النص فضاء شفاف يشف عن مكونات عديدة نحجبها إذا اقتصرنا علي عدسة واحدة، ونقترب منها إذا استخدمنا منهج الاستشفاف المؤدي إلي الاستكشاف.. وجدت في هذا النص للناقد الدكتور «يوسف نوفل» مدخلا لا لقراءة نصوص «حلمي سالم» المتنوعة بعد عام من رحيله، ولكن لقراءة «حلمي سالم» نفسه كنص.. كإنسان.. كصديق عمر وزميل عمل. تزاملنا «حلمي» وأنا علي مدي يزيد علي ربع قرن حيث عملنا معا في كل من «أدب ونقد» و«الأهالي» وحزب التجمع وحدثت بيننا مشكلات بلا حصر خاصة حين كانت قصيدة تطرق باب قلبه ويجند لها كل طاقاته الكتابية والفنية، وتنطلق الحرية الداخلية من عقالها، ويزوي العالم الخارجي بكل متطلباته وضوابطه والتزاماته لتتقدم الحالة الشعرية والوعي الفني، و«حلمي» يعافر للسيطرة علي هذا الوعي حتي يتجنب السقوط في فخ الصور المستهلكة أو الإيقاع الشائع وهو يستكمل رؤيته للعالم في تفردها وصدقها متجنبا المشي في الدروب المطروقة. وتأمل «حلمي» كثيرا وهو يكتب مما يستدعي من الناقد أن يستخدم ما قال عنه الدكتور «يوسف نوفل» منهج «الاستشفاف المؤدي إلي الاستكشاف، وحين نفعل ذلك بعد أن نتمثل الحالة الشعرية التي أنتجت هذا العالم الغني المدهش نستطيع أن نري إلي الوشائج التي تربطه عميقا بتراث الصوفية الإسلامية وقد جرت عصرنته ليضم بين أجنحته القضايا المعقدة لزماننا والتي طالما عالجها «حلمي» في كتاباته النثرية بوعي علمي ثاقب ونزيه، كما عالجها شعريا عبر الفعالية الجمالية والحساسية ضد الظلم والاستغلال التي جسدت له العتم الفعلي. وقليلون هم المثقفون الذين كانت حياتهم اليومية – رغم ما فيها من حماقات – تتسق مع اختياراتهم الفكرية، مارس «حلمي» هذا الاتساق كمثقف ماركسي يتطلع إلي تغيير العالم، وقدم في شعره ما يمكن أن نسميه عالما موازيا الحرية مرتكزة الراسخ، تلك الحرية التي انشغل بها ليس كقيمة سياسية فحسب وإنما أيضا كقيمة عليا من قيم الإنسانية تصورها «حلمي» دائما مبثوثة من كل العلاقات الاجتماعية حين يتحرر البشر كافة من أسر الحاجة والخوف، وتسقط عنهم – عبر نضالهم – كل الأغلال وينتهي الاستغلال.. إنه الشعر الذي يعيش بالحرية في المستقبل ومع ذلك يبقي للشعر دائما عالم ضائع وراءه، هو عالم «الحنين» للتناغم في واقع ملئ بالتناقضات، الآن فقط أعرف لماذا أطلق «حلمي» علي ابنته الصغري اسم «حنين». ودون أن أسأل رفيقة حياته الصديقة العزيزة «أمل بيضون» من الذي اختار اسم حنين – وهو ليس شائعا أجدني علي شبه يقين أن «حلمي» اختاره وهو ينسج صورا للعالم القادم الذي سوف يستلهم تناغما كان قائما في الزمان الإنساني الأول حينما كان الإنسان يحبو كطفل، ويعيش حياة بسيطة.. ظل الحنين في عالمه هو صوت الماضي المثقل بالذكريات، صوت اللاوعي الجمعي لإنسانية تكافح لتكون جديرة بإنسانيتها، وحتي ينهل المستقبل من نبع صفاء الماضي الجميل ويبث فيه قيم العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية، وأن يبث الشاعر هذه القيم العليا في مستقبل الإنسانية هو يختلف كلية عن مفهوم العودة إلي الماضي الذهبي الذي تدعو له جماعات اليمين الديني وهي تحشد جماهيرها خلف يوتوبيا رجعية يلعب الغيب فيها الدور الرئيسي كما أنها تتطلع إلي تكرار العلاقات الاجتماعية القائمة وإعادة إنتاجها باعتبارها ثابتة لا تتغير، أما يوتوبيا المستقبل التي استغرقت جزءا كبيرا من إنتاج «حلمي» فإن الحنين فيها هو للقيم، والماضي تجربة فحسب لكنها غير قابلة للتكرار، والفعالية الأولي في بناء المستقبل فيها هي للإنسان. وبسبب تعقيد هذه المسألة يبدو لنا عالم «حلمي» مأخوذا بالالتباس الذي سرعان ما يجلوه الوضوح حين نفككه ونهتك أسراره وننظر في أصل الذكريات ومنبع الحلم الصافي وفوق كل شيء منبع الحنين. بحث «حلمي» بدأب وجد عن الفاعلية الجمالية التي تري العالم بوصفه كلا ومعني، وهو ينظر في التناقضات التي لن يكون دونها معني للوحدة، وهو يري إلي المتناقضين الاثنين في اختلافهما لا في تماثلهما، وقد اختار هو المختلف الأصعب حين امتلكه شوق تغيير العالم ليصبح عالما جديرا بالإنسان، ومن تراث الصوفية رأي الله متجسدا في الإنسان الذي كرمه الله، وعاقبه ضيقو الأفق المهووسون بالجمود، المتحجرون الذين لا يرون أن الإنسان يستحق الرحمة لا العذاب، وهو – أي الإنسان مهدد طيلة عمره بعذاب القبر والنار. لا يجوز لنا إذن أن نري شاعرا وإنسانيا مثل «حلمي» من عدسة واحدة بل نحن في حاجة إلي رؤية متكاملة فيها عدسات كثيرة تقودنا إلي المناطق المجهولة في تجربته، بل وتدعونا لإعادة اكتشاف المعلوم فيها. وأقول «لأمل» و«حنين» وأقول «للميس» و«رنيم» ولكل الأصدقاء والمثقفين المحبين إن علاقة حلمي ب «الأهالي» و«أدب ونقد» وبالحياة الثقافية كلها سوف تظل حاضرة كنبع صاف لا ينضب ماؤه أبدا.. ونحن لن ننساه أبدا.