الدكتور قدري حفني يكتب عن ظاهرة السلطة وتشكيل وعي الجماهير. في هذا الجزء من دراسته المهمة «الاتصال والعولمة» حلل الدكتور قدري حفني تبلور ظاهرة السلطة المركزية وبروزها لتجعل الدولة في حاجة إلي نوع جديد من انواع الاتصال يضمن وصول رسالتها الي جماهيرها ويشير حفني إلي أن ظاهرة السلطة بحثت عن نوع من الاتصال يضمن التحكم في مضمون الرسالة المركزية بحيث تكفل الحد المطلوب من تشكيل الوعي الجماهيري. 3 - تبلور ظاهرة السلطة المركزية: ويبقي عامل ثالث، لعله أهم العوامل التي تضافرت لتشكيل الضرورة الاجتماعية لبروز دور الاتصال الجماهيري، وهو تبلور ظاهرة السلطة المركزية، لقد تطورت الجماعة البشرية من الأشكال القبلية البسيطة العدد ، والمحدودة المكان ، إلي أشكال أكثر تركيبا وتعقيدا ولسنا بصدد التعرض تفصيلا لمسار هذا التطور عبر التاريخ البشري، فما يعنينا في هذا الصدد هو التوقف قليلا أمام تطور ظاهرة القيادة ، من قيادة القبيلة إلي قيادة الأمة أو الدولة ، والدور الذي تلعبه العملية الاتصالية بالنسبة للشكل الحديث للدولة المركزية المعاصرة. لقد أصبحت الدولة المركزية الحديثة في حاجة إلي نوع جديد من أنواع الاتصال أصبحت تحتاج نوعا من أنواع الاتصال يضمن وصول الرسالة من المركز إلي جماهير الدولة في نفس لحظة إرسالها نوعا يضمن التحكم في مضمون هذه الرسالة المركزية بحيث تكفل الحد الأدني المطلوب من تشكيل الوعي الجماهيري المشترك ، وتكفل كذلك تأكيد استمرارية صورة السلطة المركزية لدي الجماهير ولم يكن من قبيل المصادفة - والأمر كذلك - أن يطلق علي هذا العصر "عصر ثورة الاتصالات" فهو ولا ريب عصر بلوغ السلطة المركزية أوجها في المجتمعات المتقدمة والمتخلفة علي حد سواء. ولسنا في حاجة إلي سوق الأدلة ، واستعراض نتائج البحوث المتخصصة للتدليل علي جوهرية الدور الذي تلعبه وسائل الاتصال الجماهيري بالنسبة لكيان الدولة المركزية المعاصرة يكفينا أن ننظر إلي ما يجري حولنا في العالم المعاصر ليتضح لنا أن السيطرة المادية علي مقر الإرسال المركزي للإذاعة والتليفزيون في أي دولة معاصرة لا تقل أهمية بحال عن السيطرة علي مقر الحكم ذاته ، وأن اختلال هذه السيطرة إنما يعني مباشرة اهتزازا للسلطة المركزية للدولة. ولا تقتصر تلك الظاهرة علي نسق الدولة فحسب ، بل إنها تشمل أيضا جميع أنساق التنظيمات المركزية المعاصرة كالأحزاب والنقابات إلي آخره فكل نسق تنظيمي مركزي يحرص كل الحرص علي " تأمين" أداة الاتصال الجماهيري الخاصة به ، ويعتبر أن تهديدها تهديد مباشرا لكيانه. تري هل يعني ذلك كله اننا بصدد ظاهرة ذبول الشكل القديم من أشكال الاتصال، أي الاتصال الشخصي، وحلول الشكل الجديد أي الاتصال الجماهيري محله؟ إن الأمر ليس كذلك علي الإطلاق. المجتمعات المعاصرة الاتصال الجماهيري هو الأداة الأساسية للمركز أو للقيادة أو للسلطة في التعامل الاتصالي بالجماهير، ولكن ماذا عن دور الاتصال الشخصي في إطار هذه العلاقة؟ إن تعبيرات " السلطة" أو " المركز أو " القيادة " إلي آخره ، بل أيضا تعبير "الجماهير" ، كلها تعبيرات مجردة ولو حاولنا أن نتعمق في تحليل مدلول هذه التعبيرات لا تضح لنا أنها جميعا تعبر عن مجموعات من الأفراد تتباين من حيث أحجامها النسبية ، وكذلك من حيث مواقعها في بناء القوة والتأثير داخل المجتمع ، ولكنها في النهاية مجموعات من الأفراد. وفي الحقيقية فإن أفراد جماعات السلطة يمارسون جميع أشكال الاتصال الشخصي بين بعضهم البعض. يتحادثون ويتناقشون ويتفاعلون إلي آخره كأفراد ينتمون إلي جماعة، وفي حدود ما تسمح به إمكانات الاتصال الشخصي ومن ناحية أخري فإن أفراد جماعات الجمهور يمارسون نفس أشكال الاتصال الشخصي فيما بينهم كأفراد ينتمون إلي مختلف الجماعات الأسرية والمهنية والترفيهية إلي آخره وتظل قنوات الاتصال الجماهيري هي السبيل لنقل محصلة الاتصالات الشخصية بين أفراد المركز أو السلطة إلي الجماهير. خلاصة القول إذن إننا لا نستطيع أن نتصور إمكانية إنجاز أي اتصال جماهيري مهما كان مستوي كفاءته دون أن تسبقه شبكة من الاتصالات الشخصية بين أفراد مخططيه ، يتوصلون من خلالها إلي تحديد مضمونه وشكله وتفاصيله إلي آخره بل إننا نستطيع أن نمضي إلي القول بأن مستوي نجاح أي اتصال جماهيري إنما يتوقف بدرجه أو بأخري علي مدي كفاءة الاتصالات الشخصية التخطيطية التي سبقته. هذا من ناحية دور الاتصال الشخصي في إنجاز الاتصال الجماهيري المركزي، فماذا عن عملية تلقي رسالة ذلك الاتصال الجماهيري؟ إن هدف الاتصال الجماهيري أيا كان مضمونه هو إحداث تأثير معين في اتجاهات الجمهور المتلقي أو ما يطلق عليه "تشكيل وعي الجمهور" وغني عن البيان أن إحداث مثل هذا التأثير يقتضي ابتداء أن يصدق الجمهور المتلقي تلك الرسالة الموجهة إليه، و إلا فإنها لن تحدث تأثيرها المرجو، بل لعلها تحدث تأثيرا سلبيا معاكسا ، ويحرص صناع رسائل الاتصال الجماهيري المتطورة علي بذل كل الجهد وتسخير جميع الإمكانات التكنولوجية لكي تكون رسائلهم أكثر إقناعا وأشد قابلية للتصديق بل إننا لا نجاوز الحقيقة كثيرا إذا ما قررنا أن أخطر التحديات التي يواجهها الاتصال الجماهيري في العالم المعاصر تتمثل في أمرين. الأمر الأول: هو التطوير التكنولوجي لوسائل الإرسال بحيث يتسع مداها وتزيد سرعتها ويسهل استقبالها. والأمر الثاني: هو تطوير أساليب الإقناع وضمان المصداقية ومن ثم تحقيق التأثير المطلوب علي المتلقين. ومصدر هذا التحدي فيما نري أن الرسالة الجماهيرية يتلقاها الأفراد عادة في جماعات، ويكون مرجعهم الأساسي في تصديقها أو عدم تصديقها هو شبكة اتصالاتهم الشخصية المتبادلة داخل جماعاتهم. و لكي يتضح ما نعنيه، فلننظر إلي مجموعة من الأفراد يلتفون حول جهاز التليفزيون أو الراديو يستقبلون برنامجا يمس مشكلة تهمهم كيف يكون استقبالهم لهذا البرنامج؟ إنهم لا يستقبلونه صامتين بل إنهم عادة ما يعلقون عليه ، بل يديرون حوله نقاشا ، أي يمارسون شكلا من أشكال الاتصال الشخصي وتكون محصلة تلك التعليقات والمناقشات المتبادلة تحديد مدي مصداقية الرسالة بالنسبة لهم و بالتالي درجة تأثرهم بها إيجابيا أو سلبيا. بين «التلقائية والتخطيط» لعله أصبح واضحا مما سبق أن البشر جميعا أيا كانت مواقعهم أو أعمارهم أو انتماءاتهم يمارسون الاتصال إشباعا لحاجة بشرية أصيلة لديهم ، ولذلك فإنهم يمارسونه عادة بشكل تلقائي غير مقصود أو مخطط سلفا ومع تطور علوم الاتصال اتجهت اهتمامات المتخصصين لدراسة خصائص هذا النشاط التلقائي. ولعل أهم ما توصلت إليه هذه الدراسات فيما يتعلق بموضوعنا ما يلي: أولا: للاتصال الشخصي الغلبة في مجمل صياغة اتجاهات ومعارف البشر فمن خلاله تتشكل الاتجاهات الأساسية للأفراد منذ طفولتهم في إطار الأسرة ، ثم في إطار المدرسة وهي الاتجاهات التي تصبح أكثر مقاومة للتعديل بعد ذلك. ثانيا: جماعات الاتصال الشخصي التلقائية، هي التي تقوم - وبشكل تلقائي أيضا - بتصفية مضمون رسائل الاتصال الجماهيري بمعني تقييمها والحكم عليها ومن ثم تصديقها والتأثر بها إيجابا، أو تكذيبها والتأثر بها سلبا. ثالثا: يتميز الاتصال الشخصي بأنه الأكثر مرونة بحيث يمكن تعديل الرسالة فورا ووفقا لمقتضيات الحال لتصبح أكثر إقناعا وقابلية للتصديق وذلك من خلال التفاعل المتبادل بين المرسل والمتلقي. رابعاً: يتميز الاتصال الشخصي بأنه الأكثر استمرارية ، بمعني أن المرسل يستطيع أن يظل وراء رسالته ؛ مكررا إياها ، ومعدلا في مضمونها ، كلما أتيحت له الظروف المناسبة والوقت الملائم دون التزام بتوقيت مسبق قد لا يكون هو التوقيت المثالي. خامساً: يتميز الاتصال الشخصي بما يتيحه للمرسل من إمكانية رصد ومتابعة ما تحدثه رسالته من تعديل في الاتجاهات بل وفي السلوك الفعلي أيضا في كثير من الأحيان. سادسا: إن الاتصال الشخصي التلقائي هو الأكثر انتشارا حيث إنه يشمل أفراد المجتمع جميعا، كما أنه يشمل أوقات صحوهم كلها أما الاتصال الجماهيري فمهما بلغ اتساع جمهوره فإنه يستحيل علميا أن يشمل أفراد المجتمع جميعا وطيلة الوقت. سابعاً: يتميز الاتصال الشخصي بأنه بحكم طبيعته يضمن وصول الرسالة إلي المستقبِل فالمرسل يتوقف تلقائيا عن الإرسال إذا انفض من حوله المستقبلون ، كما أن لديه من الوسائل ما يمكنه من إثارة انتباههم إذا ما لاحظ انصرافهم عنه وشيئا من ذلك لا يمكن ضمانه بالنسبة للاتصال الجماهيري. ثامنا: إن الإنسان بطبيعته أميل إلي تبني ما يعتقد أنه شارك شخصيا في إنجازه، كما أنه أميل إلي نقد وتمحيص ما يتلقاه جاهزا خاصة إذا ما كان موجها إليه من السلطة وبالتالي فإن تأثير الاتصال الشخصي الناجح علي تعديل الاتجاهات يكون أكثر عمقا وثباتا. تاسعاً: يتميز الاتصال الشخصي بذلك التبادل المستمر والسريع للأدوار والمواقع بين المرسل والمستقبل فخلال أغلب المناقشات أو التفاعلات التلقائية يصعب أن نتصور مرسلا يداوم الإرسال طيلة وقت الاتصال، ومستقبِلا يداوم التلقي طيلة ذلك الوقت. عاشراً: تشير وقائع التاريخ الاجتماعي و السياسي للشعوب إلي أن الدعوات الاجتماعية الكبري التي لعبت دورا حاسما في مسار التطور الفكري والاجتماعي للبشر قد بدأت وقويت وازدهرت من خلال عمليات الاتصال الشخصي التي قام بها الداعية الرائد و لا يبدأ دور الاتصال الجماهيري عادة إلا بعد أن يستتب الأمر لمثل هذه الدعوات أي بعد أن تتمكن من السيطرة الفعلية علي أجهزة الاتصال الجماهيري لعل تلك الخصائص هي أهم ما يعنينا في هذا المقام من مميزات الاتصال الشخصي والتي استوقفت اهتمام العاملين في مجال الاتصال الجماهيري. ومن ثم بدأت الدراسات والبحوث والتجارب تتجه إلي توظيف الاتصال الشخصي بميزاته السابق الإشارة إليها لتحقيق الأهداف التي يسعي إليها الاتصال الجماهيري ومن هنا بدأت صورة جديدة من صور الاتصال الشخصي نستطيع أن نطلق عليها الاتصال الشخصي العمدي أو المخطط. ويتمثل جوهر ذلك الاتصال الشخصي المخطط في تهيئة داعية مدرب كفء يتولي القيام بعملية الاتصال الشخصي لتحقيق هدف اتصالي محدد سلفا, و لما كان هذا النوع من أنواع الاتصال الشخصي يتميز بالتخطيط المسبق، فقد كان طبيعيا أن يشمل هذا التخطيط حسابا لسلبياته أو لحدود إمكاناته بالنسبة للأهداف الموضوعة له.