كتب بريجنسكي مستشار الرئيس الأمريكي جيمي كارتر للأمن القومي مقالا في الثمانينيات عما أسماه' قوس التوتر' الممتد من أفغانستان مرورا ببحر قزوين, وصولا إلي البحر المتوسط, وباب المندب جنوبا و أرجع توترها إلي أن الدول القائمة بها متعددة الأديان والطوائف. و رأي أن إزالة ذلك التوتر يقتضي تحويل تلك الدول إلي دول أحادية الدين والطائفة, وحدد عددا من الدول المحورية التي يجب تعديل كيانها الموحد ومحاولة تقسيمها و منها العراق والسودان والسعودية ومصر. في نفس التوقيت تقريبا نشر عوديد يينون_ODEDYENON_ الصحفي الإسرائيلي صاحب العلاقات الوثيقة بوزارة الخارجية الإسرائيلية مقالا بعنوان' الإستراتيجية الإسرائيلية في ثمانينات القرن العشرين' أشار فيه إلي أن استعادة إسرائيل لشبه جزيرة سيناء تعد هدفا له أولوية سياسية و اقتصادية وأنه مما ييسر تحقيق هذا الهدف اهتزاز الوضع الداخلي الناجم عن تصاعد حدة الانقسام بين المسلمين والأقباط مما يساعد علي تمزيق مصر إلي أقاليم جغرافية مستقلة في ظل حكومة مركزية ضعيفة وسوف يتطلب ذلك بالضرورة إدخال تعديلات جوهرية علي ترتيب دوائر الانتماء لشعوب تلك الدول بحيث يتراجع الانتماء للجماعة الوطنية ليحتل ذيل القائمة, و يتم تصعيد الانتماءات الأخري العرقية و الدينية و المذهبية لتحتل الصدارة. ومضت سنوات لنطالع في مجلة القوات المسلحة الأمريكية في عددها الصادر في يوليو2006 مقالا بعنوان' حدود الدم' يطرح فيه كاتبه الجنرال المتقاعد رالف بيتر خارطة جديدة تلغي الحدود القائمة, وتقسم الدول الحالية بحيث تتحول الدولة الواحدة إلي دويلات وتنشأ دول جديدة وتكبر دول صغيرة وتصغر دول كبيرة. و قد توافق نشر ذلك المخطط علي الكافة للكافة بالعربية و الانجليزية و الفرنسية والعبرية, مع توالي أحداث الفتنة الطائفية من حادثة الخانكة في العام1972, إلي حادثة نجع حمادي في مطلع هذا العام. و رغم تلك النوازل و رغم ذلك المخطط المنشور, فإننا فيما يبدو أننا لم نربط بشكل كاف بين ما تضمنه وما يجري في بلادنا, بل و ما نشهده بأعيننا من أحداث دامية تجري في العراق و فلسطين والسودان واليمن والصومال مما يرجح أن ذلك المخطط المنشور و المعلن للكافة يجري تنفيذه بالفعل. لقد حسم الرئيس مبارك مؤخرا حقيقة مخاطر و أدوات الفتنة الطائفية التي تتعرض لها بلادنا, إذ أشار سيادته في خطابه في عيد الشرطة إلي'المخاطر المستمرة للإرهاب والتطرف, واتساع دائرة الفكر السلفي وجماعاته, والدعاوي المغلوطة لتكفير المجتمعات' مرجعا ذلك إلي' غياب الخطاب الديني المستنير من رجال الأزهر والكنسية' مطالبا بخطاب' ديني يدعمه نظامنا التعليمي وإعلامنا وكتابنا ومثقفونا, يؤكد قيم المواطنة, وأن الدين لله والوطن للجميع, و ينشر الوعي بأن الدين هو أمر بين الإنسان وربه, وأن المصريين بمسلميهم وأقباطهم شركاء وطن واحد' و كان سيادته قد قال في كلمته منذ أيام بمناسبة الاحتفال السنوي بعيد العلم في مصر' أسارع بتأكيد أن عقلاء هذا الشعب ودعاته ومفكريه ومثقفيه وإعلامييه يتحملون مسئولية كبري في محاصرة الفتنة والجهل والتعصب الأعمي و التصدي لنوازع طائفية مقيتة تهدد وحدة مجتمعنا وتماسك أبنائه'. التكليف إذن موجه إلي مفكري و مثقفي مصر و أحسبني منهم للتصدي لنزعات التعصب و الطائفية و التمييز الديني; و إذا كان علي الإعلاميين و رجال الدين و عامة المثقفين أن يوجهوا كلماتهم في هذا الاتجاه إلي أبناء الأمة, فإن علي المشتغلين بالعلم الاجتماعي مهمة إضافية بحكم تخصصهم تتمثل في توظيف علمهم في تشخيص أبعاد تلك الفتنة تشخيصا علميا ميدانيا دقيقا, وتكوين قاعدة معلومات ترصد و تتابع ما يطرأ علي الرؤي المتبادلة بين عامة المسلمين و عامة المسيحيين في مصر, دون التركيز فحسب علي قمة جبل الجليد أي أحداث الفتنة الطائفية; فمثل تلك الأحداث لا تنفجر فجأة, بل إن لها جذورا تضرب في أعماق عمليات التنشئة الاجتماعية لتمتد إلي مؤسساتنا الإعلامية والتعليمية والدينية بحيث يصبح المناخ محتقنا جاهزا للاشتعال الطائفي فور حدوث الشرارة; و من ثم فإن توفير مثل تلك القاعدة من المعلومات يساعد علي استباق أحداث الفتنة الطائفية قبل وقوعها, فضلا عن معالجة جذورها الدفينة ولعلي لا أتجاوز حدودي حين أقول باعتباري ضمن من تتجه إليهم دعوة بل تكليف السيد الرئيس: إننا نحن المشتغلين بالعلم الاجتماعي نواجه عقبة تحول بيننا وتلبية هذا التكليف بالشكل الذي تقتضيه الأمانة و الوطنية, و أن انصراف غالبية المشتغلين بالعلم الاجتماعي في بلادنا عن إنجاز تلك المهمة الوطنية, لا يرجع لنقص في حماسهم, أو لقصور في أدواتهم العلمية, بل لحاجز منيع يحول بينهم و بين اقتحام مثل تلك الموضوعات التي اعتبرها البعض حساسة إلي حد تفضيل تجاهلها علي الاقتراب منها. إننا نفتقد حتي الآن وجود مركز علمي, أو وحدة علمية, أو حتي برنامج بحثي يهتم باستطلاع الرؤي المتبادلة بين عامة المسيحيين و المسلمين في مصر المحروسة, و متابعة تحولات تلك الرؤي, بحيث نستطيع التنبؤ بالأحداث قبل وقوعها, فضلا عن رصد مدي انتشارها أو تراجعها, و لا يوجد لدينا إحصاء رسمي لأعداد المسيحيين في مصر, بل جرت العادة علي أنه حتي في البحوث الاجتماعية الميدانية التي تجري تحت مظلة المركز القومي للبحوث الاجتماعية و الجنائية و كذلك في الغالبية العظمي من رسائل الماجستير و الدكتوراه أن يتم استبعاد بيان الديانة من صحيفة البيانات. و قد سبق لي منذ سنوات عديدة في منتصف الثمانينيات أن تقدمت إلي المركز القومي للبحوث الاجتماعية و الجنائية بخطة تفصيلية لإنشاء وحدة علمية لدراسة أنماط السلوك الديني للمصريين و صدر بالفعل قرار بإنشائها, و قبل أن تبدأ الوحدة نشاطها أعيد تنظيم وحدات المركز و اختفت من علي خريطته تلك الوحدة. لقد أدي ذلك إلي أن أصبحت معلوماتنا جميعا دون استثناء إما معلومات انطباعية شخصية, أو معلومات أمنية مجزأة تختص بتفاصيل كل واقعة علي حدة, وأصبحت جهودنا في مقاومة التطرف والفتنة جهودا يحكمها رد الفعل بحيث تتصاعد مع الحدث وتخفت بخفوته. تري هل ما زال ممكنا تدارك الأمر؟ نرجو ذلك!