منذ عدة أسابيع كتبت مقالاً بجريدة الاهالي حول دور القوي الليبرالية في المسار الثوري ، وذكرت في خاتمة المقال أنها إما أن تختار بين الدولة والسلطة أو الدولة والثورة ، وهذا الاختيار هو ما سيحدد مستقبل ثورتنا في الأشهر القادمة . وبالفعل يمكنني التأكيدعلي أننا نقف علي اعتباب مرحلة جديدة مهيأة بفعل عوامل كثيرة لإحداث نقلة نوعية في الوعي الثوري ومتطلباته وما ينبغي انجازه سريعا حتي يمكننا من إدراك الافق المنشود. وهذا التحول النوعي هو تحول الوعي المصري خاصة لدي النخبة من أن تحالف الاسلام السياسي الحاكم لا يستهدف اجهاض الثورة المصرية فحسب، بل العبث بالجينات الوراثية للمدنية المصرية ، التي أنشأها محمد علي وعمقها اجتماعيا عبد الناصر، بمعني أن مصطلح ” أخونة الدولة ” هنا ليس مجرد محاولة تسكين رموز تحالف الاسلام السياسي في مواقع هم غير مؤهلين لها، ولكنه أيضا إعادة النظر في الوضعية التاريخية التي اكتسبتها القوي الحية وصناع الفكر والرؤي الاجتماعية الأكثر انحيازاً للعقل والمجتمع ، بحيث تصبح هذه القوي خارج دائرة الفعل الوطني أو المشاركة في رسم تصورات المستقبل، ويهدف هذا القطع المعرفي المعاصر الي استعادة مشروع الخلافة ولو في اطارعربي سني ، بمعني تأسيس منظومة سيسيوثقافية جديدة بنفس علاقات التبعية السابقة ، وربما يضاف إليها أعباء جديدة تتعلق بإدارة صراع سني شيعي ينطلق من القاهرة والرياض في مواجهة الهلال الشيعي. اجماع متأسلم نحن هنا أمام نظام حكم يحمل خصائص تمييزية واضحة المعالم ..فهو تحالف اسلام سياسي ، وتوافق مؤسسي بين قوي هذا التيار تقوده جماعة الإخوان المسلمين ، ومدعوم من جميع رموز الفقه والفكر المتأسلم في مصر والعالم العربي،أي أننا إزاء مشروع توافرت له حالة اجماع داخلي حتي من الجماعات الجهادية التي تنتهج التغيير بالسلاح. وهو ، من ناحية أخري ، تحالف لا يسعي الي بناء دولة قوية لأن التحديات الخارجية والداخلية تفرض عليه مساحة تمدد محددة ومستوي تقدم محدود ، ومن ناحية ثالثة وأخيرة ، هو مشروع يتحول من مرحلة الشعار الديني السياسي الي مرحلة تلبية مطالب المجتمع ، وغالبا سيدير هذه المرحلة منفرداً بعيداً عن مساعدة أو تضامن أي من القوي الأخري ، ومن ثم تكون تجربته خالصة النسب إليه ،وشديدة التوتر والتخبط سياسيا واجتماعيا ودينيا واقتصاديا .مما سيقوي من احتمالات تشدده علي الناس وقمعه للحريات العامة والخاصة .. الوعي المزيق في المقابل سنلاحظ أن قدرة القوي المعارضة المواجهة لتحالف الاسلام السياسي بدأت في النضج والتبلور تأكيداً لمقولة ماركسية قديمة أن الواقع هو الذي يحل مشكلات الفكر لدي الانسان .وتمثل هذا النضج الثوري لدي التيار الليبرالي مثلا في احساسه أن ما يقوم به تحالف الاسلام السياسي ليس معاداة لمطالب الثورة فحسب ، بل وتغيير في قواعد الوعي الاجتماعي باتجاه ايديولوجية وهابية تعتقد أن الوعي المزيف بأولوية متطلبات الآخرة أهم من متطلبات الحياة الدنيا ، إضافة الي شعور يتنامي بعدم رغبة التحالف المتأسلم في التعاون أو التداول السياسي.لقد ترسخ – بناء علي معطيات – لدي رموز هذا التيار وخاصة المثقفين والمفكرين والأدباء والفنانين أن دولة الطهطاوي وقاسم أمين ومحمد عبده وطه حسين .. الخ في خطر حقيقي ..هذا الوعي الليبرالي دفع المسار السياسي نحو تحول نوعي جديد انتج كيانات حزبية وسياسية كالدستور وأئتلاف الأمة المصرية – وهما في تقديري – انجاز ثوري تم في زمن قياسي وبدرجة حماس واقدام غير معهود تاريخيا علي هذا التيار المهم ، سيضيف بالتأكيد للمعارضة المصرية قوة وزخما نظراً لما يمثله العديد من أنصاره من ثقل سياسي وثقافي واعلامي في دعم مشروع الوحدة الوطنية والحريات العامة وحقوق الانسان . بيد أن نجاح هذا التيار سيتوقف علي مدي قدرته ومرونته مع التيار اليساري الوطني في انتاج حالة ثورية حقيقية تغطي مساحات واسعة من جغرافية الوطن السياسية ، ولا يتوقف عند حدود الاصلاحات الدستورية فحسب. قوي اليسار القادمة يبقي الجانب الأهم – من وجهة نظري – في المعادلة المصرية ، وهو السعي لبناء جبهة يسارية وطنية مشتركة تضع اليسار المصري رقماً مهما في بنك الثورة. وبعيداً عن التفاصيل ، سنرصد هنا أهم ملامح هذا المشروع الجبهوي..حيث يتكون من جناحين الأول هو التيار الشعبي الذي يقوده حمدين صباحي ، وقيمة هذا التيار تكمن في قدرته علي سحب جزء كبير من رصيد تحالف الاسلام السياسي الحاكم ليس علي أرضية الخيارات السياسية أو الاقتصادية فقط ، ولكن انطلاقاً من الحالة الجماهيرية العامة التي صنعها حمدين لنفسه في الفترة الأخيرة ، بقدرته علي إدارة التنافس السياسي بقدر كبير من المرونة. والجناح الثاني هو القوي المنظمة لليسار المصري وعلي رأسها التجمع والتحالف والاشتراكي المصري والشيوعي .وقيمة هذا التيار الناشيء أنه سيتقدم بقضية العدالة الاجتماعية خطوات أبعد للامام ، مما سيحدث نتيجيتن مهمتين ، الأولي اكتشاف وهم العدالة الشكلية لدي التحالف الحاكم ، والثانية ، انضواء كثير من فئات الشعب تحت مظلة هذا التيار اليساري الناشيء .. ما أود التأكيد عليه هنا ..هو أنه ليس في صالح أحد اندماج التيار الشعبي مع التيار اليساري اندماجا تاما .. فلكل منهما مهمة ووظيفة محددة ولكنهما في نهاية الأمر يتكاملان بالضرورة. يمكننا القول إذن أننا أمام مشهد سياسي أصبح أكثر وضوحا .. ” تحالف من الإسلام السياسي يحكم .. قوي ليبرالية تتوحد .. قوي يسارية تدخل بقوة في المشهد السياسي بعمق جماهيري واسع لأول مرة “. اصطفاف واضح المعالم جدا بين دولة دينية بمرجعية وهابية ودولة مدنية بمرجعية حداثية. أو بين مشروع سياسي يقدم خدمات للنظام الامريكي في مقابل تأمين حكمه سواء كانت هذه الخدمات علي حساب فتنة طائفية أو مذهبية أو علي حساب الاستقلال الوطني .. وبين تيار مقاوم آخر يدافع عن الحرية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني.