بوتين: محطة الضبعة النووية تلبي احتياجات الاقتصاد المصري المتنامي    جامعة قناة السويس تحتفي بأبطالها المتوجين ببطولة كأس التميز للجمهورية    لن نبكي على ضعف الدولار    الزراعة: أكثر من مليون شتلة فراولة تم تصديرها خلال أكتوبر    محافظ الجيزة يتفقد مشروعات تطوير الطرق.. ويؤكد: تحسين كفاءة المحاور أولوية    وزير الزراعة يعقد اجتماعاً موسعاً لمديري المديريات ومسئولي حماية الأراضي بالمحافظات    البيئة تنظم مؤتمر الصناعة الخضراء الأحد المقبل بالعاصمة الإدارية الجديدة    رئيس الأركان يعود إلى أرض الوطن عقب مشاركته بمعرض دبى الدولى للطيران 2025    مجلس الشيوخ الأمريكى يوافق على مشروع قانون للإفراج عن ملفات إبستين    أسطورة ليفربول يكشف مفاجأة عن عقد محمد صلاح مع الريدز    المصرية لدعم اللاجئين: وجود ما يزيد على مليون لاجئ وطالب لجوء مسجّلين في مصر حتى منتصف عام 2025    تأهل منتخبا 3×3 إلى نصف نهائي دورة ألعاب التضامن الإسلامي    دوري أبطال إفريقيا.. 30 ألف متفرج في مباراة الأهلي وشبيبة القبائل الجزائري    الإسماعيلي يكشف حقيقة طلبه فتح القيد الاستثنائي من فيفا    ارتفاع عدد مصابي انقلاب سيارة ميكروباص فى قنا إلى 18 شخصا بينهم أطفال    محافظ قنا يكرم مسعفا وسائقا أعادا 115 ألف جنيه وهاتف لصاحبهما    حسين فهمى يكرم محمد قبلاوي.. والمخرج يهدى التكريم لأطفال غزة    قصور ومكتبات الأقصر تحتفل بافتتاح المتحف المصرى الكبير.. صور    بث مباشر.. بدء مراسم وضع هيكل الاحتواء لمفاعل الضبعة النووية    ارتفاع درجات الحرارة.. الأرصاد الجوية تحذر من تغير حالة الطقس    سرايا القدس تستهدف قوات الاحتلال الإسرائيلي بعبوة ناسفة في جنين    وزير الري يلتقي عددا من المسؤولين الفرنسيين وممثلي الشركات على هامش مؤتمر "طموح إفريقيا"    تامر حسني يكشف تفاصيل أزمته الصحية بعد خضوعه لجراحة دقيقة في ألمانيا    نورا ناجي عن تحويل روايتها بنات الباشا إلى فيلم: من أجمل أيام حياتي    هيئة الرعاية الصحية تُطلق عيادة متخصصة لأمراض الكُلى للأطفال بمركز 30 يونيو الدولي    ما هو فيروس ماربورج وكيف يمكن الوقاية منه؟    الصحة: 5 مستشفيات تحصل على الاعتماد الدولي في مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    بسبب تراجع الانتاج المحلى…ارتفاع جديد فى أسعار اللحوم بالأسواق والكيلو يتجاوز ال 500 جنيه    مقتل 6 عناصر شديدى الخطورة وضبط مخدرات ب105 ملايين جنيه فى ضربة أمنية    مصرع 3 شباب في تصادم مروع بالشرقية    الصحة تغلق 11 مركزًا غير مرخص لعلاج الإدمان بحدائق الأهرام    السياحة العالمية تستعد لانتعاشة تاريخية: 2.1 تريليون دولار إيرادات متوقعة في 2025    وزير الإسكان يستقبل محافظ بورسعيد لبحث استعدادت التعامل مع الأمطار    القادسية الكويتي: كهربا مستمر مع الفريق حتى نهاية الموسم    الزمالك يستقر على موعد سفر فريق الكرة لجنوب أفريقيا    نجاح كبير لمعرض رمسيس وذهب الفراعنة فى طوكيو وتزايد مطالب المد    تعرف على أهم أحكام الصلاة على الكرسي في المسجد    هشام يكن: أطالب حسام حسن بضم عبد الله السعيد.. وغير مقتنع بمحمد هاني ظهير أيمن    حزب الجبهة: متابعة الرئيس للانتخابات تعكس حرص الدولة على الشفافية    الدفاع الروسية: قواتنا استهدفت منشآت البنية التحتية للطاقة والسكك الحديدية التي تستخدمها القوات الأوكرانية    إقبال واسع على قافلة جامعة قنا الطبية بالوحدة الصحية بسفاجا    بريطانيا تطلق استراتيجية جديدة لصحة الرجال ومواجهة الانتحار والإدمان    صيانة عاجلة لقضبان السكة الحديد بشبرا الخيمة بعد تداول فيديوهات تُظهر تلفًا    حريق هائل يلتهم أكثر من 170 مبنى جنوب غرب اليابان وإجلاء 180 شخصا    المايسترو هاني فرحات أول الداعمين لإحتفالية مصر مفتاح الحياة    أبناء القبائل: دعم كامل لقواتنا المسلحة    جيمس يشارك لأول مرة هذا الموسم ويقود ليكرز للفوز أمام جاز    إطلاق أول برنامج دولي معتمد لتأهيل مسؤولي التسويق العقاري في مصر    «اليعسوب» يعرض لأول مرة في الشرق الأوسط ضمن مهرجان القاهرة السينمائي.. اليوم    ندوات تدريبية لتصحيح المفاهيم وحل المشكلات السلوكية للطلاب بمدارس سيناء    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 19نوفمبر 2025 فى المنيا    المنتخبات المتأهلة إلى كأس العالم 2026 بعد صعود ثلاثي أمريكا الشمالية    شهر جمادي الثاني وسر تسميته بهذا الاسم.. تعرف عليه    دينا محمد صبري: كنت أريد لعب كرة القدم منذ صغري.. وكان حلم والدي أن أكون مهندسة    حبس المتهمين في واقعة إصابة طبيب بطلق ناري في قنا    آسر نجل الراحل محمد صبري: أعشق الزمالك.. وأتمنى أن أرى شقيقتي رولا أفضل مذيعة    داعية: حديث "اغتنم خمسًا قبل خمس" رسالة ربانية لإدارة العمر والوقت(فيديو)    مواقيت الصلاه اليوم الثلاثاء 18نوفمبر 2025 فى المنيا....اعرف صلاتك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تمثال شهدي عطية الشافعي رمز لشهداء التعذيب
نشر في الأهالي يوم 26 - 08 - 2010

قرأت في صحيفتنا «الأهالي» (الاربعاء 28 يوليو ) لأستاذي محمد حافظ دياب، مقالته الضافية " دروس شهدي عطية الشافعي"، والتي يتناول فيها بإسهاب محطات كفاح المناضل الشهيد، كما قرأت ما كتبه الصديق بهي الدين حسن، في صحيفة الدستور (21 / 7 ) والذي يرجع فيه ماجري بمصر من تعذيب واعتقال إلي ما حدث فجر 23 يوليو، كما كتبت أنا أكثر من مرة عن الاعتقالات السياسية بين عهدي الملكية والجمهورية، ولقد قرأت من قبل عشرات المذكرات التي كتبها ضحايا ذلك العهد من المعتقلين السياسيين، فقرأت مذكرات الراحلين: شيوعيون وناصريون لفتحي عبد الفتاح، ومذكرات معتقل سياسي للسيد يوسف، ومذكرات الفريد فرج، كما قرأت للأحياء منهم - أمد الله في أعمارهم جميعا -عمي سعد زهران، وفخري لبيب، ورفعت السعيد، وطاهر عبد الحكيم، وصليب ابراهيم، وعمي فوزي حبشي وزوجته ثريا شاكر.
المهم تؤكد تلك القراءات أن التيار اليساري الاشتراكي في مصر أصيل وقديم، قدم التيار الرأسمالي الليبرالي نفسه، فعندما كان يتجمع أنصار الليبرالية في أول حزب يدعو لليبرالية والاستقلال الوطني، وهو حزب الأمة بزعامة احمد لطفي السيد، سنة 1907، كان قد تأسست قبله بعقد كامل أول نقابة ذات توجهات اشتراكية لعمال السجائر سنة 1898،
وبينما تأسس حزب الوفد بزعامة سعد زغلول، سنة 1919، تأسس أول اتحاد لعمال مصر باسم الاتحاد العام للعمل، سنة 1921، والحزب الاشتراكي المصري سنة 1921، وسرعان ما غير اسمه إلي الحزب الشيوعي المصري، بزعامة محمود حسني العرابي، وقد واكب هذا التأسيس لتنظيم اليسار والوفد، تأسيس بنك مصر برعاية طلعت حرب، وهو أول مؤسسة وطنية لرؤوس الأموال المصرية.
وللنجاح الذي صادفه الحزب بين صفوف عشرات المثقفين والعمال، ولنجاحه في قيادة الحركات العمالية الاحتجاجية في العديد من المواقع المهمة، فإن سعد زغلول - رئيس الحكومة وقتها - ناصبه العداء حتي نجح في الغاء مؤتمر الحزب، والقبض علي زعمائه، والقضاء علي الحزب نفسه.
نضال مستمر
إلا أن نضال اليسار والاشتراكيين لم يتوقف،ففيما يتعلق بالاستقلال الوطني، قدموا أطروحات أكثر جذرية ووضوحا من رؤية الوفد، الذي لم يتخل أبدا عن سياسة التفاوض مع الانجليز، وهي السياسة التي انتهت بحريق القاهرة، وبقاء قوات الاحتلال البريطاني، مما مثل دافعا قويا لالتفاف الجماهير حول ثورة يوليو وضباطها الاحرار،
كما اختلفت رؤية القوي الاشتراكية بداهة، عن ذلك الفريق الديني والفاشي الذي تصور أنه بالإمكان الاستعانة بالألمان لحل المسألة الوطنية إبان احتدام معارك الحرب العالمية الثانية، وراح لسان حالهم يقول ب"الحاج محمد هتلر، وتقدم ياروميل" وكان علي رأس هذا الفريق الملك فاروق واحمد ماهر.
وفي القضية الديمقراطية كان واضحا أمام الاشتراكيين مأزق الديمقراطية المصرية، ديمقراطية كبار الملاك من حيث استكانة الأحزاب القائمة لسلطات الملك الواسعة في الانقلابات الدستورية،وتعطيل البرلمان التي حرم بسببها حزب الوفد من حقه الشرعي والديمقراطي في الحكم إلا ست سنوات من فترة تصل إلي ثمانية وعشرين سنة(1924- 1952 )، وحتي تلك السنوات الست كانت إرادة ورغبة الانجليز هي العنصر الحاكم فيها، ومن هنا فقد دارت اجتهاداتهم حول ديمقراطية تعتمد علي محورين أساسيين، وهما: إطلاق حرية تكوين الأحزاب، وضمان حريتها في التنظيم والتعبير والنشر والاتصال بالجماهير،وتقييد سلطة الملك بحيث تصبح الإرادة الشعبية هي صاحبة الكلمة الأولي والأخيرة في ولاية الحكم.
وفي القضية الاجتماعية، طرحت القوي الاشتراكية أفكارها حول تحديد الملكية الزراعية، وتمصير الشركات الأجنبية، واشتراك العمال في إدارة وملكية مؤسساتهم الاقتصادية.
ودارت اجتهاداتهم تلك في إطار سياسي ثوري وشعبي وديمقرطي، في نفس الوقت لم يطرحوا أبدا فكرة الثورة الدموية، أو قتل الملك والتخلص من الرأسماليين والإقطاعيين أوالانقلاب علي قيم المجتمع وتراثه وعقائده
لا للعنف
ورغم حفاوة الاشتراكيين المصريين بثورة أكتوبرالاشتراكية العظمي في روسيا، واشتراكهم في الأممية التي قادتها فإنهم لم يظهروا تعاطفا مع قتل القيصر نيقولا الثاني، ولا مذابح ستالين لأعداء الثورة - أرجو أن يلاحظ القارئ الكريم أن جمال عبد الناصر والسادات قد أكدا في مذاكراتهما، فلسفة الثورة والبحث عن الذات، اشتراكهما في محاولات اغتيال الرجل الطيب" مصطفي النحاس" 0ومن هنا فقد مثل الاشتراكيون تيارا شعبيا أصيلا، انتشر انتشارا واسعا في مختلف البلاد المصرية، وحصل علي أنصاره وقادته من بين مختلف فئات الشعب وطبقاته، فتجد منهم ابناء الباشوات والوزراء والأرستقراطيين، كما ستجد منهم ابناء المعلمين والحرفيين وشيوخ الأزهر وابناء الفلاحين والعمال وعمال التراحيل في نفس الوقت، ولعل تلك الشعبية التي حظي بها التيار الاشتراكي،ونجاحه في العمل في القري والمصانع ومختلف الأحياء،كانت هي سر العداء الذي بدا من تعامل كل القوي الرسمية بما فيها الوفد منهم.
طبعا كانت هناك العديد من القضايا الخلافية بين مختلف الفرق الاشتراكية، بعضها يتعلق بدور الأجانب في الحركة، رغم أنهم لم يكونوا أجانب كما نفهم الآن، وإنما كانوا متمصرين يعيشون بينهم ويدخل أولادهم مدارسنا ويستقبلونهم في بيوتهم ويملكون العقارات والشركات ويتعاملون مع الدولة والمواطنين بالبيع والشراء، ولم يكن وجودهم عائقا أمام نمو وانتشارالحركة الاشتراكية، لاقتناع الكثير منهم بدورالمواطنين المصريين الخالص من ناحية، ومن ناحية أخري نمو جيل جديد من القادة الاشتراكيين المصريين، كشهدي عطية الشافعي، واسماعيل صبري عبد الله وكمال عبد الحليم وبهيج نصار وعبد المعبود الجبيلي وفؤاد مرسي وفوزي حبشي وسعد زهران وفريد حداد وأنور عبد الملك،وغيرهم كثير.
الشيوعيون ويوليو
المهم كان لكل تلك العوامل التي ميزت الحركة الاشتراكية، ما دفع تنظيم الضباط الأحرار للتعاون معها، والاستفادة من جماهيريتها ومطابعها وقدرتها علي صياغة وطبع وتوزيع المنشورات، كما ضم إلي صفوفها الأولي أربعة منهم أصبحوا من كبار كوادره وهم: الضباط يوسف صديق، وخالد محيي الدين، واحمد حمروش، والأستاذ احمد فؤاد، وطبعا نعرف أن يوسف صديق وخالد محيي الدين كانا من أبرز أعضاء مجلس قيادة الثورة - ثورة يوليو - ولكن لرؤيتهما المبدأية وتمسكهما بالديمقراطية، ورفضهما لسياسة المحاور والمساومة والتآمر والإغراء أو التهديد بسيف المعز وذهبه، سرعان ما غادريوسف صديق مجلس قيادة الثورة إلي الاعتقال، وخالد محيي الدين إلي المنفي.
القصد، أن الثورة ومجلس قيادتها تبنوا بالكامل أفكار الاشتراكيين في المسألة الاجتماعية، فحددوا ملكية الارض، ووزعوا معظم مااقتطعوه علي الفلاحين المعدمين، كما راحوا يتفاوضون لتحقيق الجلاء، ويستعدون لتأميم القناة، غير أن البون كان شاسعا في رؤيتهم للقضية الديمقراطية، فقد آمن الاشتراكيون بحكم الدستور والبرلمان والشعب، وحرية تكوين المنظمات السياسية والجماهيرية، وحرية وحق العمال في تأسيس نقاباتهم المستقلة.
ولكن بمجرد ما بدت النوايا الاستبدادية لثوار يوليو، والعمل علي البقاء في الحكم بلا دستور ولا قانون ولا تنظيمات سياسية حرة، وبمجرد ما حلت الثورة كل أحزاب ما قبل يوليو بجرة قلم، وآثر قادتها الانزواء والصمت، اكتفاء بدورهم السابق قبل الثورة وخوفا من الاعتقال والتنكيل وبطش الثوار وأحذيتهم الثقيلة، بدأت القطيعة بين الاشتراكيين والثورة.
وهكذا كشر ثوار يوليو عن أنيابهم وقلبوا للاشتراكيين ظهر المجن، فبدأت محنهم المتصلة مع السجن والفصل التعسفي وقطع الأرزاق والحرمان من العمل والتشريد والمطاردة وتقديمهم لمحاكم استثنائية بلا ضمانات ولا قضاة طبيعيين، يحاكمون بقوانين شاذة تحاكم علي المعتقد والرأي والتعبير وحيازة الكتب والمنشورات والصور والأحبار وأدوات الطباعة
وتحمل الاشتراكيون المحنة بقدرة فذة علي الصمود والصبر والتنظيم والاحتماء بالناس، فيخرجون من السجون، ليشتركوا ببسالة منقطعة النظير في مقاومة العدوان الثلاثي سنة 1956، وليواصلوا نضالاتهم والدعوة لمبادئهم وحشد الأنصار وتجنيد الكوادر، ومناقشاتهم حول طبيعة السلطة الناصرية وتجربة الوحدة مع سوريا، ويواصلوا أيضا انشقاقاتهم وخلافاتهم الايديولوجية وسعيهم لوحدة الحركة الاشتراكية والحفاظ علي استقلالية تنظيمهم السياسي الثوري
تعذيب شرس
ومن ثم لم تجد سلطة يوليو بدا من اللجوء إلي سيف الاعتقال الرهيب،ثم التعذيب الشرس المسعور المنعتق من كل القوانين والأعراف والشرائع، يقوم به نماذج من البشر هم أحط وأخس النماذج البشرية التي تستمتع بسادية منقطعة النظير، بلا رجولة ولا شرف، بتجويع وجلد وتهشيم عظام، أسراهم المجردين من أي قدرة وأي غطاء قانوني سوي قوة عزيمتهم وإيمانهم بقضيتهم وقضية شعبهم، من أنبل النماذج البشرية: شعراء وفنانين وأدباء كتاب وصحفيين وأطباء ومعلمين وأساتذة جامعيين وغيرهم
في ظل هذه الظروف تم القبض علي المناضل شهدي عطية الشافعي، وقدم إلي المحكمة العسكرية في الاسكندرية، وتقرر ترحيله إلي سجن أوردي ليمان أبي زعبل، ليلة 15 يونيو 1960، مع39 من رفاقه،منهم الكاتب الكبير صنع الله ابراهيم وأحمد القصير، وبهيج نصار، ووصلوا فجرا وقبيل السجن بمسافة كبيرة يبدأ حفل الاستقبال الرهيب، عساكر وصولات بلا ضمير ولا قلب ولا معني، كالكلاب المسعورة، إذا أمرها صاحبها أن تنهش لحم ضحيتها وتهرس عظامه، يركبون الخيول ويحملون سياطا وشوما غليظا، يجردون المناضلين من ملابسهم، ويجلدونهم ويمرمغونهم في الوحل والتراب، حتي يصلوا إلي باب الليمان، بعد أن ارتفع الضحي، عراة، جلودهم ولحومهم ممزقه، أجسادهم دامية، أنفاسهم لاهثة، أبصارهم زائغة، لا تكاد تري تحت قدميها
هكذا وجد شهدي عطية الشافعي نفسه أمام جلاديه، منتصب القامة- كان عريض المنكبين وطويلا بائن الطول - رافع الرأس رغم الجراح الدامية
لم يكن شهدي عطية مجرد واحد من المناضلين، ولكنه كان الأب والزعيم والقائد، ولد بالاسكندرية سنة 1912، وحصل علي ليسانس الأدب الانجليزي ثم الماجستير من جامعة "أوكسفورد" ببريطانيا، وأصبح أول من يتولي من المصريين منصب مفتش أول اللغة الانجليزية بوزارة المعارف، انتمي للحركة الشيوعية منذ منتصف الثلاثينيات، وقدم أقصي ما يستطيع لقضية الشعب جهدا وعلما ومالا وتضحيات وسنوات الشباب التي تزوي خلف الجدران، فنال اعتراف الرفاق جميعا بأنه الزعيم والقائد والرمز
بادره الجلاد ( اسماعيل همت قائد المذبحة، ومعه: يونس مرعي وحسن منير، وصلاح طه وعبد اللطيف رشدي) الجالسون تحت شمسية تقيهم وهج ضحي شمس يونيو:
- انت بقي شهدي؟.. اسمك إيه ياله؟
فيرد البطل بثبات: شهدي
- شهدي مين يا ابن ال.........
- فاكر نفسك علم يابن ال ......
ويشير بحاجبيه وعينيه بهمجية إلي صف الكلاب الواقف في الخلف، فينهالون علي الجسد العاري الدامي بالشوم، لايهم أين يقع الشوم؟ علي الرأس، علي الكتف، علي الظهر، علي الضلوع، من يهتم؟
فيغمي علي البطل تحت وقع الشوم الغليظ، ثم ينتصب من جديد
- قول اسمك بالكامل وزعق يا ابن ال......
وينهال الشوم ويغمي علي البطل من جديد، وينتصب من جديد، مرات ومرات.
وأخيرا يلقي إليه الجلاد بالأمر الحاسم، والسؤال الفاصل، " بين ذل العيش أو عز المنية"
- يابن ال...... قول: أنا مرًة
وما كان شهدي ليقولها، وهو يعلم أن رفاقه يشهدون، والتاريخ كذلك يشهد، فتوالي الضرب بعنف وسرعة ووحشية، حتي سقط البطل ولم ينتصب من جديد أبدا
لابد أنه قد همس لنفسه مع أنفاسه الأخيرة: "ما أهون أن ينهار الجسد، وتنقطع الأنفاس، إذا كانت البطولة كاللواء المخضب بالدماء، ستنتصب عالية فوق رؤوس الجلادين؟ ما أهون أن يموت الجسد ويعيش الموقف والمبدأ والاختيار الحر النبيل"
هكذا استشهد البطل، ولان ماحدث كان علي مرأي ومسمع من الرفاق ولأن شهدي لم يكن قليل الشأن أو ضئيل المكانة، فلم يكن من السهل أن تحمله سيارة نصف نقل ليدفن تحت رمال الصحراء ويكتب في دفاتر المعتقل أمام اسمه: " هارب "، فوضع علي سرير ضيق داخل زنزانة قذرة كتبوا علي بابها: "المستشفي"
وكان لا بد من استدعاء الأب علي عجل مصحوبا بالإرهاب والرعب اللازمين، ليتسلم جثمان البطل مع التعليمات الصارمة: "الوفاة حدثت نتيجة هبوط حاد في الدورة الدموية والقلب"، هكذا ينص تقرير الطبيب الشرعي، ولقد تم إعداد الجثمان بتغسيله وتكفينه، وسوف يصاحب الجنود الجثمان حتي يتم دفنه في مقابر العائلة، وغير مسموح بتقبل العزاء في مضيفة أو سرادق، وإن كان لا بد، فقبول العزاء من أقارب الدرجة الأولي فحسب داخل جدران المنزل
لا أحد يعلم علي وجه اليقين، مالذي دار بعقل الرجل، وهو يري الجثمان المسجي أمامه: حصاد أيامه ومناط أحلامه، ومحتوي آماله وأمانيه، ابنه الشامخ فلذة كبده الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وكان ملء السمع والبصر، جسدا هامدا بلا حراك
المهم، قال الرجل لابد أن أري وجهه - ربما كان يريد أن يقرأ عليه السلام - فقيل: ممنوع، هذه هي الأوامر، قال الرجل الباسل: إذن فلن أتسلمه، ما الذي يمكن أن يخشاه الرجل أو يحرص عليه بعد رحيل شهدي، وبعد أن أدرك الجلاد أن عناد الرجل لن يتزحزح، أسقط في يده وكشف وجهه، ومال الرجل بوجهه علي الوجه المحبوب، وشهد نياشين الشرف التي تتزاحم فوق الوجه جراء الضرب الشرس، كما شهد أكليل الغار الذي يحيط بالجبين المتوهج، رغم برودة الموت، فانحني وطبع علي الجبين قبلة ملتاعة، اعقبتها بضع قطرات من الدموع الحارة، وغطي الوجه وصحبه وانصرف، وأتم الدفن، وفي اليوم التالي توجه لصحيفة الأهرام، لم تكن صفحة الوفيات قد خضعت لعين الرقيب بعد، فكتب فيها من رائعة أبي تمام:
"فتي مات بين الطعن والضرب ميتة / تقوم مقام النصر لو فاته النصر تردي ثياب الموت حمرا فما/ دجي له الليل إلا وهي من سندس خضر وقد كان فوت الموت سهلا/ فرده إليه الحفاظ المر والخلق الوعر"، أستشهد المناضل شهدي عطية الشافعي
نهايته وختامه
أنا لا أريد أن أنكأ جراحا اندملت، أولم تندمل بعد، ولا أريد أن أصفي حسابا مع مرحلة أو مع أحد، وإنما أردت في هذا العرض الوافي لحادثة استشهاد شهدي، أن أنبه لخطورة الاعتقال والتعذيب، الذي يستهين بحقوق الإنسان وكرامته بل وبروحه، وهو للأسف ممارسة مازالت مستمرة منذ فجر الثالث والعشرين من يوليو حتي اليوم، ويقول أستاذنا الدكتور قدري حفني- أحد المعتقلين السابقين - أن خطا واحدا هو الذي يصل ما بين شهدي وخالد سعيد، الاستهانة بكرامة الإنسان وحياته، ويري أن الاعتقال في السابق كان يطال فقط المعارضين السياسيين، الذين يقبع الآلاف منهم خلف الجدران حتي الآن، أما اليوم فإنه يطال أي إنسان
وأخيرا لقد اكتتب الناس من قبل لإقامة تماثيل لعرابي ومصطفي كامل ومحمد فريد وطلعت حرب وسعد زغلول، وأنا لا أظن تضحية شهدي بحياته بأقل من تضحياتهم جميعا
ومن هنا فإنني أدعو إلي تشكيل لجنة قومية لإقامة تمثال صرحي لشهدي عطية الشافعي ليكون نصبا تذكاريا لضحايا الاعتقال والتعذيب
واقترح أن تساهم فيه جميع الأحزاب السياسية، وجمعيات المجتمع المدني، الحقوقية منها خاصة، وعدد من الشخصيات العامة، ورفاق وأصدقاء شهدي الذين مازالوا معنا، متعهم الله بالصحة والعمر
وبمجرد أن تعلن اللجنة عن رقم الحساب الخاص بتكاليف ذلك التمثال، أعلن من الآن عن تبرعي بألف جنيه لعلي بذلك أحوز قصب السبق في هذا العمل النبيل، ولعلي بذلك أكون أحد الباحثين لأولادنا عن مستقبل بلا تعذيب ولا معتقلات


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.