أمَّا قبل تذّكر »أخبار الأدب« بحيوية المعارك الثقافية، والمناقشات الفكرية، والجدليات الأدبية التي تثري العقل والوجدان. وهي إذ تطرح هذا الملف الرفيع في مستواه الحواري بين شلة من أقطاب الفكر علي تنوع مشاربهم واختلاف رؤاهم، فإنها تسعي لخلق حالة حوارية جديدة بين المبدعين الذين هم حملة مشاعل التنوير وموقدو مصابيح الاستنارة دائماً خاصة حين تغطي الظلمة جنبات المواقع فتنعدم الرؤية إلا قليلاً، وتكف البصيرة قبل البصر. وإذ نستدعي معركة حدثت قبل ثلاثين عاماً بين الشيخ محمد متولي الشعراوي وبين ثلاثة من كبار المفكرين: د. زكي نجيب محمود، وتوفيق الحكيم، ويوسف إدريس.. فإننا نوجه رسالة مباشرة وغير مباشرة إلي هؤلاء الذين يتصارعون ويصرعون أنفسهم تحت سنابك الكراسي وحوافر المناصب، ويتطاحنون سراً وعلانية للحصول علي فتات الموائد السياسية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، ويقيمون الموالد السياسية يهتفون ويتهافتون، بلا أدني قيمة للحوار المحترم والمجدي. انظروا إلا منظومة القيم التي تطارحها الشيخ محمد متولي الشعراوي- وهو شاعر وأديب- إلي جانب كونه عالماً دينياً من طراز نادر، كيف تحاور مع العمالقة الثلاثة حول مبدأ وقيمة وحقيقة تمزج بين الدين والدنيا، بين فقر الفكر وفكر الفقر، ولا ينتظرون جزاء ولا شكوراً إلا خدمة الوعي العام، وإثراء الوجدان العام، ومخاطبة العقل العام. وإننا- إعلاءً لشأن الحوار والمحاورة- ندعو جماعات المثقفين أيضاً لطرح رؤاهم ومجادلة أنفسهم والمجتمع كله، ليمارسوا دورهم وهو دور- جد- خطير، فلا ينبغي أن ينتظر المثقفون حتي يتم الحدث ثم يصفقون مع المصفقين أو يرفضون مع الرافضين، إنهم يمتلكون »حدس زرقاء اليمامة« يستشعرون الآتي علي ضوء الآني، ويروا مالا يري الآخرون. إن المثقف هو الأطول عمراً، والأغزر فكراً، والأبقي أثراً.. لكن أكثر الساسة لا يدركون..! الشيخ متولي الشعراوي: الحكيم طلبني وهو في الإنعاش فأهديته سجادة صلاة ويوسف إدريس قضي معي ليلة .. تعاتبنا وتصافينا! مالذي جعل النار تشتعل بين الشيخ والداعية الكبير متولي الشعراوي وعدد من مشاهير الادب والفكر ؟؟ كيف بدأت هذه المعارك؟ وكيف انتهت؟ ثم ماذا يقول الشيخ عن اللقاء الأخير بينه وبين توفيق الحكيم؟ وما الذي قاله الحكيم للشيخ وهو علي فراش الموت؟ كذلك اللقاء الأخير مع يوسف إدريس وهو اللقاء الذي جري في لندن حيث كان الاثنان الشيخ ويوسف ادريس يعالجان هناك؟.. وماهي حكاية الركعتين اللتين سببتا للشيخ الكبير أزمة مع العلمانيين في الجزائر ؟؟ الشعراوي والحكيم !! بدأت معركة الشعراوي مع توفيق الحكيم بسبب المقالات التي كتبها توفيق الحكيم وهو علي مشارف التسعين، في أول مارس من عام 1983. وعلي مدي أربعة أسابيع علي صفحات الأهرام في صورة حوارات مع الله تحت عنوان: »حديث مع الله«.!! وسببت هذه المقالات ازمة ما بعدها ازمة وغضبا ما بعده غضب وردود افعال في غاية الثورة. وسارع للتعقيب عليه المرحوم الدكتور محمد الطيب النجار الرئيس الاسبق لجامعة الأزهر الذي قال متعجبا من قول الكاتب الكبير »إنه سمع أو خيل إليه أنه سمع ردا من الله عليه واعتقد أن الله سمح له أن يدخل معه في الحديث«.. "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا" وقد انقطع الوحي ونزوله منذ ختمت الرسالات بمحمد عليه الصلاة والسلام. وتصدي الشيخ الشعراوي وقتها لما كتبه توفيق الحكيم، وقال: عجبت من رجل يعتبرونه شيخ الكتاب يعلن بنفسه أنه لم يعد صالحا لأن يكتب، لا مسرحيات ولا روايات، أي أنه لا يصلح لكتابة بشر لبشر، ثم يتسامي إلي أن يتكلم مع الإله أو يستقبل كلاما من الإله! وقال الشيخ: توفيق الحكيم قال: »إن الملحدين من العلماء سيدخلون الجنة رغم أنهم لم ينطقوا شهادة أن لا إله إلا الله، لكننا عرفنا الإيمان عن طريقهم، أمثال أينشتين كيف؟ يقول: »بأن هؤلاء قد جاءوا بما لم يأت به الرسل والأنبياء!« وذلك مساس بصفة العدل عند الله.. فالأستاذ الحكيم يريد أن يدخل هؤلاء الجنة بلا حساب بلا إيمان، وكأنما غفر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر، بدعوي أنهم أضافوا إلي الإنسانية أشياء جليلة! »من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه، ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب«. إنه يمثل شيخوخة الفكر، وطفولة العقيدة واشتدت المعركة واتسعت ساحاتها.. وتدخل إلي جانب توفيق الحكيم كل من يوسف إدريس والدكتور زكي نجيب محمود. وطالب الشيخ وقتها بعقد ندوة مفتوحة في التليفزيون وأن يحضرها توفيق الحكيم ويوسف إدريس وزكي نجيب محمود.. ويحضرها هو بمفرده. لكن الحكيم تراجع وغير عنوان مقالاته من: »حديث مع الله« إلي: »حديث إلي الله«.. ثم إلي: »حديث مع نفسي« واستمر في مناجاته الروحية للذات العليا وبكل القدسية والخشوع إلي الله. وكتب الحكيم في رده علي الشيخ الشعراوي يقول: إن ما فهم أنه حوار بيني وبين الله تعالي علي أنه أمر منكر وتطاول علي مقام الله تعالي.. أو علي الأقل هو ما يمس الإحساس الديني عند البعض.. فقد اقتنعت بذلك ولا يمكن أن استمر عامدا متعمدا علي إيذاء شعور المؤمنين. الصلح ! يكشف الشيخ لأول مرة عن لقائه الأخير مع توفيق الحكيم وماذا دار فيه .. يقول : لقد ذهبت لزيارته وهو في المستشفي المقاولين العرب.. وكان هو قد قال: »أنا شفت الشيخ الشعراوي في الرؤيا.. رأيته في المنام«.. قال ذلك للأطباء الذين يعالجونه.. وكانوا قد نقلوه من الانعاش إلي غرفته.. وقد أبلغتني ابنته »زينب« بحكاية »الرؤية«هذه وقالت: إنه يريد أن يراني.. فذهبت إليه. وسألني : - يا شيخ شعراوي.. عايز أعرف منك إيه المطلوب مني الآن؟ فقلت له: المطلوب منك الآن.. أن تتقرب من الله قربا شديدا.. لتكفر عن البعد الشديد.. وأول شيء تتقرب به إلي الله هو الصلاة.. وأعطيته السجادة.. وبعدها توفي يرحمه الله ! ومع يوسف ادريس !! أما معركة الشيخ مع يوسف إدريس فكانت أشد المعارك وأكثرها ضراوة.. وكان هجوم يوسف إدريس علي الشيخ الشعراوي عنيفا وجارحا. ففي كتابه »فكر الفقر وفقر الفكر« وصف يوسف إدريس الشيخ الشعراوي بأنه "يتمتع بكل خصال راسبوتين المسلم من قدرة علي إقناع الجماهير البسيطة. وقدرة علي التمثيل والحديث بالذراعين وتعبيرات الوجه". لكن يوسف إدريس عاد وتراجع وأعلن اعتذاره للشيخ.. وقال إن ما ورد في الكتاب هو »خطأ فني مطبعي« سقط إصلاحه سهوا وبحسن نية.. وأنا لا يمكن أن أتولي بنفسي تجريح شخصية عظيمة كشخصية الشيخ الشعراوي وكنت قد صححت الجملة لكن التصحيح لم يتم في بروفات الكتاب مما جعل الفقرة تبدو هجوما غير معقول أن يصدر مني تجاه فضيلة الشيخ متولي الشعراوي الذي أكن له - رغم كل الفوارق الفكرية - أعمق آيات الود والتقدير والحب والاحترام. ومضي يوسف إدريس في اعتذاره يقول: إنني من عشاق فضيلة الشيخ الشعراوي، واعتبره فلتة عبقرية مصرية عربية إسلامية.. وفي الأحاديث الكثيرة التي يؤخذ رأيي فيها في فضية الشيخ أذكر أنه »أي الشيخ« أهم ظاهرة دينية إسلامية ظهرت منذ أيام الأئمة الكبار: أبوحنيفة والشافعي ومالك وابن تيمية وابن حنبل - رضي الله عنهم جميعا - والله وحده شاهدي علي حسن نيتي. يقول الشيخ الشعراوي إنه التقي بالدكتور يوسف إدريس في لندن بعد المعركة الفكرية التي دارت بينهما.. كان الشيخ وقتها يعالج هناك في مستشفي ولنجتون.. وكان الدكتور يوسف إدريس يعالج في نفس المستشفي.. وسمع يوسف إدريس وهو لايزال تحت العلاج أن الشيخ كان يعالج بالمستشفي وخرج ولكنه لم يغادر لندن، فطلب من أحد أصدقائه أن يبلغ الشيخ الشعراوي تحياته وتمنياته له بتمام الشفاء. وعرف الشيخ بوجود يوسف إدريس فذهب لزيارته والسؤال عنه. ويذكر الشيخ الشعراوي أنه التقي بالدكتور يوسف إدريس هناك بعد خروجه من المستشفي .. يقول : »وقعدنا ليلة طويلة مع بعض وتصافينا«. وقال الشيخ إن يوسف إدريس قد ترك في نفسه انطباعا بأن »أنفاسه رخية« رغم حدته! وعندما يشاء الله لإنسان أن يتراجع عما بدر منه فليس من الواجب أن نفكره ونذكره بعنف ما بدأ به.. والخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية. ويترحم الشيخ الشعراوي طويلا علي يوسف إدريس ويقول إنني أدعو لكل من يتهجم عليّ أن يذيقه الله طعم الهداية. ويترحم الشيخ الشعراوي طويلا علي توفيق الحكيم وهو يتذكر لقاءه وهو علي فراش الموت ويقول: لقد أصبحنا حبايب..و لم تترك تلك المعارك شيئا في صدري.. فقد انتهت جميعا إلي الصلح.. فالخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية. أنا والرئيس !! سؤال اخر لفضيلة الشيخ : لماذا طلبت من الرئيس بومدين ان يصلي ركعتين اثناء وجودك بالجزائر ؟؟ يقول الشعراوي : كان ذلك عندما ذهبت إلي الجزائر، بعد الاستقلال رئيسا لبعثة التعريب الأزهرية.. كانت اللغة الفرنسية هي السائدة.. وكان لسانهم لسانا فرنسيا.. فذهبنا لتعريبه.. وكان الرئيس بومدين قد انتهي من بناء سد اسمه »سد غرين« وذهب لافتتاحه.. وعملوا احتفالا.. وحضرنا هذا الاحتفال.. ووقف الرئيس بومدين يخطب ويقول: الحمد لله.. عملنا »سد غرين«.. وهذا السد سيحجز كذا متر مكعب من المياه.. وبذلك يمكنكم أن تقوموا بري زراعاتكم سواء أمطرت السماء أو لم تمطر! ولم تعجبني عبارة »سواء أمطرت السماء أو لم تمطر«.. فقلت لعبدالعزيز بوتفليقة وزير الخارجية الجزائري في ذلك الوقت: »ياسي عبدالعزيز قل للرئيس بومدين إن هذا الكلام خطأ، ليس فقط من الناحية العقائدية التي تلغي المشيئة، بل من الناحية العلمية.. لأنه إذا لم تمطر السماء فما الذي سيحجزه هذا السد؟ السد لكي يحجز مياها. والمياه من المطر.. فإذا لم تمطر.. فما الذي سيحجزه هذا السد؟! وذهب بوتفليقة وأبلغ الكلام للرئيس بومدين.. وشاء الله.. بعد أسابيع من كلام الرئيس بومدين.. أن يحصل جفاف! فلما حصل الجفاف.. قالوا نصلي صلاة الاستسقاء.. وقد استقبل الناس الدعوة لصلاة الاستسقاء استقبالين. الناس المتدينون المؤمنون أصحاب الثقافة الدينية كانوا يؤملون فيها وينظرون إليها باعتبارها من نسك الدين وأن الله سبحانه وتعالي شرعها لوقف الفزع هذا.. أما الناس الآخرون أصحاب الثقافات غير الدينية بل والمعادية للدين قالوا في استهزاء: »اعملوا صلاة الاستسقاء وشوفوا حتعمل إيه الصلاة بتاعتكم دي!«. ولما أبلغوني أن الرئيس بومدين يريد أن يقيم صلاة الاستسقاء في الجامع الكبير بعد يومين.. قلت لزميلي الشيخ أبوالصفا »احنا واقعين في مطب.. وربنا يخرجنا منه علي خير«.. ولن يخرجنا من ذلك إلا أننا نفزع إلي الله من هذه اللحظة.. وأن نصلي لله.. وأن نطلب منه ألا يفضح أهل دينه أمام هؤلاء الذين لا يعرفون كيف ينظرون إلي دين الله.. ويمضي الشيخ الشعراوي في روايته لما حدث فيقول: وجاء يوم صلاة الاستسقاء.. وجلسنا في الجامع الكبير ننتظر ومعنا وزير الأوقاف الجزائري حضور الرئيس بومدين.. جاء الرئيس بومدين.. ودخل المسجد.. وقبل أن يهم بالجلوس.. قلت لوزير الأوقاف: »قل للرئيس بومدين يصلي ركعتين لتحية المسجد«.. وأضفت: احنا جايين هنا نشحت من ربنا.. بنقول يارب وبنفزع إليه، فقل له يصلي ركعتين لله تحية للمسجد. وذهب وزير الأوقاف للرئيس الجزائري وأبلغه الرسالة.. فوقف وصلي ركعتين.. وبعدها عملنا مراسم صلاة الاستسقاء.. والفزع إلي الله.. ثم صلينا صلاة الاستسقاء.. وقعدنا ساكتين.. وطالت القعدة.. وطال السكوت.. فقلت لأحد المشايخ الذين يجلسون إلي جانبي: - احنا قاعدين كده ليه دلوقت؟ موش نقوموا نروحوا؟ فقال لي: اسكت.. اسكت!.. فقلت له: فيه ايه؟ حصل ايه؟ قال: انت موش داري؟! الدنيا بتمطر بتشتي.. فقلت: صحيح؟! قال: أيوه.. وراحوا علشان يجيبوا »مظلة« لكي يخرج بها الرئيس بومدين! فقلت: الحمد لله.. الحمد لله.. ولن أخرج من هنا.. من المسجد الكبير إلا بعد صلاة المغرب.. الحمد لله.. ربنا سترها معنا.. ويصمت الشيخ لحظات ثم يضحك طويلا من قلبه ويقول: لولا ستر ربنا معنا لكان حصل لنا في الجزائر اللي حصل للشيخ حسن في دمياط؟ وسألني الشيخ وهو يضحك: - أنا قلت لك حكاية الشيخ حسن المحامي الشرعي اللي راح يترافع في قضية قتل عن المتهمين؟ قلت: لم تقلها يا مولانا.. قال الشيخ: أقولها لك.. كان لنا صديق اسمه الشيخ حسن وكان محاميا شرعيا، وكانوا قد سمحوا أيام زمان بأن يترافع المحامي الشرعي أمام الجنايات.. وحدث أن وقعت جريمة قتل في إحدي قري دمياط واتهم فيها ثلاثة أشخاص، وسأل أهالي المتهمين عن محام قدير للدفاع عن أولادهم الثلاثة، فقيل لهم ليس سوي الشيخ حسن! فهو محام بارع وقدير ولن يأخذ منهم الكثير من الاتعاب.. وفعلا ذهبوا للشيخ حسن، واتفقوا معه علي القضية.. ويوم الجلسة ذهب الشيخ حسن إلي دمياط وترافع طويلا أمام المحكمة وطلب للمتهمين الثلاثة البراءة.. وكان أهالي المتهمين قد تجمعوا حول المحكمة، وكان منهم عدد كبير من النساء في انتظار صدور الحكم. وصدر الحكم وكان بإعدام المتهمين الثلاثة! وخرج الشيخ حسن من باب المحكمة ليجد »النسوان« وقد عملوها مندبة، فقد خلعن الأحذية والشباشب، وأخذن يضربن بها أنفسهن وهن يرددن في صياح وفي صوت واحد وكأنه هتاف: »وقالوا لنا هاتوا الشيخ حسن«! وهرب الشيخ حسن! ويضحك الشيخ الشعراوي وهو يقول: يعني لو احنا عملنا صلاة الاستسقاء.. ولم ينزل المطر.. كانوا عملوا معانا في الجزائر اللي عملوه »النسوان« في دمياط! إلا.. يوسف إدريس و.. يظل يوسف إدريس هو أكثر فرسان المعارك الثقافية والفكرية والأدبية، صهيلاً وحمحمة، وهو الأكثر احتراقاً في الكتابة المتوحشة، والأكثر اختراقاً للمحظورات، وانتزاع الأقنعة، وإثارة الأسئلة المسكوت عنها، لتبقي أفكاره وأعماله الفنية ورؤاه حية، تخترق الزمان والمكان والإنسان بشظاياها المضيئة لأطول وقت ممكن. وتستبقي الذاكرة صرخته المحمومة التي أطلقها في منتصف عقد الثمانينيات الماضي »أهمية أن نتثقف يا ناس...« بكل ما فيها من جرأة وجسارة واقتحام، فتبدو في اللحظة الراهنة مصباحاً ومنهاجاً، فما أحوجا »الآن « إلي هذه »الدعوة- الصرخة« وما أشد احتياج المجتمع إلي الثقافة بالمعني الشامل العميق لها بعد أن أتعبتنا السياسة وأرهقنا الساسة، بالتخبط والعشوائية والاهتزاز والابتزاز. فهل نصغي إلي دعوة يوسف إدريس؟ وإليكم أيضاً هذه الأطروحة المكثفة ل»لغة الأعماق البعيدة« التي تتحدث بها إبداعات يوسف إدريس، إنها ثنائية الفن والفكر.. لعلنا نفيق!! ولا تزال صرخته مدوية: أهمية أن تتثقف ياناس..! جاء علينا حين من الدهر كانت كلمة مثقف فيه علامة أن المواطن هوفعلا صاحب مقام رفيع كان احترام الثقافة والمثقفين جزءا لايتجزأ من قيم شعبنا وتقاليده الراسخة، بحيث إن عامة الشعب حين كانت تريد أن ترفع من قيمة المتعلم أو المثقف تميزه بكلمة أفندي وتسمي العامل الكفء المثقف أسطي أو بمعني حقيقي أستاذ. وهذا الحين من الدهر كان مستمرا طوال حياة الشعب المصري حين كان المثقف في العصور الوسطي هوالشيخ أو مولانا أو سيدنا ومن نفس المشايخ برزت الفئة المثقفة الجديدة مع بداية مصر الحديثة في عصر محمد علي، ومن رفاعة رافع الطهطاوي إلي محمد عبده وخالد محمد خالد، تلك الكوكبة من العقول المضيئة التي ظل مجتمعنا ينظر إليها كما ينظر إلي مصادر الضوء تنير له وجوده وحياته ويرفعها إلي مستوي التبجيل العظيم والقيمة الخالدة. ولم يكن حظ المثقفين من خريجي الجامعة المصرية بأقل، فقد كانوا علماء في تخصصاتهم، هذا صحيح، ولكنهم كانوا أيضا من كبار مثقفي عصرهم، والذين يدهشون كيف كان الجراح العظيم علي باشا إبراهيم عضوا مؤسسا ومسئولا عن البرامج في المجلس الأعلي للإذاعة المصرية عند إنشائها ربما لايعرفون شيئا عن علي إبراهيم (المثقف) الملم، العالم. ولا أعتقد أن بلدا من بلاد العالم جبل شعبه علي تقديس الثقافة والمثقفين مثل بلادنا. إن المكانة التي رفع إليها طه حسين والعقاد وأحمد حسن الزيات والمازني ومحمود عزمي وسلامة موسي وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وحسن فوزي ولويس عوض وأحمد أمين وأحمد زكي وهيكل ومشرفة وزكي نجيب، القائمة الطويلة - المكانة التي رفعنا لها هؤلاء وغيرهم تثبت أننا بالسليقة شعب يقدس المعرفة والثقافة، شعب في أساسه متحضر وعميق الصلة بالقيم الحضارية العليا. بل إن الاحترام الذي يحظي به (حكماء زمانهم) من الفلاحين الأميين والعمال وسكان النجوع والحارات، احترام لايمكن للإنسان أن يخطئه إذا أتيح له الاحتكاك الكافي بالحياة اليومية في أقل مستوياتنا الاقتصادية والمعيشية. دائما نقدر الذكاء والاطلاع وخصوبة التجربة، للمعروفين وغير المعروفين حتي أن أمثالنا الشعبية - كما سبق وكتبت - معظمها قوانين حياة مصاغة بمنتهي الحكمة، وتكاد في مجملها تشكل نظرية حياة كاملة مليئة بالحلول وساطعة المدلول.
ماذا إذن حدث فقلب أمورنا رأسا علي عقب، حتي أصبحت كلمة أفندي تقال للسخرية وكلمة مثقف تذكر من باب التوبيخ و(التريقة) وكلمة ثقافة يتحسس لدي ذكرها بعض المواطنين أنوفهم وكأنما هي شيء لايطاق؟ ماذا بالضبط حدث؟ ليس فقط للمواطنين وإنما حتي للقيادات الفكرية والفنية للمواطنين وإذا كان برنامج (الجائزة الكبري) قد كشف جهل بعض الممثلين فلو أجري امتحان مقابل لمقدمي البرامج في الاذاعة والتليفزيون ولكثير من أصدقائنا المعلقين في الصحف والمجلات (وهذا في حد ذاته وباء اجتاح صحفنا ومجلاتنا بحيث أصبحت جميعها تعتمد علي الأعمدة الثابتة الماضية والأبواب بحيث إني عن عمد حاولت أن أعثر في مجلة فنية مصورة تصدر عندنا عن موضوع صحفي واحد غير ممضي، فلم أجد، دليل أن المجلة كلها لا صحافة فيها وإنما هي مجموعة من المقالات تشكل رأيا عاما منخفض المستوي). لو أجري امتحان لهولاء القادة جميعهم لما اختلفت النتيجة كثيرا عن نتيجة (الجائزة الكبري). وإذا كان هذا هوحال الأسماء الإعلامية المشهورة فماذا يكون حال مستهلكي الصحافة والإذاعة والتليفزيون؟ كان التليفزيون عندنا يقدم منذ بضع سنوات برنامجا ثقافيا علي هيئة امتحان في المعلومات، وقد كنت عن عمد أتابعه، وراعني أن المشتركين فيه جميعا معلوماتهم العامة تكاد تساوي صفرا ولاينجحون إلا في إجابة السؤال الخاص بالأمثلة الشعبية، ومعني هذا أنهم لا يقرءون، وإنما يتلقون المعرفة سماعا وربما من أمهاتهم وخالاتهم فقط. نعم.. ماذا حدث؟! كان كل شيء يسير علي مايرام إلي أن قامت ثورة 1952، وثورة 52 أساسا ثورة الطبقة المتوسطة الصغيرة التي لم تنل من مكاسب ثورة 19 شيئا وظل الوفد يقودها علي أمل أن يصلح أحوالها، واكتشف الجناح العسكري في الحركة الوطنية (الضباط الاحرار) أن هذه الاحوال لن تنصلح إلا بإزالة الملك والإقطاع وكبار الرأسمالية. وكل ثورات العالم تنشأ هكذا بهدف إزالة طبقات وإحلال طبقات محلها، ولكن لأن معظم الثورات يقودها سياسيون مثقفون، فإنهم يفرقون بين إزاحة الطبقة واستكمال التراث الثقافي للأمة. فالثقافة التي أفرزها المجتمع المصري خلال النصف الأول من قرننا الماضي (1900 -1950) هي ثقافة الشعب المصري كله وليست ثقافة الطبقة الإقطاعية أو الرأسمالية فقط فمعظم المثقفين والكتاب الذين أفرزوا هذه الثقافة كانوا يأتون أصلا من صميم الطبقات الشعبية كانوا أبناء عمال وفلاحين، حتي إن أحدا منهم لم يكن في أصلة ابن عمدة.. والتمسك بتراث الأمة الروحي والثقافي هوجزء لايتجزأ من مهمة أية ثورة وطنية، لأنه بدون هذا التراث قد تنتعش المصالح الاقتصادية للعمال والفلاحين والطبقات الشعبية الثائرة، ولكن العمود الفقري الثقافي الذي يحمل تراث الأمة الروحي إذا لم يحافظ عليه يتحلل وتنشأ طبقات عريضة جديدة بدون محتوي روحي أو ثقافي أوحضاري مثلما حدث عندنا. فقد دفعت ثورة يوليو إلي الساحة الوجودية جماهير غفيرة من الطبقة المتوسطة الصغيرة التي كانت تحيا علي هامش الحياة، وفرت لها التعليم والماء والنور والمستشفيات وفتحت لها أوسع المجالات للكسب، ولكنها أبدا لم توفر لها ماهو في رأيي أهم من هذا كله، وهو الإشعاع الثقافي الذي يحيلها إلي كائنات متحضرة منظمة، ويجعلها كلما ارتفعت اقتصاديا ترتقي سلوكيا وتعامليا وإنسانيا وفكريا، فالثقافة ليست مجرد تحصيل معلومات من كتب الثقافة، بل هي أساسا جزء مكمل بالضرورة للتعليم، فتعليم بلا ثقافة لايتعدي خلق كائنات ميكانيكية لاتجيد إلا صنعة أو حرفة يد. بل حتي هذه الحرف بدون عقل يحتوي الحد الأدني من الثقافة اللازمة للمواطن، العامل أو الفلاح يصبح عاملا معوقا في نفس صميم حرفته أو صنعته فإذا كان التعليم هوالتدريب علي المهارات سواء كانت يدوية أوعقلية، فالثقافة هي تدريب العقل نفسه علي السيطرة علي تلك المهارات، تدريبه علي الاختيارات سواء مايمس منها صميم حياته الشخصية مثل اختيار زوجته ونوع حياته وتسليته وكيفية قضاء إجازته واختيار نوع التربية والتعليم والتوجيه لأولاده ومعاملة أهله وأصدقائه ورؤسائه وجيرانه وبقية المواطنين الثقافة ليست ترفا عقليا ولكنها ضرورة بشرية، تماما مثل الخبز والحرية، فبدون ثقافة يستحيل الإنسان إلي حيوان آكل شارب نائم متناسل، إذ الذي يصنع الإنسان والذي يفرق بين الأنسان العظيم والتافه هوالكم المضاف إلي عقله ليس فقط من معلومات وإنما من قدرة علي ترتيب هذه المعلومات بحيث يستطيع الإنسان في النهاية أن يعتنق فلسفة خاصة به يزاول بها حياته ووجوده ويسعد بها نفسه ومواطنيه. بل إنه بانعدام المحصول الثقافي للإنسان تصبح أية دابة أحسن منه، فهو دوناً عنها مزود بعقل لابد أن يعمل، وإذا لم يعمل في اتجاه صالح فلابد ان يعمل في اتجاه خاطيء وأحياناً إجرامي. أطلقت ثورة يوليو إذن العنان للطبقة المتوسطة تتناسل بلا حدود وتسكن المدن والشوارع، والأزقة والمقابر كما يحلو لها، وتهاجر كما تشاء، وتعود بعربات تتكدس في الشوارع كما تريد وحتي هذا كله لم يكن كافياً، فبعصر الانفتاح والانفلات حلت جميع الصواميل الباقية، استيراد كما تشاء، سوق سوداء، رشاوي، اختلاسات، مادمت شاطراً ولا تستطيع ان تقع تحت طائلة القانون فافعل ما بدا لك، وحتي لو تقع تحت طائلة القانون، فتح مخك يا أخي، تفوت. والطبقة المتوسطة بطبيعة تشكيلها وتكوينها طبقة متمردة تخاف ولا تختشي، هوايتها الخروج علي القانون، والتنافس الرهيب الذي يسود بينها، بطبيعة تكوينها كما قلنا، يجعل الأنانية عندها هي القاعدة والانفلات هو القانون، ولهذا فالدول ختي الرأسمالية منها تسن القوانين الباترة لتنظيم حركة هذه الطبقة ومنع بعضها من الطغيان علي بعضها الآخر، وفي نفس الوقت تحاول الدول باستمرار أن ترفع المستوي الثقافي لتلك الطبقة، إذ إن رفع المستوي الثقافي يحد كثيرا جداً من نهم تلك الطبقة وجشعها وجبروت كثير من أفرادها. وقد تنبهت ثورة يوليو بعد سنوات من قيامها إلي أهمية الثقافة في حياة الأمة الجديدة، وبدأت في تكوين شركات قطاع عام للسينما وهيئات للمسرح والكتاب وأكاديمية للفنون، وما كادت تلك المؤسسات تقف علي أقدامها حتي تكفلت الهزيمة العسكرية عام 67 وما تلاها من أزمات بإغلاق أبوابها، أو كادت، وهكذا بقيت روح هذا الشعب الثقافية وديعة غير محافظ عليها كلية في أيدي القطاع الخاص الذي أحال المسرح إلي كباريه وأحال مسلسلات التليفزيون إلي وسيلة لانقاص وزن العقول والاستخفاف بها، ومات الكتاب وماتت المجلات الثقافية والعلمية، وتحولت الجامعات من دور للثقافة العليا. إلي مدارس متوسطة يتخرج فيها أنصاف حرفيين بدرجة بكالوريوس وليسانس، وتحول جنون التناسل إلي مواسير هائلة الضخامة تصب علي البنية الأساسية الضعيفة من البداية لمجتمعنا كميات هائلة من البشر تولد ولابد ان تتعلم ولابد من المحتم أن تتخرج من الجامعة، ومادام لا قانون هناك ولا قاعدة، فليصبح الاستثناء هو القاعدة، وعشرات الاستثناءات تسمح لعشرات الفئات بصب بناتها وأولادها ليحشروا ضمن زمرة الجامعيين بلا أي مؤهل أو ذكاء. وكأنما أصبحت الحكومة تنافق الشعب كما تعود الشعب ان ينافق الحكومة ويتملقها، ونفاقاًَ بنفاق أصبحت حياتنا الآن علي ما هي عليه: بشر بشر بشر، كميات هائلة من البشر، ولانظام ولا احترام لاي شيء، الأرض الزراعية تجرف، أرض الحكومة ينهبونها ، البنوك الأجنبية فاتحة أفواهها تبتلع مال المصريين القليل وتضخه إلي بنوك أوروبا وأمريكا. في مثل هذا المجتمع الذي لم تعد تنطبق عليه - عما سبق وقلت - قوانين المجتمعات، إذ القوانين في المجتمعات موضوعة لتطبق علي الافراد ونحن لم نعد أفراداً، نحن الآن (كميات) من البشر، لابد أن نخترع لها قوانين (كم) لتحفظ النظام والنظافة والوجود بين (الكميات) وبما أن الثقافة دائماً فردية، مسألة اجتهاد من الفرد في التحصيل يقابله اجتهاد من الدولة لتقديم السلع الثقافية، وبما أن الدولة مشغولة تماماً (بطعام) تلك الكميات من البشر، مجرد ملء حلوقهم وكسائهم، ولا وقت لديها، ولا حتي امكانيات لا طعام عقولهم، فلنترك المسألة نهائياًً للصدف المحضة تقرر كم ونوع الثقافة التي يتغذي بها شعبنا. ولكن السؤال هو : هل فعلا ليست لدي حكوماتنا إمكانيات ثقافية متاحة لترفع بها المستوي الثقافي لشعبنا؟! ان لدينا بالتأكيد امكانيات، ولكنها مهدرة تماماً. والمثل قريب وساخن، فالمتتبع للانتخابات الأخيرة، وللتهم المتبادلة بين حزب الحكومة وأحزاب المعارضة، يجد أن الفاعل الحقيقي في كل ما حدث كان هو الجهل والتخلف وانحطاط المستوي الثقافي ، يقابله في نفس الوقت تخلف أجهزتنا الإعلامية وعلي رأسها التليفزيون والاذاعة والصحافة عن التصدي للمعركة الانتخابية تصدياً جاداًَ حقيقياً، بدل هذه المسلسلات الهابطة الواردة لنا من عجمان والسعودية واليونان كان مفروضا ان يتحول التليفزيون بالذات إلي مدرسة للديمقراطية تعلم جماهير الشعب وشبابه التي حرمت من الانتخابات الحرة ردحاً طويلا من الزمن تعلمهم هذا الشيء الخطير تماماًَ، حتي الانتخاب وضرورته وأهميته، بدل ان تخاف من هذا الحزب أو ذاك حتي لا ينال بعض الأصوات في الانتخاب نتيجة لتأثر جمهور المشاهدين بمثل هذا الحزب أو ذاك. كان من الممكن، منتهزين فرصة الانتخابات، أن يخرج الشعب لا بمجلس جديد فقط وإنما يتخرج شعبنا ديمقراطيا ويكتسب باعاً طويلاً يستطيع بواسطته أن يساند كل من يتمخض عنها المجلس الجديد من تشريعات ومناقشات، واذا كانت بلوانا الرئيسية هي في سلبية المواطن، فشكرا لأجهزة إعلامه، لأنها تحرضه علي السلبية تحريضاً وتكاد تقول له خلي عنك انت.. نحن نفكر لك، وننتخب لك ونختار واذا أردت الانبساط فنحن أيضاً الذين سنبسطك. ولكنها سياسة نفاق الشعب وتحويل الشعب الي منافقين سلبيين.
نعم لدينا امكانيات. مسارحنا بعد ان كانت الرئة الروحية للأمة، تسلط عليها القطاع الخاص بالرشوة أحياناً وبالحرق وبالغلق لاربعة أو خمسة أفراد من ملاك المسرح الخاص أن يصبحوا مليونيرات علي حساب كل قيمة بشرية وإنسانية. وبنفس الامكانيات التي (جملنا) بها القلعة كان ممكنا ان ننقذ بيوتنا الروحية المسرحية، بل وحتي نبنيها من جديد، وببضعة آلاف من الجنيهات كان ممكنا ان ننقذ ممثلينا وجمهورنا ومخرجينا وكتابنا من التلطع في استوديوهات الخليج ونريح بها شعباًَ قوياًَ لا يأكل الدود روحه في تلك المسلسلات الساقطة. نعم لدينا إمكانيات.. فمطابع الهيئة العامة للكتاب هي أكبر مطابع في مصر، والموظفون والعمال في تلك الهيئة يعدون بالآلاف، ومع ذلك فإن كتابنا الشبان والكبار لا يجدون مكاناً للنشر هنا، وتفتح لهم بيروت وبغداد ودمشق أذرعها. نعم لدينا امكانيات. هذا المسمي بالمجلس الأعلي للثقافة الذي لا يفعل شيئاً بالمرة إلا انه يحجب الجوائز عن مستحقيها أو أنه يجتمع في العام مرة ليحلل بدل حضور الجلسات، هذا المجلس الذي اختيرت أغلبيته من الموظفين والمتعلمين الذين هم بلا لون أو طعم أو رائحة أو حتي تاريخ وكان كل اجهزتنا الثقافية والعلمية قد عقممت تعقيماً شديداً حتي لا يتسرب لها نبض أو رأي أو وجهة نظر جريئة تقتحم العنكبوت المخيم علي تلك الأجهزة وتقهر البيروقراطية وتسمح للنور والهواء أن يدخل معاقل الغباء والتخلف تلك. نعم لدينا إمكانيات. إن التليفزيون وحده يكفي في عام واحد أن يرفع مستوي شعبنا الفكري والروحي والثقافي بما يعادل عشر سنوات من التربية والتعليم، ولكنه حتي وهو ينهي الناس عن الضجة أو عن إلقاء القاذورات يتصور أن الناس أنعم من ان يقول لهم: لا، لابد أن يقولها راقصة ضاحكة مشخلعة حتي يبتلع المشاهدون كلمة (لا) المرة. نعم لدينا إمكانيات وشكوانا المستمرة من السلبية والفوضي وانعدام الضمير والقيم وتفشي الفساد والمحسوبية، شكوانا من الازدحام الحيواني والهرجلة والارتجال في المشروعات والحلول، شكوانا من الضعف القيمي الذي ساد أفرادنا ومؤسساتنا. تقريبا كل شكاوانا الخاصة بالانسان سببها أننا تحولنا إلي مجتمع جاهل حتي وان كان بعضه متعلما، مجتمع غير واع أو مدرك، أي غير مثقف، مجتمع همه علي بطنه وأقصي متعة للمليونير فيه أن يأكل كباباً ويشرب ويسكي، مجتمع ليس له صفوة قائدة مثقفة محترمة تتمسك بالقيم وتدافع عنها وتدعو إليها، مجتمع نجومه ونجماته أشد ظلاماً وخمولا من السماء الملبدة بالغيوم. ولدينا امكانيات النهضة. ولكن المشكلة هل لدينا الهمة؟ أعرفنا لماذا نطلب ونلح بالتغيير؟ من أجل أن يتولي أمورنا أناس ذوو همة. إننا ننحدر ثقافياً وبالتالي سلوكياًَ بدرجة خطيرة، والغوغائية نتيجة لانعدام الثقافة تسود إلي درجة فيها باكتساح وجودنا، كله. ومع وجود هذه الكميات المخيفة من البشر في هذا الحيز الضيق للوجود، فإننا ذاهبون إلي كارثة محققة لا قدر الله اذا لم نول رفع المستوي الفكري و الثقافي للشعب الاهمية القصوي الجدير بها. فالثقافة أخطر من ان تكون من كماليات الحياة. فالحياة نفسها هي الوجود المثقف للكائنات. أحدث دراسة نقدية تكشف: سحر يوسف إدريس »لغة الأعماق البعيدة.. دراسة في البناء الفني في القصة القصيرة عند يوسف ادريس« كتاب جديد للناقد مجدي العفيفي ، رئيس تحرير جريدة« أخبار الأدب» أصدره المجلس الأعلي للثقافة. جاء الكتاب في مقدمة وثلاثة أبواب، تناول في الباب الأول خطاب العتبات النصية: عتبة العنوان وعتبة الفواتح والنهايات وعتبة الهوامش ثم عتبة الأسماء، وأفرد الباب الثاني الحديث عن الشخصية عند يوسف ادريس وعلاقتها بالراوي والحدث والمكان والزمان، اما الباب الثالث فتناول فيه القضايا الأساسية في منظور يوسف ادريس مثل الحرية والعدالة الاجتماعية والرؤية الدينية والحب. وقد حمل الكتاب في بدايته إضاءتين الأولي أكاديمية للدكتور أحمد شمس الدين الحجاجي بعنوان سحر يوسف ادريس، والثانية صحفية للكاتبة الراحلة حسن شاه بعنوان ابني البكر في عالم الصحافة. يكشف المؤلف الدور الذي لعبته أعمال الكاتب يوسف إدريس القصصية من خلال البحث عن معالم البناء الفني لقصصه القصيرة وصولا إلي تأصيل الإنجاز الأدبي الذي حققه يوسف إدريس فإنها كشفت أخطاء جسيمة في طبعات أعماله الكاملة المتداولة حاليا، حتي أن الناقد صاحب الرسالة يطالب بوقف طباعة هذه الأعمال لأنها تشوه جماليات يوسف ادريس تاريخيا وتثير البلبلة حول هذه الاعمال، لاسيما ان بعض النصوص تحمل تغييرا في بنائها بالحذف الذي يتنافي مع أبسط حقوق الكاتب.. فما هي الأسرار الجمالية لفن القصة القصيرة عند يوسف ادريس التي تجلت في الكتاب؟ منظومته القصصية يصف المؤلف الناقد أعمال يوسف ادريس القصصية بأنها تشكل مساحة واسعة ومتمايزة في عالم الابداع الفني، بما تطرحه من رؤي عميقة ومتطورة للانسان والعالم والكون، وبما تحمله من معطيات فكرية ذات مرجعيات معرفية وأخلاقية وجمالية، وبما تصوره من أبنية وأنساق فنية يفضي بعضها الي بعض في منظومة متناسجة في تجلياتها السردية، علي امتداد حوالي أربعين عاما، وباتساع أفق عشر مجموعات قصصية، وسبع مسرحيات، وست روايات، وثلاثة عشر كتابا من المقالات، فتجلت أعماله وحدة إبداعية واحدة علي تباين أشكالها وتعدد مستوياتهاكما كشفت الدراسة أن أبعاد الرؤية الفنية تتناسج في أعمال يوسف إدريس، لتنتظم مجموعة من القضايا المتعددة، تنضوي كلها تحت (الإنسان) الذي يأتي في نصوصه علي رأس كل قضية، فإنسانية الانسان هي جوهر رؤيته، حيث يبحث عن خصائص هذه الانسانية، بتسليط الضوء الكاشف عليها لتصوير التناقضات الصارخة التي يعيش فيها، واختزال المسافة بين مثالية التفكير وواقعية الفعل من أجل البقاء الذي يحول دون اليأس، ولأن واقعية يوسف إدريس تسعي في نصوصه إلي كشف التناقضات الانسانية بتعمقها فيما وراء الأشياء، واكتشاف القوانين التي تحكم حركة الواقع، فإن نصوصه لم تكن في حاجة إلي التخفي وراء الرمزية المذهبية في عملية البحث الدائم فيما وراء الدوافع لدي شخصياته القصصية بأحداثها وزمانها ومكانها ولغاتها، فيبدو رمزه موضوعيا، بتعدد مستوياته وتعقد علاقاته، وثراء عناصره الحمالة الأوجه للمعني والمولدة للدلالة، الأمر الذي يمنح هذه النصوص آفاقا أكثر اتساعا ورحابة، حيث يترك نصوصه القصصية مفتوحة علي إيحاءات متعددة ودلالات خصبة، أو في مفترق طرق جمالي خطاب العتبات وتأسيسا علي ذلك تشكل الكتاب من مقدمة، ومدخل عام، وثلاثة فصول وخاتمة:أما الفصل الأول فيتناول خطاب العتبات كمواقع استرتيجية في النص، وينقسم هذا الفصل الي أربعة مباحث: يدرس المبحث الأول خطاب العنوان سواء كان العنوان للمجموعة القصصية أو للنصوص، وبالتالي يشكل خطابا افتتاحيا تتجاور أنواعه، وتتداخل وظائفه، وتتجادل مستوياته، في تعددية فنية عبر مسارات أبنية النص، حيث يولي يوسف إدريس عناية فائقة باختيار عناوين أعماله، سواء كانت عناوين المجموعات القصصية، أو عناوين القصص القصيرة، أو العناوين الجانبية داخل النصوص، حيث يتكشف الجهد الفكري والإحكام الفني في وضع العنوان كعنصر من عناصر الخطة البلاغية الشاملة لعرض الخطاب، فيغدو محملا بالجينات الكامنة في النص، بما تتوافر فيه من شحنات دلالية مكثفة، تقدمها الدراسة من خلال تحديد وظائف العنوان ودلالاته وأنواعه وبنائه ويدور المبحث الثاني حول خطاب الفواتح والنهايات القصصية، باعتبار أن الفاتحة هي عتبة الدخول إلي النص، وأن النهاية هي عتبة الخروج منه، وكان التركيز علي أهمية الجملة الأولي التي تحمل كل الجينات الكامنة في النص، كأحد المرتكزات الثلاثة لمعمارية العمل القصصي، فينقسم خطاب المقدمة في قصص يوسف إدريس إلي ستة تصنيفات، ثمة فواتح تندرج تحت المفهوم الفضائي أو (الزمكاني) وثمة قصص تتسم بالاستهلال الوصفي، بسيطا أو مركبا أو انتشاريا، وهناك الفواتح السردية، والفواتح المشهدية او الحوارية، وثمة نصوص تبدأ بالاستهلال المبني علي البنية المرتكزة علي الحدث المحوري، وهناك الفواتح المبنية علي تقديم الشخصيات بالتبئير عليها وكل هذه الافتتاحيات تقفز مندفعة بكل قوة وسلاسة منذ حروفها الأولي لتنسج خيوطها حول النص، وترسم خطوطها عبر شبكة الخطاب السردية لترسل مؤثراتها حتي عتبة الخروج من النص، لو كما تشكل البداية عتبة أساسية في خطاب يوسف إدريس القصصي، فإن النهاية القصصية عنده، كخطاب محوري من خطاب العتبات، تساهم في بنية النص كلحظة تنويرية نهائية، تغلق الحكاية، أو تتركها مفتوحة الدوائر، مشرعة علي التأويلات، وغالبا ما تلتحم البداية بالنهاية في قصص يوسف إدريس، بما تحمله من إشارات دالة، وبما ترسله في ثنايا النص من علامات غامضة، تتكشف في عتبة النهاية، ومن ثم فإن النهاية عنده لا تقل أهمية عن البداية ويعني المبحث الثالث بخطاب الهوامش كنص شارح، مستفيدا من زمن النص وزمن القص والكتابة والنشر، كعتبة تضيء الأبنية الفنية، وتثري تكوينات الخطاب العام، ومع أنها تقع خارج النص الأصلي إلا أنها تعمل علي تعضيده بالتعليق عليه شرحا وتفسيرا، ولم يحدث أن صدّر يوسف إدريس عملا من أعماله بتقديم ذاتي، كآلية استباقية للقراءة، لكنه كان يترك الفرصة لتعدد القراءات، سعيا إلي كشف جوهر النص، بدون أن يصنع وشائج ربما لا تكون في صالح عملية التلقي، فلم يشأ أن يفرض شروطا علي القارئ قد لا تسمح بإعادة تشكيل النص، وتأويل دلالاته، واستنباط رموزه، والغوص في كوامنه، أو يفرض نوعا من الوصاية علي ثقافة التلقي تضافر الأبنية وأما الفصل الثاني من الكتاب فيتخذ مادته من بنية الشخصية كصانعة للحدث بمفهومها الشامل، وكبنية مركزية في النص، يتكشف من خلالها جوهر الشخصية فيما تمارسه من وظائف محددة، باعتبارها وحدة دلالية، وكفاعل في العبارة السردية، ولذا جاء هذا الفصل في خمسة مباحث:فيلقي المبحث الأول الضوء علي نوعية الشخصية وشرائحها وأطيافها واحتشادها لكل الأنواع والنوعيات، وبكل تناقضاتها وتقابلاتها، وتمايزها وأنماطها، فتمثل الشخصية في قصص يوسف إدريس مرتكزا اساسيا في الاستراتيجة النصية، وعنصرا تأسيسيا في البنية القصصية، إذ يتكئ يوسف إدريس في سردياته علي الشخصية بمفهومها الشامل، إنسانية ومجردة وشيئية، كبنية مركزية في النص، لتظل في دائرة الاهتمام، تتحرك بشرائحها المتنوعة في فضاءات واسعة، محملة بأزماتها الحياتية، وأوضاعها المختلة من جراء عدم توازنها مع ما حولها، فتحاول جاهدة إعادة هذا التوازن المفقود، وتتخذ من المقاومة حيلة للبقاء، كنوع من البطولة، لتجادل الواقع بمفارقاته الانسانية ويدور المبحث الثاني حول تقنية السارد ووظيفته وعلاقته بالشخصية، وتحديد زوايا الرؤية كعنصر جوهري من عناصر تشكيل الشخصية علي تباين أنواعها وأطيافها وأزماتها وقضاياها، كما يُظهر جوهر الشخصية بملامحها ومعالمها والأساليب الفنية التي استخدمها لتقديمها، وكيفية تصويرها، ودلالات هذا التنوع في الشخصية، وكيف تمكن السارد من توظيف هذا الثراء لخدمة الخطاب الذي ينتج الشخصية، ويضعها دائما في مواقف متفجرة باعتبار أن السارد هو الصوت الأهم في معرض الإدراك السردي، وأحد المفاتيح الجوهرية لمنظومة يوسف إدريس السردية، بما يبثه من قوة في النشاط السردي. ويأتي المبحث الثالث للحديث عن بنية الحدث والتحامه بالشخصية، وتبيان العلاقة الترابطية بينهما بما يثري الرؤية ويعمقها لصالح البناء الفني وجمالياته لاسيما أن الحدث في نصوص يوسف إدريس يقترن دائما بالأزمة سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو نفسية أو إنسانية، فردية كانت أو جماعية، بما يلقي بظلال مكثفة علي سلوك الشخصية، الأمر الذي يثري التجربة، ارتكازا علي مبدأ السببية، فيمنحها الدلالة، وبالتالي تكتسب القصة صدقها الفني، وتتشكل من خلال أزمات تعيشها داخليا وخارجيا، وبالتالي ترتبط الشخصية بالأزمة سواء كانت الأزمة فردية ذاتية، أو عامة جماعية، وسواء كان محورها الهموم الاجتماعية أو الإشكاليات السياسية أو المفارقات الطبقية أو الأوجاع النفسية أو العذابات الإنسانية، فينعكس الحدث علي سلوك الشخصية، فيبدو غريبا وغرابة السلوك هو دم القصة القصيرة أما المبحث الرابع فيتناول الشخصية وبنية المكان في نصوص يوسف ادريس، ويشرح البعد الجمالي للمكان، وكون المكان عنصرا فاعلا وبطلا وقناعا لوجهة النظر، ومدي الحميمية بين المكان والشخصية، كما يتناول شخصية المكان كتجربة وحالة ذهنية تعادل فكرة أو مجموعة من الأفكار، فتتحرك نصوص يوسف إدريس في أماكن متباينة تستدعيها طبيعة الأحداث ونوعية الشخصيات، ووجهات النظر التي يتبناها الخطاب القصصي، وتتراوح ما بين الأمكنة الريفية بتعدد طبقاتها ومستوياتها، والأمكنة المدينية علي تمايز أحيائها الشعبية والارستقراطية، وحالات من يعيش فيها انغلافا وانفتاحا، إلي جوار أمكنة أخري متعالقة بالمدينة والقرية بشكل أو بآخر، فقد اتخذ يوسف إدريس من المجتمع الريفي مسرحا لأحداث ثلاث وثلاثين قصة، واستخرج خمسين قصة من قاع المجتمع المديني، وصور تسع قصص تتراوح حركتها ما بين أجواء القرية والمدينة، وهي حركة لا تتعامل مع الأماكن كأشياء مجردة، إنما كشبكة من العلاقات والرؤي ووجهات النظر، فالمكان في قصصه لا ينحصر التعامل معه في استعراض محتوياته وتفاصيله وصوره بل يعيش في الناس ويعيشون فيه، كتجربة و كحالة ذهنية تعادل فكرة أو مجموعة من الأفكار وتخصص الدراسة المبحث الخامس لاستكشاف جوهر العلاقة بين الشخصية وبنية الزمان، فيتناول الرؤية الزمنية المعتمدة علي تكثيف اللحظة القصصية نفسيا، وتفتيتها زمنيا، وكيفية استخدام عنصر الزمن السردي إبطاء وتسريعا، كمحدد فني لضبط إيقاع النص، فإذا كان يوسف إدريس يحكم استراتيجته النصية بتضافر الأبنية الفنية، فإنه يتكئ كثيرا علي بنية الزمن وعلاقتها بالشخصية من خلال وسائط الوقف والمشهد والملخص والحذف، كعلاقات رئيسية أربع تحكم إيقاع النص وتحدد درجات السرعة الزمنية إبطاء وتسريعا وموازاة. وظيفة الفن ويسعي الفصل الثالث والأخير إلي إنشاء جدلية مع النصوص لاستنطاق محتواها، وسبر أغوارها، وبيان دلالاتها التي تتجدد مع كل قراءة، وقد خصصته الدراسة للكشف عن البنية الدالة المكونة لرؤية يوسف إدريس الحاضرة عبر مكونات النصوص، حيث تتعدد أبعاد الرؤية الشمولية التي تنتظم اعماله القصصية، وتتسع لتطرح مجموعة من القضايا الاجتماعية والسياسية والانسانية، تتشابك فيما بينها، وهي قضايا يتسم طرحها بالتداخل النسبي بين هذه الابعاد، فالاجتماعي مرتبط بالتاريخي، وكلاهما بالوجودي والانساني، وجميعها بالتأملي والفلسفي، في تشكيلات جمالية مكنته من إدراك العلاقات لرؤية العالم بشكل أكثر عمقا ، فتشغل القضية الاجتماعية حوالي نصف أعمال يوسف إدريس القصصية، إذ تمثل ما نسبته 52٪ بمعدل سبع وأربعين قصة، تليها القضية السياسية بنسبة20٪ تمثلها ثماني عشرة قصة، ثم القضية الإنسانية وتجسمها خمس عشرة قصة بنسبة تبلغ 16٪ ثم قضية العلاقة بين الرجل والمرأة في اثنتي عشرة قصة بنسبة 12٪ وبداخلها تطرح الرؤية الدينية المشتبكة في ثنايا هذه النصوص بنسبة 4٪ وسواء تجلي تشكيل الرؤية في المشكلات الاجتماعية، أو في الاشكاليات الوجودية، داخليا في علاقة الفرد بالمجتمع، وخارجيا في اتصاله أو انفصاله عن العالم، فهي تبحث في استكناه مصادر الألم، واستكشاف موارد الشقاء، واستشفاف موانع تحقق الحياة في أبسط مظاهرها، واستجلاء منابع المعاناة الذاتية والموضوعية، بتقليص المسافة بين الوجه والقناع، وصولا الي الحقيقة الملتبسة في الواقع بكل توتراته المجتمعية وتناقضاته الإنسانية، فجاءت نصوصه وحدة ابداعية واحدة علي تمايز اشكالها وتباين أساليبها وبامتداد أزمنتها واتساع أمكنتها، لتكدح برؤية للعالم تحدد موضوع فنه، ومن ثم يرتكز هذا الفصل علي أربعة مباحث: يعالج المبحث الأول قضية الحرية كما طرحتها نصوص يوسف إدريس، حيث تشكل الحرية كقيمة إنسانية مرتكزا أساسيا للرؤية التي تنتظم أعماله، سواء كانت حرية سياسية أو فردية أو جماعية، فيضع الواقع الاجتماعي موضع المساءلة، باقتحام دوائر المحظورات، وطرح ثقافة الأسئلة في اللامفكر فيه، وإثارة المسكوت عنه، في جسارة فنية، وبجرأة مضمونية، وهذا هو جوهر الفن في أعمال يوسف ادريس وقد عبر يوسف إدريس عن حتمية الحرية والتطلع اليها في كثير من أعماله، وقدم لها معالجات فنية اتسمت بالتداخل في النصوص من خلال التعبير عن قضايا الفرد ، بشكل مباشر وغير مباشر، في أزماته السياسية، وعذاباته الاجتماعية، وهمومه الإنسانية، سواء كانت الحرية سياسية أوشخصية أو فكرية أو حرية فعل محرم أو حرية فعل ذاتي، وظل يوسف إدريس في كل أعماله القصصية مهموما بقضية الحرية الشاملة فقد تكونت نصوص يوسف إدريس في بنية مجتمعية اجتماعية تاريخية دالة ويطرح المبحث الثاني قضية العدالة الاجتماعية التي تتفرع إلي الظلم وانعكاساته، والفقر وتداعاياته، والقهر بصوره الداخلية والخارجية، والعدالة بفرديتها واجتماعيتها، والاستلاب بكل أشكاله واشكالياته، حيث ترتبط قضية العدالة بالحرية ارتباطا كبيرا في نصوص يوسف إدريس التي تدعو الي تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة عن طريق مقاومة الظلم، والتحريض ضد مظاهر الفساد، والثورة علي أدوات الموت اجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا، كمحاور أساسية لتحقق العدالة في المجتمع، ومن ثم فإن تغييب الحرية في نصوصه هو تغييب مبكر للعدل، كما لا تتحقق العدالة في رؤيته إلا بمواجهة مسببات القهر، واستئصال أسباب الفقر، وهي أسباب ومسببات تمثل قواسم مشتركة بين حيوات العديد من شخوص قصصه، وصانعة لأحداثهم المريرة مع واقعهم، سواء الذين يعيشون في الريف أو في المدينة، بل تتجاوز عقدتهم حد الحصول علي لقمة العيش، إلي تداعيات أخلاقية تمس الكرامة والحياء والشرف، وتتسع الرؤية للدلالة السياسية حتي ولو كانت المرتكزات التي تنطلق منها اجتماعية، فالوجه الاجتماعي يؤدي إلي الوجه السياسي، فالجوع الذي يعاني منه أبطال الرؤية الاجتماعية له دلالته السياسية ويفرد المبحث الثالث مساحته لتحديد ملامح الرؤية الدينية التي تطرحها نصوص يوسف إدريس الكاشفة عن نظرة واعية للدين كقوة إيمانية، تدفع الإنسان كفرد والجماعة ككل، إلي الفعل الإيجابي، وفي نفس الوقت تقدم صورا ساخرة للكثير من الأقنعة التي تتواري خلفها وجوه شتي تستغل الدين بشكل سلبي، لكن نصوص يوسف إدريس لم تتعرض إلي الدين في ذاته، لكنها لجأ إلي التوريات الدينية لكشف استغلال الدين كأداة قمع لا تجدي، فالأمر في هذه الحالة يفتح الأبواب الخلفية للتحايل الضمني علي المعاصي، بل إن الدين يفقد وظيفته في ضبط النفس وردعها وتحقيق الانسجام بين الإنسان وذاته، وبينه وبين المجتمع والآخر بل والعالم وصولا الي تحقق العلاقة المفترضة مع الله تعالي، لاسيما أن الدين تحول في حياة الناس الي عملية تخويف، ومصدر ترهيب بلا ترغيب، وتهديد دون حماية، ووعيد بلا وعد، وابتعد عن إشارات الرحمة، وبشارات السماحة، فيصبح مجرد شعائر فقط ويظهر المبحث الرابع قيمة الحب كدلالة من دلالات الرؤية، وكقانون وجودي ينتظم الخيوط الرفيعة بين الذكر والأنثي علي وجه العموم، فالحب عند يوسف ادريس قوة خلاقة للحياة، بل هو معادل للحياة، لكنه ليس شيئا معلقا في فراغ إنما يتخذ الحب في قصصه أكثر من مسار: الحب كعاطفة إنسانية ، والحب في بعده الجنسي، و الحب في الحياة الزوجية، حيث تشكل العلاقة بين الرجل والمرأة في قصص يوسف إدريس، محورا جوهريا إنسانيا للبنية الفكرية المتولدة عن الأبنية الفنية، ومدارا من أهم المدارات الإنسانية التي تشكل حيزا واسعا في فضاء الرؤية الشاملة للفن القصصي. نتائج علمية وقد خلص مجدي العفيفي إلي الكثير من النتائج، لعل من أهمها: 1 - أن يوسف إدريس اتخذ من فن القصة القصيرة شكلا أدبيا مناسبا لتحقيق رسالته، يتجلي ذلك في مقدرته علي اقتناص لحظة اكتشاف خارقة وخاطفة، والتعبير عنها في كلمات، فالقصة عنده وسيلة من وسائل إيصال الحقائق، بل هي أيضا وسيلة من وسائل المعرفة المؤصلة والموثقة في اتصالها وتشابكها بالحقائق الكونية، ولذلك وهب لها عمره 2- يتكئ يوسف إدريس في قصصه القصيرة علي الواقعية بمعناها الإنساني العظيم كمنهج للتشكيل الفني المناسب لرؤاه بنزوعها إلي تصوير المشكلات الرئيسية للوجود الإنساني، لكنه يتمايز بأنه صنع لفنه واقعية خاصة به، وأن المغايرة لديه تقع في طرائق التعبير، ومن ثم فإن أعماله قادرة علي أن تحتفظ بقيمتها خارج اللحظة التاريخية والاجتماعية المتعينة 3 - حددت الدراسة - لأول مرة - ملامح ووظائف خطاب العتبات النصية في قصص يوسف إدريس القصيرة، كمواقع استراتيجية في النص، سواء كانت في شكل العنوان، أو الفواتح والنهايات، أو في الهوامش، وأوضحت الدلالات الغنية لهذه العتبات من حيث قدرتها الفنية علي إنتاج خطاب يمتد من النص إلي العالم ومن العالم إلي النص، ومن حيث مقدرتها علي إرسال وميض قوي لفتح الكثير من مجاهل النصوص 4 - أكدت الدراسة أنه لايكفي فقط ليوسف إدريس، ككاتب، أن تكون له رؤاه الواضحة، ومقاصده الواعية، بل أن تكون له - قبل كل شيء - رؤاه الجمالية التي تصبغ بألوانها الخاصة أعماله القصصية، ومن ثم تتضافر العناصر المختلفة في نصوصه لكشف القيم الجمالية التي تنطوي عليها أعماله الفنية 5 - أوضحت الدراسة أن كفاح نصوص يوسف إدريس الفني يتجلي من أجل الشخصية الإنسانية، ومن خلال تصوير أنماطها تتكشف تناقضات الوجود الإنساني، وأن الإنسان بأشواقه وعذاباته، هو الركيزة الأساسية والتأسيسية في رؤيته الفنية 6 - أثبتت الدراسة مدي نجاح أعمال يوسف إدريس في خلق شكل مصري للقصة القصيرة، ساهم به في تجذير الهوية الإبداعية وهذا التأصيل يعد من أكبز انجازات يوسف إدريس وأبناء جيله 7 - كشفت الدراسة أن إنجاز يوسف إدريس القصصي يمثل حلقة جوهرية من حلقات تطور فن القصة القصيرة، كفن معقد ومتشابك، بل إن تاريخ القصة القصيرة في مصر والعالم العربي يتوقف عند إنجاز يوسف إدريس قبليا وبعديا، باعتباره معلما بارزا ومؤثرا في مسيرة هذا النوع الأدبي المراوغ، وأنه استطاع بجدارة ومهارة أن يحافظ علي شكل القصة القصيرة من الذوبان والتلاشي 8 - أثبتت الدراسة أن أعمال يوسف إدريس القصصية تجدد نفسها مع كل قراءة كاشفة، من حيث انفتاحها في مظاهرها الدلالية، ومن حيث قدرتها علي تشكيل جدلية مستمرة بين فن يدعو إلي التفكير وفكر يحقق الفن، من خلال الرؤية الشمولية التي تنتظم مجموعة من القضايا السياسية والاجتماعية والانسانية، داخل أنساق فنية وتشكيلات جمالية تمكن من إدراك العالم بصورة عميقة 9 - أكدت الدراسة أن التجريب لدي يوسف إدريس لم يكن تجريبا في ذاته، لكنه التجريب الذي يبحث عن الجديد في الرؤية والتجديد في أبعادها والتعميق لجوهرها، لذلك فإن قصصه تتأبي علي التصنيفات المذهبية الضيقة، كما تستعصي علي الانضواء تحت جناح تيار بعينه، نظرا لاتساع الرؤية وشموليتها 10 - أثبتت الدراسة أن يوسف إدريس استطاع، من خلال فنه القصصي، أن يكسر القشور الصلدة لكثير من المحرمات والممنوعات والمحظورات في النفس والمجتمع والضمير، باستنطاق المسكوت عنه، واقتحام اللامفكّر فيه، في الدين والسياسة والأخلاق والمجتمع، وانتزاع الأقنعة وتجريد العقل من الأوهام، وتمييز الخيوط الدقيقة بين المعقول واللامعقول، ومواجهة المشكلات النوعية بالتعمق فيها وطرحها للجدل، واختراق الأفق المسدود بفتح الطريق للحوار حول كل شيء، وهو في كل ذلك يبحث عن شكل قصصي مائز، يلتحم فيه العنصر البنائي بالبعد الوظيفي، وصولا إلي قصة مصرية جدا، وذلك هدف كبير جاهد طويلا في سبيل تحقيقه وقد تحقق بمهارة وجدارة قضايا غاضبة هذا عن الجانب الفني في رسالة الباحث مجدي العفيفي، فماذا عن الجانب التاريخي والوثيقي والأخطاء التي ترتكبها دور النشر التي تطبع أعمال يوسف ادريس؟ تثير الرسالة مجموعة من القضايا الهامة، الدالة علي الغضب الموضوعي من الباحث والناقد مجدي العفيفي:خاصة أنه استطاع أن يضع كل نصوص يوسف ادريس تحت مجهر النقد (مائة نص) بعد توثيقها، سواء في نشرها بالصحف والدوريات، أو ضمها في المجموعات القصصية، واستثمارها فنيا وفكريا وجماليا في فصول الدراسة كافة، ولم يلجأ إلي انتخاب عينات منها، إيمانا منه بأنها تمثل خلايا متجاورة ومتكاملة، واعتقادا بأنها تتأبي علي التقسيم القسري المرحلي لأعمال يوسف إدريس، الأمر الذي جعل الباحث يحشد أكبر قدر ممكن من الشواهد النصية لتدعيم رؤيته مما زاد من حجم الدراسة بعض الشيء وأما القضية التي أثارتها الرسالة فتتبدي في توثيق أعمال يوسف إدريس القصصية القصيرة، حيث يلاحظ الباحث مجموعة من الأمور الهامة: 1 - أن الطبعات الحديثة للأعمال الكاملة الصادرة عن (دار الشروق ونهضة مصر) قد أسقطت ثلاثة نصوص كانت تضمها مجموعة (العسكري الأسود) الصادرة عام 1962 وهي الرأس، وانتصار الهزيمة، والمارد، واكتفت بنشر رواية (العسكري الأسود) بمفردها 2 - أن هذه الطبعات لم تهتم بذكر تواريخ نشر كل مجموعة وطباعتها لأول مرة، كما تجاهلت ذكر عدد الطبعات السابقة، وتواريخ النشر وأماكنه 3 - أن مجموعة (البطل) التي نشرت لأول مرة في يناير 1957- ويمتلك الباحث هذه الطبعة - قد ضمت اعلانا ترويجيا عن مجموعة كتب كانت دار الفكر قد نشرتها في نهاية المجموعة تحت عنوان (دراسات سوفييتية) ولما أعيدت طباعة المجموعة عام 2008 نشر الإعلان علي أنه نص ليوسف إدريس(ص81 طبعة نهضة مصر) وهو نص بلا هوية، ليس مقالا، كما أنه ليس قصة، ولا يحمل أية إشارة لها دلالة سوي أنه مجرد إعلان تجاري 4 - أن البطاقة التعريفية بالكاتب منقوصة المعلومات وركيكة الأسلوب، وتختلط فيها الأنواع الأدبية، فالرواية تذكر علي أنها مجموعة قصصية، والمجموعة تذكر علي أنها كتاب مقالات، والأخير يذكر علي أنه مسرحية، وهكذا يحدث الخلط والتخليط الذي يسيء إلي تاريخ الكاتب وآثاره 5 - أن بطاقة المؤلفات الكاملة غير موثقة بالتواريخ، الأمر الذي يصيب القراء خاصة الأجيال الجديدة، بالحيرة وعدم التثبت، ومن ثم تطلق الأحكام علي المستوي الإبداعي بشكل يتضارب مع الحقيقة الفنية التي تحتاج إلي الحقيقة التاريخية وتأسيسا علي ذلك يطالب الباحث مجدي العفيفي بوقف تداول طبعة الأعمال الكاملة ليوسف ادريس، وإعادة طباعتها بعد توثيقها ومراجعتها بدقة حماية لحقوق الكاتب ، واحتراما لتاريخه الفني ، ومراعاة لمعرفية الاجيال للكاتب و تواصلها مع أعماله.