في الحلقة السابقة من دراسته المهمة «الاتصال والعولمة تحدث الدكتور قدري حفني عن ظاهرة السلطة المركزية وبروزها وهو ما جعل الدولة تبحث عن نوع من الاتصال يضمن وصول رسالتها إلي الجماهير، وذكر الدكتور قدري أن الاتصال الجماهيري هو الأداة الأساسية للمركز أو القيادة في التعامل الاتصالي بالجماهير. وفي هذا الجزء يركز الدكتور حفني علي الاتصال الشخصي المخطط ونوعية الافراد الذين تتوجه إليهم الحملات الإعلامية بهذا النوع من الاتصال وتأثير الاتصالات الحديثة علي العلاقات الإنسانية بين افراد المجتمع. إن الاتصال الشخصي المخطط يعد أعلي وسائل الاتصال تكلفة إذا ما وضعنا في الاعتبار حجم جمهور المتلقين _ ولعل هذا هو ما يفسر أن الحملات الإعلامية التي تستخدم الاتصال الشخصي لا تعتمد عليه وحده ، كما أنها توجه عادة إلي مجموعات بعينها من الأفراد الأشد تأثيرا علي غيرهم ، أي قادة الرأي ، أو إلي الأفراد الأشد مقاومة للتغيير. يتميز الاتصال الشخصي المخطط بما يمكن أن نطلق عليه "التمركز حول الداعية"، بعبارة أخري فإن الداعية في إطار هذا النوع من الاتصال يتخذ وبشكل أساسي موقع المرسل أو لنقل "صاحب الرسالة" _ قد يتبادل النقاش مع المتلقين ، يستمع إليهم ويحاورهم ، ولكنه أبدا لا ينبغي له أن يتخلي عن موقعه كمرسل و إلا أصبحت عملية الاتصال عملية تلقائية خالصة أي فقدت خاصيتها المخططة _ وقد تتعدد أشكال الاتصال الشخصي المخطط وتتباين من الندوة إلي الزيارات المنزلية إلي المقابلات الشخصية بأنواعها المختلفة إلي غير ذلك من أشكال ، ولكنها جميعا تعتمد في النهاية علي الداعية ، فعليه يتوقف نجاح البرنامج الاتصالي في تحقيق أهدافه، وإليه يرجع إخفاق هذا البرنامج وإهدار كل ما بذل من جهد في تخطيطه وإعداده _ بل إن هذا الإخفاق - إذا ما حدث- فإنه يمثل في حد ذاته عقبة قد تعوق أي جهود اتصالية جديدة في هذا المجال _ ولعلنا نتساءل: وهل تعد هذه الخاصية ، أي التمركز حول الداعية" ضمن حدود أو مخاطر الاتصال الشخصي المخطط ؟وعلي أي أساس؟. إن الاتصال الشخصي يتميز عن غيره من أنواع الاتصال كما سبق أن أشرنا بخاصية التفاعل المتبادل بين الداعية والجمهور_ وذلك يعني أن الداعية يكون في متناول الجمهور بنفس القدر الذي يكون فيه الجمهور في متناول الداعية ، ولعل أول التساؤلات التي يطرحها الجمهور علي نفسه بل قد يطرحها علي الداعية هو ذلك التساؤل التقليدي : تري هل الداعية شخصيا مقتنع بمضمون الرسالة التي يدعونا إليها؟ وهل هو ملتزم بهذا المضمون فعلاً؟ أم انه مجرد حامل رسالة محترم؟ وفي هذه المواقف تتعرض مصداقية الداعية و بالتالي مصداقية الرسالة التي يحملها للاختبار قولا وفعلا . الاتصال الشخصي والعلاقات الإنسانية لعله مما يستوقف المتأمل في لغتنا العربية أن تعبير "الاتصال" مشتق من الفعل "وصل" ويشير مختار الصحاح في هذا الصدد إلي أن تعبير وصل إليه وصولا أي بلغه ، وأن الوصل ضد الهجران والمتأمل للغتنا اليومية قد لا تفوته دلالة كلمة "الوصال" _ الاتصال إذن بمعناه اللغوي ، ووفقا لاستخدامه في لغتنا اليومية إنما يعني نوعا من العلاقة الإنسانية الحميمة ، المباشرة ، والمتبادلة . والمتأمل لتطور العلاقات الإنسانية في المجتمعات الحديثة قد يلحظ أنها بحكم تعقد الحياة، وزيادة التخصصات وتعمقها، فضلا عن تطور التكنولوجيا الحديثة سواء في المباني أو التنظيمات أو وسائل الاتصال ، كل ذلك يدفع أبناء تلك المجتمعات إلي مزيد من العزلة والتقوقع _ صحيح أنهم لا يكفون عن ممارسة الاتصال الشخصي بمعناه الفني العلمي ، ولكنهم يبتعدون شيئا فشيئا عن ممارسة المضمون الشخصي الإنساني لهذا الاتصال .