الرسام الراحل جودة خليفة كان يكرر دائما هذا السؤال: حماة الحمى يا حماة الحمى دول يبقوا مين بالضبط؟ بيقعدوا على أنهى قهوة؟ ولو كان حيا اليوم لسره أنى اقتربت من الإجابة عن سؤاله الخالد ولسألنى: من الذين تقصدهم عندما تشير إلى الوطنية المصرية؟ لقد قلت فى مقال سابق أن الوطنية المصرية أثبتت صحة وجهات نظرها حول عدد من القضايا الخطيرة وأن العالم تجاوب بعد لأى مع وجهات نظر الوطنية المصرية فما المقصود ب القوى الوطنية المصرية بالضبط؟ لقد دارت مناقشات عامة كثيرة حول قضايا مثل الإصلاح من الداخل أم من الخارج وحول مصير القطاع العام وحدود الليبرالية الاقتصادية، وانتهى الأمر إلى وضع سياسات عامة عبرت عن التوجه العام للقوى التى شاركت فى هذا الحوار العام، وبأسلوب انتقائى فرز الانفعالى فى جانب والعقلانى فى جانب، ووازن بين المكاسب والخسائر وبين العاجل والآجل، ثم انتهى إلى صنع القرار نيابة عن الناس وليس بمشاركة كافية منهم، وهذه صياغة محدودة للقوى الوطنية تجعل لها عنوانا ما كان لجودة خليفة يجرؤ على الاقتراب منه لو كان حيا. قال لنا محمد حسنين هيكل بعد هزيمة يونيو إن بلادنا كانت تدار بديمقراطية الموافقة حيث تقرأ القيادة الوطنية الموقف الشعبى من قضية ما ثم تصدر قرارا يراعى المصلحة الوطنية ويكون قريبا من هذا الموقف الشعبى قدر الإمكان. وانتظرنا عندما قال هيكل هذا الكلام أن ننتقل من الديمقراطية بالموافقة إلى الديمقراطية بالمشاركة، وحتى نضع هذا الكلام فى سياقه الصحيح لابد أن نشير إلى جملة أمور: أن جمال عبدالناصر أعاد إنتاج فكرة الحزب القائد التى جسدها حزب الوفد القديم (1918 إلى 1953) بالطريقة الوحيدة الممكنة فى الظروف التى حكم فى ظلها. إن الفكر السائد حتى هزيمة يونيو كان ناصريا دولتيا يرى أن أجهزة الدولة بأقصى اتساع ممكن لسلطاتها هى المكلفة باتخاذ القرار نيابة عنا. وأن الفكر الذى بدأ يتقدم الصفوف بعد هزيمة يونيو، والذى أسفر عن وجهه فى مظاهرات الطلاب فى 1968 كان دينيا دولتيا يرى أن أجهزة الدولة بأقصى اتساع ممكن لسلطاتها هى المكلفة باتخاذ القرار نيابة عنا بعد عملية استئصال للدولة الجاهلية وإنشاء الدولة المؤمنة. وعندما أفسح الرئيس المؤمن المجال لهذا الفكر لم يكن يسعى إلى مواجهة الناصريين أو الشيوعيين، كما يقال بل كان يجارى تيارا دوليا وإقليميا يمزج الدين بالسياسة، وهو تيار بدأ فى عهد دوايت ايزنهاور واكتسب قوة وحيوية فى عهد المؤمن الأمريكى الرئيس جيمى كارتر الذى كان يراه السادات فلاحا مثله أيضا. لم يتولد العنف الذى روعنا فى الثمانينيات والتسعينيات من غلطة تكتيكية ارتكبها سياسى لا يفهم ماذا يصنع، لقد كان السادات يدرك ما يفعل: كان يضع مصر فى قلب النسق الإقليمى لتوجه دولى قوى يخلط السياسة بالدين بأشكال لا زالت تفاجئنا كل يوم بالجديد المبتكر. ولأن مصر تصنع كل شىء بطريقتها فقد اختلطت الوطنية المصرية بالقومية العربية، بالإسلام السياسى، وكل هذه التيارات تؤمن ب الدولتية أكثر من إيمانها بأى شىء آخر، ورغم ذلك فالحاجة ملحة إلى شكل من أشكال التداول لاينقلنا إلى أى نموذج من نماذج الديمقراطية الغربية لكنه يعطى نظامنا السياسى القوة المطلوبة لمواجهة أخطار داخلية وخارجية يستشعرها الجميع. أشار الرئيس إلى اقترابنا من التحولات الكبرى عندما طالب الأحزاب بتجهيز مرشحيها لمعركة الانتخابات الرئاسية فى 2011 ويمكن أن نقول أن تزويد الأحزاب بالقوة اللازمة للنهوض بما طلبه منها الرئيس يقتضى تطعيم الحكومة بممثلى التيارات السياسية التى تعبر عنها هذه الأحزاب لإعداد البلاد لمرحلة تاريخية جديدة. لقد تعهد تونى بلير فى شهادته أمام لجنة التحقيق فى المسألة العراقية بأن تتبع بلاده أسلوبا جديدا عند هدم الدول وإعادة بنائها فى منطقتها، وهذا تصريح بأن قوى الهدم مستمرة فى عملها ولا سبيل إلى المواجهة إلا بحشد قوى الوطنية المصرية حماة الحمى على نحو ينهى سياسات الاستبعاد والديمقراطية بالموافقة لنتصدى للأخطار السياسية الخارجية والداخلية ولأخطار التحول المناخى التى قد تضع بلادنا فى ظرف لم تعرفه منذ قيام حضارتها القديمة.؟