« واحدة من المفارقات للحرب في أوكرانيا هي أن موارد الكرملين المالية تستفيد في كل مرة تتعمق فيها الأزمة»، هكذا علقت جريدة الجارديان على آثار العقوبات الاقتصادية على اقتصاديات الدول الغربية. ففي المرتبة الثانية بعد المملكة العربية السعودية، تعد روسيا ثاني أكبر مصدر للنفط الخام، وهي المصدر الأول عالميًا في الغاز الطبيعي. فالبلدان المنتجة للنفط والغاز بقدر أكبر مما تستهلكه تتمتع بمكاسب غير متوقعة عندما ترتفع الأسعار العالمية-وروسيا من بين هذه البلاد. وعلى العكس من ذلك، تعاني البلدان التي لا تتمتع بالاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة عند ارتفاع الأسعار بسبب ارتفاع تكاليف الأعمال التجارية وتقلص القدرة الشرائية للمستهلكين. وهناك خلاف في الداخل الأمريكي حول ما إذا كانت الولاياتالمتحدة مكتفية ذاتيًا في مجال الطاقة، لكنها بالتأكيد أقل اعتمادًا على الواردات مقارنة من الاتحاد الأوروبي، الذي يحصل على 40 ٪ من احتياجات الغاز الطبيعي من روسيا. وبالتالي تكون أوروبا أكثر عرضة للخسائر مع توقف إمدادات الطاقة الروسية من الولاياتالمتحدة، وهذا يساعد على فهم لماذا كانت ألمانيا أكثر حذرًا من واشنطن بشأن توسيع نظام العقوبات الغربية ليشمل النفط والغاز – على الأقل في الوقت الحالي. خصوصًا بعدما ساهم تصريح أنتوني بلينكن، وزير خارجية جو بايدن، الأسعار إلى ارتفاع حاد بقوله إن الولاياتالمتحدة وحلفاءها يفكرون بنشاط في إضافة النفط والغاز إلى قائمة العقوبات، قال المستشار الألماني أولاف شولتز إن الطاقة الروسية "ضرورية" للحياة اليومية للأوروبيين. كما صرح بوريس جونسون, رئيس الوزراء البريطاني, موضحًا أن تصعيد العقوبات لتشمل النفط والغاز لا يمكن أن يحدث بين عشية وضحاها. وجاء التحذير في الوقت الذي بلغت فيه تكلفة البنزين الخالي من الرصاص في ساحات المملكة المتحدة لما يزيد عن 2 يورو للتر الواحد حسب جريدة الجارديان. وأعرب صندوق النقد الدولي عن قلقه من تأثير أسعار الطاقة على الاقتصاد العالمي الذي لا يزال يتعافى من جائحة كوفيد-19، مع الخوف من أن التأثير على الطلب في البلدان المستهلكة للطاقة لن يقابله زيادة في إنفاق منتجي الطاقة. وتقول إن العواقب الاقتصادية "خطيرة للغاية" بالفعل. في بداية عام 2022 ، كان الاتحاد الأوروبي يدفع 190 مليون دولار يوميًا مقابل الغاز الطبيعي الذي يتلقاه من روسيا، ولكن بحلول نهاية الأسبوع الماضي ارتفع هذا الرقم اليومي ليصل إلى 610 ملايين دولار. كذلك الأمر بالنسبة للنفط، حيث وصلت تكلفة برميل خام برنت لفترة وجيزة في التعاملات المبكرة إلى 139 دولارا-على مسافة قريبة من أعلى مستوى قياسي لها عند 147 دولارا للبرميل في عام 2008. وفقا لبعض التقديرات، تدفع أوروبا 285 مليون دولار يوميًا مقابل النفط الروسي في الوقت الحالي. قال نيك بارسون، رئيس وحدة الأبحاث في شركة الطاقة المتجددة توماس لويد، إنه فيما يتعلق بالجنيه الإسترليني، كانت أسعار النفط (غير المعدلة للتضخم) أعلى الآن مما كانت عليه قبل 14 عامًا، بسبب انخفاض سعر الصرف. في عام 2008 ، بقيمة الجنيه 2 دولار ، كلف برميل النفط 73 دولارا ؛ بسعر الصرف الحالي البالغ 1.31 دولار، يكلف 106 دولارات للبرميل. يبقى أن نرى ما إذا كانت روسيا تجني بالفعل الفائدة الكاملة من ارتفاع الأسعار. يقول نيل شيرينج ، كبير الاقتصاديين في مجموعة كابيتال إيكونوميكس، إن العقوبات لها بالفعل تأثير ملحوظ على المعاملات عبر الحدود، بما في ذلك صادرات النفط والغاز التي لم تُفرض عليها العقوبات حتى الآن. والدليل على ذلك، كما يقول شيرينغ، يأتي من فارق الأسعار بين خام برنت – أحد المعايير العالمية – وخام الأورال ، وهو مزيج التصدير الروسي الرئيسي. قبل الغزو، تداول الخام البسيط بخصم متوسط يتراوح بين 2 و 3 دولارات للبرميل، لكن ارتفع السعر لاحقًا إلى ما يقرب من 25 دولارا للبرميل. مع وصول الروبل إلى مستويات منخفضة جديدة مقابل الدولار الأمريكي، تشعر روسيا بالفعل بتأثير العقوبات. ولكن الغرب متأثر بنفس الدرجة كذلك – "في الرواية الاقتصادية من التدمير المؤكد المتبادل" بتعبير شيرينج. بدائل لسويفت يري كثير من المراقبين أن روسيا كانت تستعد للعقوبات الغربية القادمة بعد العملية العسكرية في أوكرانيا, بما فيها العقوبة الأهم, أو النووي الاقتصادي بتعبير الإعلام الغربي, وهي الخاصة بمنع روسيا من استعمال نظام سويفت للمراسلات البنكية, ومن ضمن هذه الاستعدادات كانت الخطوة الروسية في إطلاق الروبل الرقمي. وقبل ذلك, تحديدًا في عام 2014، قام البنك المركزي الروسي بإنشاء نظام تبادل الرسائل الخاص به بين البنوك – نظام لنقل الرسائل المالية (sfps) ليحل محل سويفت. اعتبارًا من عام 2020، بلغ عدد رسائل برنامج الأمن الخاص بروسيا 13 مليون رسالة، في حين أن أكثر من 400 مؤسسة مالية دخلت ضمن برنامج الأمن الخاص الروسي. لجذب أعضاء جدد، خفض البنك المركزي تعريفات النظام إلى حوالي نصف الرسوم بالمقارنة بسويفت—وفي عام 2019 اقترحت غرفة الحسابات إلزام جميع البنوك العاملة في روسيا—بما في ذلك الشركات التابعة للبنوك الأجنبية-بالاتصال عبر النظام الروسي. ومع ذلك، تقتصر العمليات على ساعات العمل في أيام الأسبوع، على عكس سويفت، الذي يعمل لمدة 24 ساعة، ويحد النظام من حجم الرسائل إلى 20 كيلوبايت فقط. وبسبب القيود التي يفرضها برنامج الأمن الخاص الروسي على التبادل النصي، أصبح نظام الدفع بين البنوك الصينية عبر الحدود((cips بديلا أكثر واقعية للبنوك الروسية بسبب النفوذ الاقتصادي للصين. على الصعيد الدولي، يتمتع الرنمينبي (العملة الرقمية التي يعتمد عليها النظام الصيني) بإمكانيات أكبر من الروبل ليصبح عملة منافسة للدولار الأمريكي. دوليًا, حصة الرنمينبي أقل من 2 في المئة من المدفوعات العالمية حتى الآن, ولكن يمكن أن تصبح برامج الاستثمار المشترك بديلا إقليميا لسويفت: في أوراسيا، على سبيل المثال. لتصبح هذه العقوبات بلا تأثير دائم لأن البنوك الروسية وجهت جزءًا من مدفوعاتها عبر الصين. ومع إعلان خروج شركتي ماستر كارد وفيزا كجزء من العقوبات على روسيا, قال البنك المركزي الروسي يوم الأحد إن بطاقات الائتمان التي تصدرها البنوك الروسية باستخدام نظامي الدفع فيزا وماستركارد ستتوقف عن العمل في الخارج بعد 9 مارس، مضيفًا أن بعض المقرضين المحليين سيتطلعون إلى استخدام نظام يونيون باي الصيني بدلًا من ذلك. وجاء إعلانها بعد أن قالت شركتا المدفوعات الأمريكية فيزا وماستركارد إنهما تعلقان عملياتهما في روسيا وانضمامهما إلى قائمة الشركات التي تقطع علاقاتها التجارية مع روسيا.وأضاف البنك المركزي أن العديد من البنوك الروسية تخطط لإصدار بطاقات باستخدام يونيون باي، وهو نظام قال إنه تم تمكينه في 180 دولة. في حين أن العديد من البنوك الروسية تستخدم بالفعل يونيون باي، والبعض الآخر بما في ذلك سبيربنك (SBER.MM وأضافت أن بنك تينكوف يمكن أن يبدأ في إصدار بطاقات مشتركة مع نظام المدفوعات المحلي في روسيا مع يونيون باي. أدت العقوبات إلى تعاون روسي صيني وثيق في القضايا المالية والمصرية كما نرى, أولاً عبر استخدام نظام التبادل الصيني (cips) متعاونًا مع النظام الروسي (sfps), ومع اعتماد البنوك الروسية على بطاقات يونيون باي بديلاً عن فيزا وماستر كارد. الطرق التي تؤدى إلى تخطي روسيا للعقوبات متنوعة إذًا, كما تعمق التعاون الصيني الروسي, كل ذلك مضافًا إليه حقيقة أن روسيا قامت ببناء احتياطيتها من النقد الأجنبي إلى ما يزيد عن ال300مليار دولار. كما قللت من اعتمادها على العملات الأجنبية, لكنّ البنك المركزي لا يزال يمتلك أكثر من 16 في المائة من حيازاته بالدولار في نهاية يونيو 2021، بانخفاض عن 22 في المائة قبل عام. وهو ما دعا محللي جريدة فورتون العالمية, جيريمي كان وأندرو ماركردت, إلى القول بأن الاحتياطي الفيدرالي الروسي قادر على تمويل الحرب الروسية حتى نهايتها رغم العقوبات الغربية التي تتضمن إزالة البنوك الروسية من على نظام سويفت. جميع هذه التطورات تشير إلى تخلى تدريجي, مدفوعًا بالأحداث الأخيرة, نحو ظهور عدة قنوات مالية بديلة عن النظم القائمة على الدولار الأمريكي, حيث يرى مراقبون, أن العقوبات الاقتصادية دفعت روسيا إلى مزيد من التعاون مع الصين, بل وساهمت العقوبات في تخطي العقبات التي عرقلت التعاون الاقتصادي بين البلدين سابقًا. الاقتصاد العالمي بهذا الصدد يرى موري أوبستفيلد، أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا في بيركلي, أن هذا الوضع الاقتصادي العالمي الجديد يمهد لعصر ما بعد العولمة :" أنت تزيل هذا الجزء الكبير من الاقتصاد العالمي (الاقتصاد الروسي) وتعود إلى الوضع الذي كان لدينا في الحرب الباردة عندما كانت الكتلة السوفيتية مغلقة إلى حد كبير". ويقول بيتر زنغاري رئيس البحوث بشركة إم إس سي آي" أن الأوضاع الاقتصادية ما بعد كورونا, فرضت على عديد من الدول أن تسيير اقتصاديتها الخاصة بعيدًا عن الأعراف الخاصة بالاقتصاد المعولم, ربما يكون هذا إيذانًا لنمط اقتصادي عالمي جديد يدخل حيز التنفيذ". ويقول بيتر مولنجر المحلل الاقتصادي بجريدة الواشنطن بوست بهذا الصدد:" العالم يغلق الباب على فصل لم يكن له أساس فكري قوي( أي العولمة)..لن يكون هو نفسه. ما سنراه هو عملية فك الارتباط بين اقتصاديات كبرى اعتمدت على بعضها البعض لعقود. لكنها ستكون عملية بطيئة، خاصة في حالة الصين". وهو ما يعيدنا للحديث الذي تطرق إليه بعض المحللين ووسائل الإعلام عن عصر التكتلات الاقتصادية الاقليمية الكبرى, الذي أثارته اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة التي دخلت حيز التنفيذ هذا العام, والتي ضمت معظم دول شرق آسيا من اليابان حتى أستراليا. هل يكون الاقتصاد العالمي في المستقبل قائمًا على التعاون الإقليمي في تكتلات كبيرة على حساب العولمة الكاملة التي شهدنها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي؟