة تقرير بالحالة قبل وبعد العلاج وفى حالة حدوثه مشكلة أو خطأ طبى يمكننا الرجوع إلى هذا الملف الطبى وهذا الملف ملزم فى أصول الممارسة الطبية سواء فى المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة أو الحكومية على السواء ولكن للأسف الوضع فى مصر سيء للغاية فالمعلومات عن أى حالة قليلة جدا ونادرا ما يتم توثيق الحالة أو حتى كتابة التاريخ وهذا القصور يساهم فى ضياع حق المريض ويسمح أيضا باتهام أى طبيب ويكفى الجملة التى لا تقال إلا فى بلدنا مصر عند خروج تقرير لأى حالة وفاة بأن سبب الوفاة «هبوط حاد فى الدورة الدموية» فى حين أن أى حالة وفاة سواء كانت بطعن سكين أو طلق نارى لابد أن تمر بتوقف الدورة الدموية والتنفسية وبالتالى فالمنظومة الطبية فى مصر بها قصور شديد يؤدى إلى ضياع الحقوق والمؤسف أن هناك أساتذة جامعة كبارى من مصلحتهم بقاء الأوضاع كما هى حتى يتمكنوا من الإفلات من العقاب فى حالة حدوث خطأ طبى أثناء إجراء عمليات جراحية غير مؤهلين لمتابعتها أو إجرائها وهدفهم الأول والأخير هو الربح.. وأوضح «د. أبوبكر» أن هذه العيوب والمشاكل كانت موجودة منذ أكثر من ثلاثة عقود ولكن للأسف درجة الخلل فى تزايد والمشكلة تتفاقم يوما بعد آخر مشيرا إلى أن هناك مئات الحالات التى يتسبب فيها الإهمال الطبى أو الخطأ إلى حدوث وفاة المريض ولكن للأسف هذه الحالات لا تصل إلى الإعلام ولا تتقدم بشكاوى إلى النقابة أو ترفع دعاوى قضائية. ويستكمل أن هناك حالة ضئيلة يكون المريض هو المسئول عن حدوث الخطأ خاصة أن التعامل مع الجسم البشرى يعتمد على استجابة الجسم للأدوية حتى لو تعاملنا معه بأرقى تكنولوجى طبى فاحتمال الخطأ وارد نظرا لاستجابة الجسم لهذه التدخلات الطبية. قصور التشريع المصري وعلى الرغم من أن ظاهرة الإهمال الطبى من الظواهر التى ظهرت فى المجتمع الدولى منذ زمن بعيد لكن الدول المتقدمة سرعان ما انتهجت سياسات قانونية وعلمية لمعالجة المشكلة والحد منها محليا وهو ما أثر سلبيا على نصوص وتشريعات حقوق الإنسان الدولية وأضفى عليها نوعا من التجاهل القانونى للظاهرة على المستوى الدولى والاكتفاء بالقواعد الدولية التى شرعت فى الأساس لحماية جسد الإنسان وحمايته من بطش السلطات التنفيذية للدول، فالعهد الدولى للحقوق المدنية والسياسية الذى اعتمد وصدق عليه من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة فى ديسمبر عام 1966 وبدأ التنفيذ فى مارس 1976 وصدقت عليه مصر فى أكتوبر 1981 ينص فى المادة السادسة منه على «الحق فى الحياة حق ملازم لكل إنسان وعلى القانون أن يحمى هذا الحق ولا يجوز حرمان أحد منه تعسفا». ونص العهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التى صدقت عليه مصر أيضا فى المادة الثانية عشرة منه علي: 1- حق كل إنسان فى التمتع بأعلى مستوى من الصحة الجسمية والعقلية. 2- اتخاذ جميع التدابير لتأمين الممارسة الكاملة لهذا الحق ومنها تهيئة ظروف من شأنها تأمين الخدمات الطبية والعناية الطبية للجميع فى حالة المرض. وبقراءة تلك النصوص يتضح أنها تحمى حياة الإنسان من بطش السلطات التنفيذية للدول دون فرض حماية واضحة لحياة الإنسان من التجريب والخطأ الطبى على جسد الإنسان أما على مستوى الدول الفقيرة «ومنها مصر» فإن الأزمة لاتزال تتفاقم يوما بعد آخر خاصة مع ضعف الرقابة على عمل الأطباء وانتشار التعليم الطبى العشوائى وغير المنظم مما يفرز أطباء غير مؤهلين للتعامل مع الجسد الإنسانى باعتباره كائنا حيا يتمتع بجميع الحقوق والواجبات.. هذا ما أكده د. أحمد أبوبكر، مشيرا إلى أن من حق أى مريض أن يكون لديه ملف طبى من أجل حماية المريض والطبيب عند حدوث أى خطأ.. وأشار «د. أحمد أبوبكر» إلى أننا البلد الوحيد الذى يسمح بمزاولة الطبيب لمهنة الطب فى أكثر من مكان سواء حكوميا أو خاصا حتى أساتذة الجامعة نادرا ما يذهبون إلى الجامعة لأن الأستاذ يجد أمامه 1500 طالب بدلا من 300 وبالتالى يتخرج الطبيب بدون خبرة عملية كافية تؤهله للعمل الطبي، ولذلك تجده يتعامل مع الحالة المرضية بدون أدنى حقوق لها. ومع ضعف التشريعات الدولية التى تحمى حقوق الإنسان لن تجد فى تشريعنا المصرى نصوصا تتحدث عن خطأ الطبيب بشكل مباشر فرغم أن الدستور المصرى الجديد تحدث عن الحماية العامة لصحة المواطن المصرى والعلاج المجانى لكنه لم يتحدث عن أخطاء الأطباء. وعلى مستوى قانون العقوبات لم نجد مواد تتحدث صراحة عن خطأ الطبيب وإنما اكتفى بالقواعد العامة للمادتين 238 و244 وتنص المادة (238) من قانون العقوبات «من تسبب خطأ فى موت شخص آخر بأن كان ناشئا عن إهمال أو رعونة أو عدم احترازه أو عدم مراعاته للقوانين والقرارات واللوائح والأنظمة يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تجاوز مائتى جنيه أو بإحدى العقوبتين وتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد على خمس سنوات وغرامة لا تقل عن مائة جنيه ولا تزيد علي خمسمائة جنيه أو إحدى العقوبتين إذا وقعت الجريمة نتيجة إخلال الجانى إخلالا جسيما بما تفرضه عليه أصول وظيفته أو مهنته أو حرفته. أما المادة 244 من قانون العقوبات فتنص على من تسبب خطأ فى جرح شخص أو إيذائه بأن كان ناشئا عن إهمال أو رعونته أو عدم مراعاة القانون.. يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنة وبغرامة لا تتجاوز مائتى جنيه أو بإحدى العقوبتين وتكون العقوبة بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وغرامة لا تجاوز ثلاثمائة جنيه أو إحدى العقوبتين إذا نشأت عن الإصابة عاهة مستديمة. قانون النقابة وتعليقا على ذلك قال «د. أحمد أبوبكر» إننا لدينا فى قانون النقابة نصوص قوية تعاقب الطبيب فى حالة ارتكابه خطأ مهنى بشرط أن يتقدم المريض أو أهله بشكوى مكتوبة للنقابة ولكن للأسف هناك الكثير من الشكاوى تظهر فى وسائل الإعلام ولا تصل إلى النقابة مشيرا إلى أن الطبيب فى مصر إذا ارتكب خطأ يعاقب أولا خلال جهة عمله تعمل من خلال تحقيق إدارى ونقابي فى حالة تقديم شكوى للنقابة ويمكن رفع دعوى قضائية ضد الطبيب أمام القضاء. وأكد د. محمد الفقى أستاذ جراحة القلب بجامعة عين شمس فى دراسة «الإهمال الطبى من يدفع الثمن؟» أن الأخطاء واردة دائما والدليل على ذلك أنه ليست هناك دولة فى العالم تصل نسبة نجاح أى عملية فيها إلى 100% مما يدل على أن المضاعفات ممكنة الحدوث فى مصر وخارج مصر، مشيرا إلى أن أخطاء الأطباء بصفة عامة غير مقبولة ولا يمكن اعتبارها مجرد خطأ مهنى عادى ولكن يجب أن نفرق بين خطأ الطبيب والمضاعفات التى تطرأ نتيجة التدخلات الطبية سواء كانت عن طريق أدوية تتسبب آثارها الجانبية فى هذه المضاعفات مثل الحساسية غير المتوقعة لدواء معين لدى المريض والتى تصل فى بعض الأحيان لأن تكون مميتة أو تكون المضاعفات نتيجة عوامل غير منظورة وخارج التكهنات لأى طبيب مثل وجود عيب خلقى فى التمثيل الغذائى بالكبد مثلا لدى المريض الذى يخضع لعلاج أو عملية جراحية فى تخصص آخر.. وأكد د. الفقى أهمية وضع خط فاصل بين الخطأ الطبى والمضاعفات وبالنسبة للأخطاء الطبية فتتم المحاسبة الشديدة عليها التى تصل إلى حد شطب الطبيب وإلغاء ترخيص مزاولته لمهنة الطب.. وأضاف أن الطبيب المخطئ تتم محاسبته أمام جهتين إحداهما النقابة والأخرى الجهة القضائية إلا أن هذه العقوبة عمليا تفتقد الآليات المطلوبة لتحقيق الهدف منها خاصة مع بطء إجراءات التقاضى التى تصل لعدة سنوات تضيع معها هيبة العقوبة لدى الطبيب المخطئ وفى المقابل يتضرر منها الطبيب البريء لانتظاره فى قلق وتوتر لحين صدور الحكم ويدفع ثمن هذه السنوات من سمعته. وثيقة تأمين ويقترح «د. أحمد أبوبكر» عمل وثيقة تأمين إجبارية ضد أخطاء الأطباء كحماية لكل من المريض والطبيب فى حالة حدوث أخطاء، مشيرا إلى أن النقابة تطالب بذلك منذ سنوات طويلة ولدينا العديد من مشروعات القوانين التي تهدف إلى إصلاح الوضع الطبى فى مصر وتشترط التأكيد على الملف الطبى لكل مصري. وطالب د. أبوبكر بضرورة تعديل نظام القبول بكليات الطب بحيث تكون بناء على اختبارات مقننة فى العلوم والرياضيات لأن أغلب الطلاب عقولهم غير مؤهلة لدراسة الطب وأن يكون الاستعداد للدراسة وفقا لما هو مأخوذ به فى دول العالم المتقدم فضلا عن إخضاع الطلاب والأطباء للتعليم المستمر وحضور المؤتمرات الطبية، وإعادة تدرب الأطباء وتقليل أعداء الطلاب الذين يلتحقون بكلية الطب فى كل عام.. وطالب بأهمية تفعيل مواد الدستور الجديد التى تنص على حق العلاج المجانى لكل مريض وأيضا القرارات الوزارية غير المفعلة مثل قرار بمجانية الطوارئ حتى فى المستشفيات الخاصة فأحيانا علاج الطوارئ يكلف 5 آلاف جنيه وللأسف الدولة لا تدفع التكلفة للمستشفيات الخاصة ولذلك نجد المسئولين عن هذه المستشفيات يتحايلون على القرار فى ظل تجاهل من وزارة الصحة.