في الجزء الأول من هذه الورقة تطرقنا إلي الموقف من "العولمة"، بصورة عامة، وإلي ضرورة التمييز بصورة خاصة بين "العولمة المتوحشة" و"العولمة البديلة"، وكيف أن مقاومة العولمة المتوحشة لا يمكن أن تنجح إلا علي نطاق "معولم" أيضا. وقلنا إن هذا ينقلنا مباشرة إلي ما يسميه البعض ب "الإعلان المعولم". في حديثي عن "الإعلام المعولم" سأعتمد بصورة أساسية علي دراسة مهمة للباحث المحترم الدكتور محمد شومان تقوم فرضيتها الأساسية علي أن "آليات العولمة ومظاهرها علي الصعيد الإعلامي ممثلة في التطور التكنولوجي السريع والمتواصل أدت لانتشار البث المباشر الذي قلص من قدرة الدول والحكومات العربية علي التحكم في المضامين والأشكال الاعلامية التي تصل إلي مواطنيها، وقد ترافق مع هذا التطور التكنولوجي تنامي قطاع الاعلام والمعلومات والترفيه واندماجها وتحولها إلي صناعة عملاقة تتحكم فيها ونفوذها مجموعة من الشركات متعددة الجنسيات. وقد ظهر الاعلان والترويج لثقافة الاستهلاك كآلية عملاقة لتمويل تلك الصناعة وتشغيلها، مما يوجد تحديات هائلة ثقافية وسياسية واقتصادية أمام الشعوب العربية". وفي سياق هذه الفرضية سعي الباحث إلي رصد الآثار المتبادلة بين عولمة الاعلام علي الصعيد الدولي والنظام الاعلامي العربي بجميع مكوناته. وعلي هذا الطريق بدأ برصد أهم مكونات وخصائص النظام الاعلامي العربي وحددها في الآتي: 1- تشابه السياسات الاعلامية ووجود اتجاه قوي لفرض سيطرة وهيمنة الحكومات المركزية علي منح التراخيص وممارسة الرقابة بأنواعها، وتوظيف وسائل الاعلام للترويج للسياسة الحكومية. 2- هيمنة الدولة علي الهياكل المالية لوسائل الاعلام، سواء من خلال الملكية المباشرة أو غير المباشرة. 3- التبعية الاعلامية علي مستوي استيراد تكنولوجيا الاتصال والمضامين الاعلامية والأشكال الفنية التي تنتج من خلال البرامج. 4- تشابه الخطاب الاعلامي رغم تنوعه الشكلي، فثمة اتفاق علي التركيز المتزايد علي الشئون المحلية مع إبراز وجهة النظر الحكومية، وتقديم مضامين ترفيهية متشابهة مع تهميش متزايد للمضامين الثقافية والتعليمية. 5- ضعف ومحدودية مشاركة الجماهير (مستقبلون فقط). 6- محدودية دور منظمات العمل الاعلامي العربي التابعة لجامعة الدول العربية. 7- تهميش دور ومكانة الجمعيات والنقابات الخاصة بالعاملين في وسائل الاعلام (لا وجود لنقابات للاعلامين والصحفيين في كثير من البلدان العربية). ويمكن تلخيص كل ذلك بالقول بأن الاعلام العربي قبل العولمة كان يعاني أوضاعا سيئة وصعبة. فماذا فعلت به العولمة؟ هل ألقت له بطوق النجاة أم أنها زادت الطين بلة؟ هناك إجابتان متناقضتان بهذا الصدد. الأجابة الأولي: تري أن العولمة هي توسيع للحداثة من نطاق المجتمع إلي نطاق العالم، وأن عولمة الاعلام تدعم التدفق الحر للمعلومات وحق الاتصال وتوفر للجمهور فرصاً غير محدودة لحرية الاختيار بين وسائل الاعلام والمعلومات (أنطوني جيدنز). والاجابة الثانية: ترفض التعويل علي ايجابيات عولمة الاعلام وتنظر إليها باعتبارها نفياً للتعددية الثقافية وتسييداً لقيم الربح والخسارة وآليات السوق في مجالات الاعلام والاتصال والمعلومات، وتقويض سلطة الدولة لصالح الشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات (هربرت شيللر صاحب الاسهامات المهمة عن الامبريالية الثقافية، التي يؤكد فيها أن التكتلات الرأسمالية عابرة الجنسيات تستخدم وسائل الاعلام كحافز للاستهلاك عبر إدخال قيم أجنبية تطمس أو تزيل الهويات القومية أو الوطنية). ولدينا أيضاً الأفكار المهمة لناعوم تشومسكي التي تؤكد أن عولمة الاعلام هي الزيادة الضخمة في الاعلان، خاصة الاعلان عن السلع الأجنبية.. وأن العولمة هي التوسع في التعدي علي القوميات من خلال شركات عملاقة شاملة ومستبدة يحركها أولاً الاهتمام بالربح وتشكيل الجمهور وفق نمط خاص، بحيث يدمن الجمهور أسلوب حياة قائما علي حاجات مصطنعة، مع تجزئة الجمهور، وفصل كل فرد عن الآخر، بحيث لا يدخل الجمهور الساحة السياسية، ويزعج أو يهدد النظام الحاكم أو السيطرة علي المجتمع. وبتطبيق ذلك علي الاعلام العربي بعد تعرضه لرياح العولمة يخلص الدكتور محمد شومان إلي القول بأن "عولمة الاعلام أثرت في النظام الاعلامي العربي بطريقة مركبة وغير متوازنة قياساً بما أحدثته في كثير من دول العالم وفي مجال اقتصادات وأنشطة الإعلام. فبقدر ما أتاحت عولمة الاعلام من فرص للمعرفة وتبادل الأخبار والمعلومات والآراء في سرعة ودون قيود، بقدر ما أثارت من إشكاليات مثل إشكالية القدرة علي تزييف الحقائق وتطور آليات التزييف والدعاية". ولتوضيح ذلك قام برصد الفرص والمحاذير التي فجرتها تأثيرات عولمة الاعلام في النظام الاعلامي العربي علي النحو التالي: 1- تقليص دور الدولة نتيجة تطور تكنولوجيا الاتصال.. ومن ثم ظهور مجال عام للنقاش بين الشعوب العربية. 2- تركز الملكية والأداء الاعلامي المهني المحترف والقادر علي المنافسة في عدد محدود من القنوات الفضائية والمواقع الاعلامية علي شبكة الانترنت. 3- تنامي دور شركات الاعلام متعددة الجنسية في النظام الاعلامي العربي نتيجة تراجع دور الدولة من جهة، وعولمة الاعلام من جهة ثانية وفي هذا السياق ظهرت العديد من الطبعات العربية لمجلات وصحف تمتلكها شركات إعلامية متعددة الجنسيات، كما تتنافس المجموعات والشركات المسيطرة علي أهم الفضائيات العربية علي القيام بدور الوسيط أو الوكيل المحلي للعديد من القنوات الأمريكية التي تقدم للمشاهد العربي برامج ومضامين أمريكية بعد ترجمتها.. رغم ما قد يكون بها من تعارض مع المصالح العربية. [email protected]