انتهينا في مقال سابق إلي طرح عدة تساؤلات حول ظاهرة الاختطاف الفكري أو بعبارة أخري ما يشوب عملية التحول الديني في بلادنا دون بلاد العالم من توتر وانفعال وعنف: تري هل يرجع الأمر إلي طبيعة التنشئة الاجتماعية في بلادنا؟! أم إلي طبيعة المناخ الدولي والإقليمي المحيط بنا؟ وهل الأمر مقصور في بلادنا علي أبناء عقيدة دون أخري؟ وهل تخرج دعاوي التكفير واتهامات التنصير عن ذلك السياق؟ وهل الأمر مقصور علي الجماعات الدينية أم يشمل غيرها من الجماعات الفكرية والسياسية أيضا؟ وقبل أن نبدأ في الاقتراب من الاجابة عن تلك التساؤلات يبدو من المناسب أن نرصد ظاهرة تستحق التسجيل وتتطلب التفسير, إن كل واقعة من وقائع التحول الديني في بلادنا تتفاعل في تشكيلها عدة أطراف: المتحول وأسرته والطرف المتهم بالدعوة والكنيسة المصرية الأرثوذكسية والأزهر الشريف ثم الحزب الوطني الديمقراطي باعتباره المسئول عن تشكيل حكومة الحزب التي تتولي عمليا مهمة إدارة الأزمة والاعلان عن إغلاق الملف إلي جانب المؤسسات الإعلامية وخاصة القنوات الفضائية المصرية والعربية والأجنبية وبرامجها الحوارية التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة خاصة فيما يتعلق بسلبيات ما يجري بمصر إلا أوسعتها تشريحا ونقدا واستقصاء بالصوت والصورة وكذلك جمعيات حقوق الإنسان وتمكين المرأة التي لا تكف مشكورة عن رفع الدعاوي القضائية وتنظيم وقفات الاحتجاج علي كل ما يمس حرية المواطنين. تري لماذا تحالفت تلك الأطراف جميعا علي إسدال ستار الغموض علي ما جري؟ لماذا لم نشاهد علي فضائياتنا مقابلات تليفزيونية مع المخطوفات أو الخاطفين؟ لماذا لم نشاهد ولو محاولة مجرد محاولة للاتصال بواحد أو واحدة من هؤلاء؟ وإذا كان تحقيق ذلك صعبا بالنسبة لقنواتنا العامة والخاصة, لماذا لم تقم بالمهمة تلك القنوات المسيحية والإسلامية التي تنطلق عابرة للحدود؟ ولماذا لم يصدر الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم بيانا واضحا يعلن تفاصيل ماجري؟ لماذا فضل الحزب وحكومته تحمل الاتهامات الموجهة اليهم بالتخاذل والتهاون بل وبانتهاك المقدسات؟ لماذا لم تعلن حكومة الحزب الوطني عن حالة المختطفات اللاتي تم اختفاؤهن من جديد مفضلة تحمل تهمة ان سلطاتها تقف عند أبواب الأديرة والكنائس لاتتخطاها وهي تهمة غليظة كفيلة وحدها باشعال نيران الفتن الطائفية؟ ولماذا أحجمت الكنيسة من جانبها عن كشف أسماء من أقدموا علي جريمة الاختطاف والمطالبة بتقديمهم للعدالة ؟ ولماذا مازالت الكنيسة محجمة عن السماح بظهور أي من المختطفات علي شاشات التليفزيون؟ ولماذا فضلت الكنيسة تحمل مايوجه اليهم من اتهامات قاسية بالاحتجاز الجبري للمختطفات بعد استعادتهن؟ خلاصة القول اننا حيال مايمكن ان نطلق عليه تحالف الحفاظ علي استمرارية الغموض, ورغم مابين اطراف هذا التحالف من تناقضات لا تخفي علي أحد, فقد اجتمعت كلمتهم علي استمرار الأمر غامضا, ولم يقدم أيهم علي كشف مالديه من أوراق ووقائع تاركين لكل من شاء أن يفسر الأمر كما يشاء, فتتضارب التفسيرات لتضيف وقودا جديدا يكفل اشتعال النيران من جديد لتسارع أطراف التحالف الي اغلاق الملف بنفس الطريقة وندور في نفس الدائرة المغلقة من جديد. يعلمنا التاريخ ان تحالف اطراف متناقضة الأهداف والرؤي والمواقف إنما يقوم حول هدف يعلو تلك التناقضات جميعا, ولا يعني ذلك بالضرورة أن تلك الأطراف قد التقت بليل حول مائدة مستديرة لتبلور ذلك الهدف, فثمة تحالفات عديدة عرفها التاريخ جري فيها الاتفاق دون حاجة للقاء, بل يكفي ان يري كل طرف أن هذا التوافق يخدم هدفه النهائي ليلتزم به في صمت ونماذج تلك التوافقات الصامتة قائمة حولنا بالفعل لاتحتاج الي بيان. تري ما هو ذلك الهدف الذي توافقت حوله أطراف تحالف الحفاظ علي الغموض؟ ليس أمامنا في ظل التزام تلك الأطراف بحرماننا من المعلومات, سوي أن نجتهد في البحث عن التفسير, واذا ما التزمنا بأقصي قدر من افتراض حسن النية, فقد نرجح أن ذلك التوافق قد تم بين قيادات الأطراف الداخلية علي الأقل تحت شعار الحفاظ علي الوحدة بأي ثمن وقد يبدو ذلك الشعار مقبولا مادام الثمن معقولا وربما كان الأمر كذلك في زمن مضي, ولكن مع تغير الأحوال. واكتساب ردود الفعل طابعا مؤسسيا شاملا يتخطي حدود الأسر والأفراد بل وقد يتخطي حدود الوطن في ظل عصر العولمة والثورة الإعلامية فقد اصبح شعار الحفاظ علي الوحدة الوطنية بأي ثمن يهدد عمليا بالقضاء علي تلك الوحدة بل يدفع الوطن إلي الانفجار, ولم يعد كافيا ولا مقبولا أن يكتفي الجميع كلما وقعت واقعة بتكرار فتح مخزونهم الفكري الذي يؤكد وحدة عنصري الأمة وسماحة الإسلام والمسيحية. بل المطلوب هو فتح مخزونهم المعلوماتي لو صح التعبير وهو أمر مؤسسي يعجز عنه فرادي المثقفين. إننا كثيرا ما نسمع من أطباء الجراحة تحذيرا من إغلاق الجرح قبل التأكد تماما من تنظيفه وإلا ظل التلوث ينخر في الجسد وتتضاعف تأثيراته رغم ما يبدو علي السطح من أن الجرح قد التأم وموقفنا شبيه باغلاق الجرح الفكري دون تنظيف يضمن التئاما حقيقيا مع التسليم بأن عملية التنظيف عملية مؤلمة وتتطلب في كثير من الأحيان إعادة فتح الجرح الذي يبدو ملتئما لتنظيفه من جديد تري ألم يحن الوقت بعد لفتح الجرح لتنظيفه؟ ويبقي في النهاية أن نعود إلي تساؤلنا الأساسي من جديد: تري لماذا تشوب عملية التحول الديني في بلادنا دون بلاد العالم ذلك القدر الهائل من التوتر والانفعال والعنف؟