رواية وحيد الطويلة الجزء الثالث 8 " الدهب لو يجرى إيه، برضه باينه اللمعة فيه" لم أزل بعد في الطريق، أفكر أن أرتاح قليلاً وليجر ما يجري، مازال هناك وقت، الذهاب للعزاء من وسط البلد يكاد يكون جحيماً حقيقياً، عملت حساب الوقت والطريق لكنني لم أتوقع هذا، كانت فكرة صائبة أن تحركت في ميعاد مبكر جداً، سائق الميكروباص بجلباب بلدي يضيق عليك الطريق، يرمي بسيارته حتى تظن أنه سوف يصعد سقف سيارتك بسيارته، لو جاء في بال الياباني الذي اخترع هذه السيارات أنها سوف تُستخدم بهذه الطريقة ما صنعها من الأساس وربما انتحر. أكاد أصيح في وجه السائق: حاسب يا بني آدم، ألمح نظرة شماتة وربما استهزاء في عين أقرب راكب، أتراجع بحسرة، هذه النظرة أعرفها جيداً، من يركب الميكروباص كما لو كان حاقداً على من لديه سيارة خاصة. في إحدى المرات التي ركبته فيها كنت أشعر أن هناك لمعة انتصار وتشفٍ في عيون الركاب حين يتخطى الميكروباص كل السيارات الخاصة بجانبهم، كأن هناك معركة دائمة لا تنتهي، ولا تعرف بالضبط من الذي أشعل هذا الفتيل، ربما أشعلها الذين يأكلون ولا يتركون الفتات حتى لغيرهم. مرة قال ضابط يفتي في كل شيء: إنهم ينقلون نصف ركاب القاهرة ومن حق السائقين أن يشعروا بالزهو، عرفت فيما بعد أن هذا الضابط لديه سيارتان تعملان على أحد الخطوط، تناوب على قيادتها أحياناً أمناء شرطة يعملون لزيادة دخلهم، لا تدفع مخالفات ولا يوقفها أحد مهما ارتكبت من أخطاء، قال آخر: إنها لعبة القوة، من يملكها ينتصر ويدوس القانون، من الأصغر حتى الراس الكبيرة، قانون واحد. الآن تمر برأسي صورة الضابط أمين، لا أتذكر بقية اسمه، أكاد ألمحه، أتخيل أني ألمحه، كان ضابطاً في الأمن المركزي، لم يكن راضياً بدوره، لا يمر يوم دون أن يدخل علينا ببشر تعاركوا مع بعضهم البعض، أو اختلف أحدهم مع سمكري سيارات أو ميكانيكي على الأجرة، وفي اليوم الذي تعز فيه الخناقات، يقبض على مشتبه بهم على مزاجه، يأتي بهم للتحري عنهم. كنا نشكره ونفحص، وأحياناً لا نفحص، لا ينقصنا وجع دماغ، كان تقديرنا أنه باحث عن دور، دوره الذي يقوم به لا يكفيه، يضحك ضابط ويقول: إنه يتمرن على المباحث من الآن، لا بد أن أقاربه يضغطون عليه، لا يرضيهم دوره، لا يقبض على أحد ولا تظهر سلطته، الناس لا يحترمون إلا القوي، وربما تأثر بذلك فأيقظوا خصيتيه. المصيبة أنه كان يأتي في يوم تالٍ ليسأل عن مصير من أحضرهم. قلنا إنه مجنون، وضحكت أنا، قلنا إن عسكريته منفوخة بعض الشيء، قلنا وقلنا حتى جاء يوم استفرد به بعض المسجلين الذين يعرفون جيداً أنه لا له في الثور ولا الطحين، أعطوه علقة متينة لم يستطع فيها أن يستخدم سلاحه وهربوا، خطفوه منه ثم رموه له حين أحسوا أنهم نجوا. أحضرناهم له، شبع فيهم ضرباً لكنه لم يعد بعد ذلك. آه يا زمن الانصاص، فيه إيه حصل للناس، تعمل حاوي تحضّر وتخاوي، عشان تتعلم م الناس، والدهب لو يجري ايه، تبقى برضه اللمعة فيه. حين يأتي ذكر الذهب أفكر في البنت التي أحببتها، اشتريت خاتماً لكنني لم أقدمه لها، تمنيت لو أهديته لها رغم رحيلها. حين تأتي سيرة الذهب أتذكر عبقرينو، ولد من ذهب، عاش تحت إبطي، لم أبخل عليه بمعلومة ولم يبخل عليَ بعقله ولا روحه، كل يوم كان يزداد لمعاناً وبريقاً عن اليوم الذي قبله. صحيح أنني لم أكن ضالته، كان يبحث عن نفسه أولاً وأخيراً، عن حلمه أن يكون ضابطاً، حققته له وقبلته عندي دون كشف هيئة دون وساطات، يضع صورة لي في محفظته وأخرى في قلبه، رد لي الجميل مائة مرة، عندما كنت أعيره ليعمل مع ضباط آخرين لم يك يتحرك خطوة دون أن يستشيرني. رجلان وامرأتان احتالا على اثنين من وافدي سياحة الجنس، ذهبوا معاً لشقة لإتمام المهمة والنتيجة معروفة، تم تخديرهما وسلب ما معهما، لم يتركوا لهما شيئاً إلا السراويل الداخلية. كأنني أرى الآن لمعة عينيه. لم تكن القضية عندي، كانت مع ضباط آخرين تأخروا في بحثها، كل يوم قضية من هذا النوع، والجدول مزدحم بما هو أهم، الضباط يقضون نصف يومهم في الشوارع، وتراجع الأمن العادي لحساب السياسي. اتخذ قراره، أن ينزل وحده، بساقين غير مترددتين، قبض على المرأتين، وتبقي الرجلان. متهمان معهما الأشياء المسروقة لكنهما عبر المديرية إلى مديرية أخرى، استطاع بحركة بسيطة بتتبع هواتفهما أن يحدد موقعهما، قضية جاهزة وسهلة تحتاج فقط للسرعة والمروءة. لحقه ضابط برتبة صغيرة، حين أخبرني كنت أعرف أن الضابط لن يعبر معه، الضابط يتّبع القواعد، تلك مديرية أخرى لها ضباط آخرون، وسيأخذون القضية لأنفسهم خاصة إن مكان الفاعل معروفاً. سلاح ذو حدين للضابط، يلعب في ملعب غير ملعبه ولهذا تراجع، ضابط مؤخرته خفيفة، لا يستطيع أن يتجاوز التعليمات، النظام يكبله، ومن فوقه يركب عليه، كله راكب فوق بعضه، ولا يستطيع أن يأخذ قراراً دون كبيره، الشغلانة التي تُعلم الإقدام تُعلم الجبن أحيانا. هذا كلام لا يقنع عبقرينو ولا يرضي شهوته، لا تعنيه القواعد ولا تُلزمه، هو ملتزم فقط بضالته أينما حلت وربما يضرب نفسه بالنار لو وافق على قرار الضابط وعاد. الضابط الدكر عزيز، موجود، لكنه يحتاج أن يكون مغامراً ليخلق فرصته، مقامراً يستعين بالحظ، وإذا كان المجرم يقول وهو يسرق: استرها يا رب فلم لا يقول الضابط: استرها يا ستار. الوقت سلاح ضابط المباحث وإلا طار الصيد من العش وهرب الخنزير من الوكر. .. "أنا لو مكانك سأعبر الحدود وأقبض عليهما مهما كانت النتائج، وإلا طارت القضية برمتها". أخذ قراره، مضى وحده بسيارته وسلاحه، نعم سلاحه، لا تسألني عزيزي القارئ كيف! فقط تخيل معي لمعة بياض عينيه، لمعة غزيرة تضيء حين كنا نعثر على أول خيط، تعرف ساعتها أنه دخل دائرة الإثارة وأنه ليس ذاهباً للقبض على متهم أو حل لغز قضية، بل ذاهب بشراهة لمعانقة امرأة يشتهيها بقوة، ذاهب إلى حبيبة يعشقها وتعشقه بعد أن تاهت منه لسنوات وعرف مكانها في الليلة ذاتها. أتخيل الآن، الجزء اللاسع في دماغي هو ذاته الملسوع في دماغ عبقرينو، كنت أربطه بالواقعة كأنها ملكه، أضيء له الكشافات فيصبح هو من يرى، أشحن له بطارياته، أعطيه دوراً، دور الفتى الأول في الفيلم، نعم، كنا نتعامل مع أية قضية كأنها فيلم سينمائي، أنا أعرف الموضوع الأساسي للفيلم، لكن هو صاحب التفاصيل الصغيرة، لا يترك تفصيلة، هو المونتير الذي يختصر اللقطات الزائدة ويركب الباقي معاً، يلضم المشاهد ينقل واحدة مكان أخرى ليشد الإيقاع، ينفضها واصلاً إلى هدفه بإيقاع سريع وتناغم غريبين، وحين نخرج معاً كنت أرى واحداً آخر، أرى إحساسه بذاته يفيض على الأرض. أنا من أعرف الكبيرة، لكنه يعرف الحواري، مرة بعد مرة يلقط ويستفيد، لم يكن يرى عيباً أن أوجّهَه حتى بعد أن صار خبيرا، لم أبخل عليه بسر، لست من أولئك الضباط الذين يعتقدون أن كل معلومة سر حربي من أسرار الدولة، وفي اللحظة الموعودة أمرر التمريرة الأخيرة لتبدأ الإثارة. كنت أضع الجميع معي، الكل يفكر تحت قدميه، عبقرينو وحده كان يفكر خارج الصندوق. عبر إلى مديرية أخرى، تأكد من المكان سلفاً عبر هاتفه واتصالاته، قبض على الولدين، لم يكن يقول الرجلين، وضعهما في قيد حديدي واحد، وقام بتقييد الأيدي الأخرى في شماعة الملابس داخل السيارة حتى كادت أذرعتهم أن تنخلع، وعاد بهما وحده. ما لا أستطيع أن أنساه أنه في اللحظة التي يفك فيها اللغز ينظر إلى بنطلونه، فكما بدأت الحكاية بالإثارة فلا بد أن تنتهي بالأورجازم. يعود لبيته، يغير ملابسه وإلى أقرب بار يشرب فيه كأس التحقق، يهاتفني بعد الكأس الرابعة، يقول جملة واحدة: "يا باشا، أنت مجلس الأمن كله". هل أشعر بالفخر الآن لأني صنعته، لا أعرف. نسجته ونسجت ناجح على كفي، لدي جناحان أطير بهما، لم يخدمني الحظ في وظيفة أحبها أو ممارسة الفن طول حياتي، لكنه وقف بجانبي فيما لم أختره. احنا الحظ وناسه، والعلم وكراسه، والأدب الموجود بالدنيا احنا في الأصل أساسه. أمر في هذا الشارع الفاتن بوسط البلد، حجر ينطق بالفن في كل بناية، ربما لا مثيل له في أية مدينة، لكنه يبدو قديماً وقبيحاً جداً. كل حاجة في هذه البلد قديمة، موتور عتيق، الماكينة والتروس أيضاً قديمة، كل ما يفعلونه تغيير الزيوت فقط، لكن عبقرينو كان الترس الجديد، حين ظهر صنع انقلاباً في اللعبة كلها، لعب دور الفتى الأول، وأنا اخترت لنفسي دور المخرج في هذا الفيلم الجديد. يشرح المخرج للممثل دوره، أحياناً يقوم بتمثيل المشهد أمامه، لكن الممثل المبدع يقوم بإعادتها بروحه هو، يقبض على الشخصية من قلبه أو من عقله كما كان يفعل أحمد زكي، ولا يقلد المخرج. الضباط قد يقلدون رئيسهم بالحرف، يخافون الوقوع في الأخطاء، ينفذون التعليمات بحذافيرها، عبقرينو يتجاوز ذلك، لا تعنيه التعليمات ولن يقلد أحداً ولا يستطيع أحد تقليده، نبت وحده ليس له كتالوج، يعرف أن اللعبة أساساً بلا قوانين ولا موديل، وأهلاً بالفن كله. نعم هو فيلم جديد، نحن مثل الممثلين بالضبط، يلعب الممثل دوره على مدى شهرين أو ثلاثة وربما عاماً، وفي النهاية فإن الفيلم يكون ساعتين تقريباً، نحن مثله نلعب شهراُ أو عاماً لنحل لغز قضية، وفي الآخر نحكيها في ساعتين، لكن الذي يمسح التعب هو لذة الوصول إلى نهاية الفيلم، إلى نهاية القضية، اللحظة التي نسمع فيها تصفيق المتفرجين والضحايا. أعرف أنني لم أكن ضابطاً عادياً وأنني كنت أنتظر نظرة الارتياح في عين ضحية، لم أكن أبحث عن مقابل سواها، هذا يليق بي تماماً وعلى مقاسي، وإن لم يكن على مقاس ضابط سواي، حتى ولو لم يأخذني الضباط على محمل الجد: حظه في رجليه، معه مساعدون من الخارج، يضحك ويغني ويرسم! هنالك لحظة أعرفها جيداً، ربما أكثر من كل الضباط المحترفين، حين أرسم لوحة كبيرة في ليلة ثم تستغرق تفصيلة وحيدة مني-نعم تفصيلة واحدة- شهوراً، ربما قلت لك أيها القارئ إن صلاح جاهين كان يستغرق ليلة بكاملها في رسم أنف سعاد حسني، أعرف هذه اللحظة التي أجد فيها حلاً لتلك اللمسة البسيطة والتي تعني أنني أنهيت لوحتي، حينها أتنفس بصوت عالٍ كأنني في آخر خطوة من الماراثون، أحياناً أدور في الغرفة وأرقص، ودون أن أشعر وكمن مسه ذيل جني أرمي بالفرشاة عالياً إلى سقف الغرفة أفعلها دون ترتيب في كل مرة كأنها المرة الأولى، يمكنك أن تتأكد من ذلك بنفسك لو زرت غرفتي، ستجد أن السقف قد تم نقشه وحده، حتى أنني حين أعدت دهان الشقة لم أسمح لعامل أن يقترب من السقف رغم إلحاح عامل سمعته بأذني يقول لزميله: يظهر عليه رجل مجنون فعلاً. أعرف ذلك حين أرى عبقرينو يغادر القسم ببنطلون مبقع، حين نصل إلى نهاية قضية نقيم فرحاً، نخطر إلى مكاننا المفضل، إلى محروس صاحب عربة الفول في شارع جانبي من شوارع ملتوية، قدرة فول طاب فولها وذاب في بعضه، لكأنه كمرها في النار منذ غياب الملك فاروق الأول الذي لم يأت له ثانٍ، لكن الشعرة الأساسية هي في الباذنجان المخلل الذي لن تجد له مثيلاً في العالم، يحكي محروس أنه يضعه داخل فخارة وهو مازال نيئاً دون أن يسلقه، يرميه داخل المش ويغلقه لعام، لتأكله بقايا المش القديم، يطيب داخل مشيمة المش، يشرب منها وتغذيه، حتى إذا استوى خرج للعالم، لو ذقت قضمة واحدة منه لأكلتك لثتك بعنف، تأكل بعضها فلا تجد منه فكاكا قبل أن تنهي طبقين من الفول وربما ثلاثة، تشعر بالإثارة من طعمه وتصل للأورجازم بعد الطبق الثاني. نعم، نعم، عبقرينو هو هذا الباذنجان المخلل بطريقة خاصة وفريدة. نعم، لا بد أن يأتي معي للعزاء، أنا لا أتوقع بالضبط رد فعل لناجح رغم فقده لابنه الذي مات في مشاجرة، طعنه من طعنه وسط جمهرة، وربما ينتظرني الآن أنا وعبقرينو لنفك لغز القضية، مع أنه يعرف أن الذي يموت في المشاجرة يموت فطيساً، ربما هذا سبب مضاعف لحزنه وهو الذي فك معي مئات الألغاز لا يجد من يفك له لغز ابنه. لا بد أن يذهب عبقرينو معي، لكن هاتفه لا يرد، لعله نائم أو غارق في حل ألغاز مجلة ميكي. أكاد أضحك، أتذكر أنه أقسم أن يترك غوايته في اليوم الذي أترك فيه المباحث ولعله فعل. الأمر بالنسبة له ليس وظيفة، إنها غواية ولا أحد يعرف متى تتوقف الغواية، ربما امرأة ما في مكان ما تعرف، كتلك الفتاة التي أحببتها وتوقفت غوايتها فجأة لسبب لا أعرفه أو لا أريد أن أعرفه. انتظرني قليلاً، إذا كنت تريد أن تعرف ما يفعله عبقرينو بالتحديد، وكيف يفكر أن يطبخ الموضوع خارج الحلة التقليدية، ويعرف متى يستخدم حلة البريستو، حلة الضغط فانظر ما فعله مع سيد كبابه. كبابه هذا نشال عالمي، هو الذي ابتدعوا من أجله المثل: الذي يسرق الكحل من العين، يده أخف من خمشة قطة عاشقة، كما أنه طيب القلب، يرسل لضحاياه الأوراق الشخصية والمحافظ والبطاقات والرخص عبر البريد، يستخدم في ذلك بطاقة مزورة ويحتفظ فقط بالمحافظ الأنيقة، مشهور لكنه لا يسقط متلبساً، وقع حين قاده حظه التعس لنشل محفظة ابنة مدير الأمن. وعليه، وقعنا عليه، يُعلّق المحافظ التي ورثها غيلة على حائط، يضع مجده أمام عينيه كأنها نياشينه التي حصل عليها جراء خدماته الجليلة. حين نزلنا عليه كالقضاء المستعجل لم يستطع الهرب رغم أن نافذة مفتوحة كانت بجواره، بهدوء شديد خلع كل سراويله وبانت عورته كي ندير وجوهنا- أنا أدرت وجهي- ليستطيع القفز دون أن يلحقه أحد. قبل أن نطبق عليه أخرج من تحت شفته موس حلاقة، نصف شفرة وراح يقطّع خصيتيه بالطول كأنه يلعب في قطعة من الزبد، بملامح مستكينة لم تتغير كأنه يقلي بيضتين: "والله لتروحوا في داهية يا ظَلَمَه، سأتهمكم بالتعذيب". أمسكه المخبرون، كان الدم يسيل وهو جامد بابتسامه ساخرة، هنا تقدم عبقرينو بنفسه للمطبخ، صنع كوباً من الشاي وأتى به في الوقت الذي كنا نستجوبه لنعرف أين محفظة ابنة المدير. تقدم عبقرينو، رمى الشاي الساخن على خصيتيه، ثم حشاها بثفل الشاي، أدخله بنفسه: سيطيب حالاً يا سعادة الباشا المعاون. لم يكن يصرخ، كان يعوي بصوت مشروخ يكاد يعلو على الأذان. ظن أن عبقرينو هو رئيس المباحث، دلنا على مكان المحفظة، ثم التفت ناحيته وقال: والله كنت سأرسلها لك يا سعادة الباشا. …… لا، لا، ليست هذه هي الواقعة، يبدو أنني خرفت واختلطت على الوقائع والأسماء، دخلت خيوط دماغي في بعضها وربما ساحت. سيد كبابه هذا لم يكن مجرماً خفيفاً، ولا مسجل خطر عادياً، لم تكن قوته أنه يبيع المخدرات، بل كانت في أنه يبيعها من نافذة بيته والأمر معروف للجميع، وإن كان يداري ويتحسب، حين طب عليه معاون المباحث أمسك بأنبوبة الغاز، وضعها أمامه وبهدوء أخرج الولاعة، عاد الضابط مخذولاً مطأطأ الرأس أمام مخبريه، قدّر أنه أمام واحد مختل، واحد فاجر، قدّر أن انفجار الأنبوبة سيطيح به مع معاونيه فآثر السلامة، عاد على عقبيه وألم الفضيحة على وجهه. بعدها لم يعد كبابه يبيع خفية، راح يبيع في الشارع، على عينك يا تاجر، وعلى عينك يا حكومة. من لا تكسره عين الحكومة يكسر عينها، ومن لا تتبول عليه الحكومة يتغوط عليها. فردَ طاولة في الحارة، راح يقطع الحشيش ويبيع كأنه يبيع حلاوة طحينية أو يعطي أقراصاً لإزالة المغص، غطته لمعة التحدي والفخر، راح وجهه يلمع، مدهوناً بزيت الانتصار، وبرم شاربه لأعلى. فردَ طاولة واضطجع خلفها، كان لا بد أن نواجهه لا أن نقبض عليه، لم يرتفع شارب كبابه فقط بل التوى لأعلى والتوت معه كل شوارب الحارة، حتى أن الحارة نفسها صارت ملتوية، النجاح بالفساد معدٍ أكثر من النجاح بالاستقامة. المواجهة ضرورية حتى تعود أرض الحارة مستوية على حالها الطبيعي. بخطفة واحدة وجدنا أمامه، عزلنا الحارة عنه وتركنا لهم ثقوباً يتفرجون عليه منها، بسرعة البرق خلع بنطلونه ولوح بالحزام في الهواء، وفي مشهد لم يخطر ببالي نزع لباسه الصغير الذي يغطي عورته، ورغم ذلك فاجأناه حتى لا يركبنا: اخلع كل حاجة، أنت كلك عورة. .. تعال اركبني يا سعادة الباشا. سحب نصف شفرة حلاقة من خلف أسنانه، اعتقدنا للحظة أنه سوف يقطع شرايينه، لكن ابن الهرمة أمسك بخصيتيه وفي لمح البصر شق كيسه حتى فتحة الشرج، بسهولة متناهية، سكين في زبد. أعترف أنني وجلت للحظة، وتخيلت عندما أفقت كيف ستقطع اليد الخصية في اللوحة، وأين سيذهب الدم المتدفق الذي يسيل من كل جوانبها. كنا نتقدم نحوه جماعة، دائرة، ممسكين بأيدي بعضنا البعض، ومسدساتنا يقظة، ألقى الموسي، ربطناه في كرسيه لنحمله وسط الحارة كما هو، وإلى سيارة الشرطة. ساعتها غمزني عبقرينو من الخلف، نادى بصوت قاطع على بائعة الشاي، العجوز، أحضرتْ كوباً من الشاي الساخن، رماه على خصيتيه ووضع الثفل داخل كيسه. كان يصرخ، صراخاً أشبه بالعواء، ولم أعرف ساعتها هل كان الشاي حلواً أم مراً. لا تعرف من أين تعلم عبقرينو هذا، كل ما أعرفه أنه أفضل عندي خبرة وذكاءً من أي ضابط. شربنا الشاي في القسم، وضع عبقرينو الثفل لكبابه مرة أخرى ليساعده على الاعتراف. أعلن بعدها اعتزاله اللعب في فريق المخدرات وربما ذهب لنشاط آخر لا أعرفه. سمعت أنهم أحضروه بعد اعتزاله ليحكي أمام الضباط تاريخه، ليستفيدوا من خبرته، تجربة عملية تعلمهم ما يجب أن يتفادوه أو يفعلوه. قال بثقة خبير دولي: إن السجن هو مفرخة الجرائم، يحشرون النشال مع بائع المخدرات جنب بائعي البودرة والقتلة، ينقلون خبرات بعضهم لبعض، ليعودوا من جديد بجرائم جديدة وربما بأسماء جديدة. كان يحكي على المنصة كيف تاب عن المخدرات، المزاج، أبو صليبه وأبو مفتاح وحضّر كفنك، كيف تاب عن مذاق الثفل في قلب الخصيتين. في نهاية المشهد صرّح: أنا تبت توبة نصوحاً، والتائب من الذنب حبيب الرحمن. قالها كشيخ معمم على منبر ثم أضاف: حبيب الرحمن وحبيب المباحث. 9 لا بد أن تتناول معنا العشاء يا سعادة السفير، وفي اليوم الذي تختاره. .. يسعدني، أين ومتى؟ في القسم طبعاً، بعد منتصف الليل. إجابة صادمة، توقع أن تدعوه للعشاء في مطعم، أو على الأقل في نادي الشرطة المشهور بأناقة مطعمه وحلاوة أكله، بدت ملامحه غير مصدقة كأنها دعوة غير حقيقية. تتذكر أنه تأخر في الإجابة، بدا حائراً خجلاً، الموضوع كأنه مزحة، تهريج من النوع الرخيص، لكنه رد بلباقة تشبه ملامحه وأناقته، ووافق. لا تتذكر الآن سبب معرفتك بهذا السفير الأنيق، بل تتذكر، حين سرقت شقته وهو في المصيف مع عائلته، اكتشف البواب الواقعة وأبلغك بها، شاهد السارق لكنه لم يشك فيه، أخبرك أن هناك واحداً كان يتردد على العمارة، وادعى أنه يزور شخصاً فيها، لكنه لم يأخذ خوانة، وأن الصدفة وحدها كشفت أنه لم يكن يزور ذلك الشخص، اختار اسماً حقيقياً من لوحة السكان في مدخلها، وسرق شقة السفير الغائب على مهل. رحت مرة بعد أخرى تستجلب ملامح السارق من أقواله، وكعادتك رسمته، جاءت الصورة مطابقة تقريباً وتم القبض عليه. حين عاد السفير من مصيفه وجد المسروقات في انتظاره واللص في المباحث، مر عليك ليشكرك وطلب أن يشرب معك شاياً حينها داعبته وأنت تشير إلى ربطة العنق التي يلبسها: ربطة العنق هذه من تصميم فنان تشكيلي. .. وكيف عرفت؟ يبدو للناظر لأول وهلة أنها ليست من تصميم شركة أو مصنع. .. لماذا؟ في بعض البلاد تطلب شركات من فنانين تشكيليين أن يصمموا لها ربطات العنق ثم تقوم بتنفيذها، اللمسة الحائرة داخل ربطة العنق يا سعادة السفير وراءها انسان حساس لا ماكينة، لذا هناك رسامون يعملون مع شركات تصميم الأزياء. .. وهل سنتناول العشاء في القسم فعلاً؟ نعم.. وأنت تشير بإصبعك: وعلى هذه الطاولة. تتذكر جيداً أن السفير تأهب عند انصرافه ليرمي شيئاً داخل درج مكتبك، وأنك أمسكت يده بعنف ونظرت إليه بعتاب واضح، تلومه بصمت وتقول بصوت خفيض قاطع: نحن نصرف على الحكومة يا سعادة السفير. وأنه لملم خجله وحين لبى الدعوة قدم لك كيساً به ربطة العنق التي أعجبتك. .. هل العشاء في القسم فعلاً؟ تتذكر أنه بعد أن يهدأ ليل القسم من صخب المحاضر المتبقية من نوبتجية المساء، كنت تجمع الضباط للعشاء معاً، ثم يعود كل واحد إلى عمله. العشاء في معظم الأيام من عند رحمي البقال المعروف بأسعاره الرحيمة على أفراد القسم، يتقاضى نصف قيمة المطلوب وأحياناً أقل، كان يصر على أن يرسل العشاء مجاناً للقسم كله مرة في الأسبوع لكنني أرفض، يفعل ذلك لأنك أنقذته مرة من يد رئيس دورية غشيم التقطه وهو عائد لبيته ليحرر له محضر تحرِ، لم يكن هذا الضابط يشاركنا الطعام، مغرم بالأكل الثقيل، مدافع منتصف الليل، مفجوع بالممبار والأكل السمين من الناصرية وكبدة الدرب الأحمر المقلية في الزيت: "الأكل الخفيف هذا لأولاد الذوات، المعدة الخفيفة لا تعمر الطاسة" وهو يشير لرأسه، ولا تقبض على اللصوص. بدا الطقس غريباً على السفير. سفير يتناول عشاءه على مائدة حوله ضباط في قلب قسم الشرطة، وأنت تحب أن يشاركك العشاء ذلك الضابط العفيف القادم من المنيا، والذي تعرف أن راتبه بالكاد يكفيه، لكنه فاجأك باعتذاره، وحين استغربت الأمر قال: لقد أكلت اليوم ثلاثة ساندويتشات شاورما. قالها بعفة الراضي، تكاد تقبل رأسه. تصر أن يشاركك دوماً ذلك الضابط الذي يربي إخوته بعد وفاة أمه وأبيه في حادث سيارة، والذي يطبل على بطنه حين ينتهي ويقول لك بامتنان ونزق: والله لو الأم تريزا نفسها لن تفعل أكثر مما تفعل. انصرف الرجل بعد الرابعة صباحاً، استمتع بالحكاية، بغرابتها، ورأى من الحوادث ما قرت به عينه، وراح يحكي عن الإنسانية خلف أسوار القسم مع أن العشاء كان عادياً، والمأمور الذي كان ماراً بالصدفة ابتسم ثم نادى عليك بعيداً عنهم: قلت لك ألف مرة: ضابط مثلك يجب أن يعمل في أمريكا، يا بني أنت لا تنفع عندنا. جذبني من ياقة القميص وقال من بين أسنانه: "فيه ناس ولاد وسخة دواهم ضباط مرقعين" تتمشى في القسم، تنادي عبر جهاز الارسال على الأمناء في أماكن خدماتهم خارج القسم، كي تتأكد أنهم مازالوا يقظين لم يغلبهم النوم من طول الليل وتعبه. تتذكر أنك في الصباح بعد أن خلعت حذاءك ولبست شبشباً في قدميك لتشرف على تنظيف القسم، لا تعرف إن كانت جملة المأمور سباً أم مدحاً، هبطتَ للمحبس كي تقوم بتسليم المحابيس لحلمي الحرامي مندوب الترحيلات، والذي يقوم بعرضهم على النيابة بعد أن ينظف جيوبهم وجيوب ذويهم من نقودهم إن كان معهم نقود، وأنك حين صعدت السلالم عائداً إلى مكتبك وجدت شاباً أمامك مباشرة في الصالة لكن عينك استقرت على امرأة بالسواد في ركن الصالة، بملامح مرعوبة تنتفض، يكاد ارتعاشها يفر من هيئتها على الأرض، وأن الشاب تقدم منك يسألك عن أحد المحبوسين. لقد سلمتهم منذ قليل لسيارة الترحيلات، الحق بهم. .. والنبي يا ابني أريد أن أراه. جاءك من زاوية بعيدة صوت المرأة بملامح مجعدة من أثر السنين، وربما من فزعة القبض على ابنها، كنت تقترب، ترى الأم تريزا نفسها حين تحاوط أطفالاً يتامى من أثر الحروب أو جوعى من أية مصيبة. كنت تنادي بل تصرخ على أمين الشرطة لينظر من أقرب نافذة ليتأكد إن كانت سيارة الترحيلات رحلت أم مازالت في مكانها؟ .. والنبي يا ابني. تنادي بلهفة وبصوت عالِ حاد على الأمين تستعجله، بل تستنفره أن يسرع. العربية مشت يا باشا. .. والنبي يا ابني أشوفه، أشوفه بس. برجاء يفتت الحجر تقول لك. والله يا أمي لو …… لا تعرف ماذا تفعل. أنقذك ابنها من وجعك عليها حين تقدم منها وهو يغمرها بحضنه ويشير إليك: صدقيه، صدقيه، الباشا يقول لك: يا أمي. لكن، أياً من هذا كله لن يعجب أباك. سيأتيك صوت الأمين على جهاز الاستقبال: والدك، سعادة الباشا الكبير في انتظارك في القسم. لا تعرف ماذا يريد هذا الرجل بالضبط، يطاردك في البيت بتعليماته، إلى متى سيطاردك هذا الرجل! يريد أن يعرف كل كبيرة وصغيرة، كم مرة تركت مكتبك وذهبت للحمام! ماذا فعلت طوال اليوم في القسم؟ لا تجد عذراً لأسئلته، لكنك أحياناً تقول لنفسك إنه يريد أن يحقق من خلالك ما لم يستطع تحقيقه، ويريد أن يطمئن على أن عرق الشرطة النظيف يسري في دمك، أحياناً تقول أن عسكريته المنفوخة تجعله ينسى أنه خرج على المعاش، يتعامل مع وظيفته كمطهر لجروح الأمة وأحياناً لكيّها إن احتاجت، يتدخل في شئون الجيران، يعنفهم على أخطائهم حتى في موضع ركن السيارات في الجراج، يتساءل عن الرائحة الشهية لسمك مقلي ثلاث مرات في الأسبوع تتسرب من بيت أحد الجيران، لكنه يمد لهم يداً، يتقدم لحل مشاكلهم والناس ضعاف أمام سطوة البوليس، يخشون أن يذهبوا للأقسام خشية أكثر من يوم الحساب، و يا ويله يا سواد ليله الضابط الذي يعمل ليلاً في القسم الذي نسكن في دائرته، حين تقع مشكلة لأحد في العمارة يطلبه طوال الليل، يقعد فوق دماغه ولا يترك له دقيقة لإنجاز أعمال أخرى. يتدخل في كل شيء، يكاد يدخل تحت فانلتك الداخلية، حذاء غطاه التراب بعد يوم عمل طويل، أو قميص اتسخت ياقته رغم أنه يعرف أنك تجوب شوارع القاهرة الملوثة. .. والدك في القسم عند السيد المأمور. يأتيك صوت الأمين على جهاز الإستقبال. إلى متى سيطاردك هذا الرجل؟ لا يعبأ بما تقوله له: إن الضباط يتندرون من خلفك ويتقولون عليك بأن والدك مازال يعتقد أنك لم تفطم بعد، تحتاج إلى مصاصة وحفاضة، مع أنك تملك من الخبرة في ثلاث سنوات أكثر مما رآه هو طيلة خدمته باستثناء واقعة تل أبيب. امتلك أحدهم الشجاعة حين واجهك: عليك أن تمنع والدك من الزيارات الكثيفة، أنت لست موظفاً في الصرف الصحي، يجب أن يعرف أنك فطمت على مائة حادثة يشيب لها الشعر، امنعه حتى لا يقولون عنك: الضابط أبو بزازة. ورغم قسوة الكلام إلا أنك تعرف أنه صحيح، لذا سارعت بتغيير الحوار: أفكر أن أبحث له عن عروسة. .. أنت تمزح، ابحث له عن وظيفة، مدير أمن في شركة، أو مدير إداري كي يحل عن سمائك. كان يقيس حجم مؤخرتك بعينيه، ولولا بقية من حياء لأمسكها بيديه: تعرف عمل الضابط من حجم مؤخرته، إذا زادت فمعناها أنه يجلس طول اليوم على كرسي، وإذا نقصت فذلك يعني انه يقضي ليله ونهاره في مطاردة المجرمين. كان متأثراً بمقولة وزير باطش نقل كل ضباط المكاتب دفعة واحدة وقال قولته الشهيرة: إنهم يربون مؤخراتهم. ولأن مؤخرتك نقصت كثيراُ مع نقص وزنك من كثرة الاجهاد والعمل كان يبدو منشرحاً، يتصور أنك تطارد تجار المخدرات في كولومبيا الشقيقة، وحين عرف أنك تقضي معظم أيامك واقفاً على قدميك مثل شجرة عجفاء في الشارع، تشريفاتي لمرور ضيف أو وزير، وأنك تقضي اليوم بطوله حين يمر السيد الرئيس، تقف قبلها بخمس ساعات وبعدها ساعتين حتى انصراف العساكر هاج وماج وقال للمأمور: أريد أن يكون ابني ضابطاً حقيقياً، يقبض على المجرمين، يتعلم البوليس على أصوله لا أن يقف في الشارع كحارس على مبنى. .. ابنك من أفضل العناصر، ونحن نسند له المهام التي تشرف القسم والداخلية بأكملها. والنداء يتكرر: سعادة الباشا والدك عند السيد المأمور. لا تكترث، أنت واقف هنا منذ ثلاث ساعات أمام جامع عمر مكرم في انتظار وصول جثمان الفنان الكبير عماد حمدي، تلتقط من أفواه مَن حولك مصمصة شفاههم، كيف عاش فقيراً مهملاً من الجميع في سنواته الأخيرة. جنازة فقيرة لو حضرها عُشْر الذين أسعدهم لامتلأ ميدان التحرير عن آخره، جنازة تافهة مقارنة بجنازة مدير أمن القاهرة لو توفي الآن! ولولا الكابات السوداء والنجوم والنسور التي تلمع فوق أكتاف الضباط، لولا المهووسين الذين يحضرون جنازات الفنانين ليشبعوا عيونهم من مؤخرات الفنانات أو الفرجة عليهن بدون ماكياج لكانت فضيحة. وأنت لن تنصرف من مكانك إلا بعد أن تنتهي مراسم الصلاة والتوديع، لن تتحرك حتى تغادر العربة التي تحمل الجثمان، ثم تعدُّ القوات المساعدة لك من أمناء وعساكر، تتأكد أنهم ركبوا شاحناتهم العتيقة وانصرفوا. حينها، بساقين متعبتين تشتكيان إلى الخالق بؤس الوظيفة التي تكرهها وبؤس ما أنت فيه، تعرج على أقرب مقهى لتشرب لك رأسين من المعسل، تفاجئك على الحائط صورة عماد حمدي وهو يحمل الجوزة، يدخن بشراهة والدخان يندفع من أنفه في فيلم ثرثرة فوق النيل، الصورة التي تشبه نهايته رغم آلاف الصور، تبتسم له كأنه أمامك وتدعو له بالرحمة. وحين تعود للمنزل تبحث عن أقرب سرير تستلقي عليه بملابسك، بحذائك، يفاجئك والدك: إما أن تكون ضابطاً حقيقياً، أو تستقيل وتعمل محامياً أو أي شي آخر تافه. ودون أن تسأله لماذا؟ يجيب وحده: وضعت رأسي في الطين، انتظرتك عند المأمور بما يكفي جنازتين، حاول الرجل أن يهدئ أعصابي بعد أن عادت كل القوات دونك، لكنه عاجلني بالضربة القاضية وهو يظن أنه يفرحني حين قال: أنت تعرف أن ابنك فنان، نسى نفسه وربما نسي مهمته، وذهب خلف جثمان عماد حمدي ليدفنه بنفسه. 10 إذا كنت تتخيل أنك حين ستدخل السرادق ستجد جهاز كاسيت به شرائط قرآن أو سي دي أو حتى فلاشه يو اس بي، يبدلونها خلف بعضها البعض فأنت واهم، أنت أمام سرادق حقيقي كما أنزل، من النوع الفاخر، به خمسة مقرئين لا يأكل الواحد منهم أقل من كيلو لحم لوحده بين الربع والآخر. كانوا يشيعون عن الشيخ عنتر والشيخ مصطفى وأبو العينين شعيشع أن كلاً منهم يأكل ثلاثة كيلو لوحده وفي غرفة مغلقة. ثلاثة كيلووات وسط كل هذا الهبو الأزرق، وتخيل وحدك كيف ستكون التلاوة. كانوا يهمسون أن الشيخ لا يدخل قبل أن يأخذ التعميرة ويضبط دماغه، وكل شيء مُعَد هنا سلفاً بما يكفي سرادقين. فكروا أن يأتوا بالشيخ مصطفى يشيل الليلة لوحده وهو قادر، لكنهم بعد محاولات اكتشفوا انه مات من زمان. سترى نفراً من أتباع ناجح يطوفون على المعزين بزجاجات البيرة من النوع القديم، بعلب الكانز منها للمستجدين ومُدَّعي الأناقة، ستسمع فرقعة فتح الزجاجات كأنها قنابل صغيرة أو صوت فشنك لسلاح، كمسدس صوت، ستعرف حمية المعركة حين تشاهد الزجاجات الفارغة الرابضة بجوار المقاعد، لا أحد يعيد فوارغه، بل يكدسها بجانبه. من يعب أكثر يشارك أفضل بفمه وقلبه في دفع الحزن عن صاحب الحزن. سيحاوطك اثنان حتى مقعدك، لا تتخيل أنهما مخبران للحكومة ولا تنزعج، كن على يقين من الآن أنهما كذلك بالفعل، وربما لأنك وجه جديد سيحوطك مرشد من ناحية ومسجل خطر من الناحية الأخرى. امض معهما، لا تنبس ولا ترمش، انظر إلى الفراغ كما علمتك، لا يلحظ أحد اتجاه عينيك، وإلى المقعد الذي سيسوقونك إليه اذهب. إن كنت محظوظاُ سيمرون بك على ناجح أولاً، خل مسافة بينك وبينه، حاول، حاول، قبل كتفه على أقل تقدير، من بعيد أفضل، كما يفعلون مع الملوك في الشرق والغرب، قبل كتفه قبلة عمياء كما يليق بعينيه الحزينتين. إن كان هائماً في ملكوته أو يلقي بتعليماته بالعين أو الإشارة لمن حوله سيصحبونك إليه فيما بعد. لا تشعر بالأسى على نفسك إن كانت مقابلته باردة فأنت لست من القبيلة، لكن حضورك سوف يتم الرد عليه بعشرة أمثاله بل وقبل أن تغادر. من المهم جداً ألا يضبطك أحد متلبساً بالدموع، سيظنها أحدهم على الميت أو على الموقف الذي وجدت نفسك فيه وهذه خطيئة كبرى، العيون الدامعة تعني أنك حزين، والحزن مقام صغير على ما أنت فيه، العيون الباكية تعني أنك قد تضحك فيما بعد، ابك بعيون متحجرة، هذا يعني أنك خصيم للموت الذي أخذ الوريث غيلة. إن دعوك للأكل لا تتردد، لا تقل إنك لست جائعاً أو تتعزز، مكرمة الزعيم لا ترد. الضباط الذين كانوا يمرون لتفقد الحراسة على بيت أنور السادات كانوا يأكلون، ولا يستطيع واحد منهم أن يرفض طعام الرئيس المؤمن: سيقولون مر ببيته واحد من شعبه ولم يأكل!، هذه علامة سوداء. الرايات السوداء المعلقة على حيطان السرادق ليست رايات داعش، لا ترتعب، هي رايات الوجع الشديد، ستتأكد من ذلك بعد برهة. صور الشيوخ المعلقة حول صور ناجح لتحيطه بالبركة هي صور الشيخ التيجاني وأبو صالح الجعفري وبقية مشايخ الفرق الصوفية وغيرهم، إن وجدت صورة لا تعرف صاحبها تتوسط الصور برأس مكشوف فاعلم وحدك أنها صورة المرحوم، دخلت بين صور الشيوخ واستقرت، وضعوها على عجل. إذا كنت تتوهم أن المسجلين خطراً بلا شيوخ فأنت واهم، جديد في الكار، ناجح نفسه طبع كروتاً كتب عليها: الشريف ناجح وعندما أخطأ البعض ونادوه باسم شريف أو المعلم شريف قام بتغييرها بنصيحة من مستشاره الثقافي لشئون حشيش الأناقة وكتب: ناجح، من الأشراف. لا تعرف هذا الهوس الذي ضرب مخ الناس- أي مهبول أو واحد مسه شيطانه أو من معه قرشان- ليدعي أنه من الأشراف، حين يصادفك يخرج لك ورقة مثقوبة في مواضع كثيرة، مهترئة توحي بالقدم، تؤكد على نسله حتى النبي أو أبو طالب، ولا يمتد أحد لأبو جهل أبداً رغم كل هذا السواد. اجلس حيث أجلسوك، هنا يمكن أن تشرب فنجاناً من القهوة السادة إن قدموها لك، بين خمس زجاجات وأخرى، حتى لا تطيح على الأرض، أو تقف لتتطوح في أرجاء السرادق وتعملها على نفسك، سيحدث لك ذلك بعد فترة فلا تتعجل، وربما يقف الروسي ليعزف فتغني أنت معه. ساعتها ربما تذهب وحدك دون خشية لتقبل كتف ناجح، ولن يستطيع أحد منعك وأنت في هذه الحالة، ستصل وحدك ولن يعتبر أحد دموع عينيك دموع حزن، بل دموع سُكْر وصهللة. في الماضي كان غير مسموح بشرب القهوة في العزاء، كانوا يعتبرونه دليل عدم حزن بل تشفٍ، مع أنهم يعزمون بها. هذا إن لم أقل لك دليل فرح، حتى أن الجد الأكبر لناجح ومؤسس الجمهورية الأولى للمسجلين قال لمن شرب قهوة في عزاء ابنه بعلو صوته: إن شاء الله أشرب قهوة ابنك قريباً. كان هذا هو العرف، لم يغيره أحد بحكم الأصول، لكن مع دخول الجمهورية الخامسة وجلوس ناجح على العرش تغيرت مفاهيم كثيرة. وها هو ناجح يطبق ما غيره على نفسه أولاً رغم مصابه الفادح. عموماً بعد فنجانين من القهوة، يمكن أن تطلب واحداً ثالثاً طالما سمحوا لك. ارفع عينيك الآن، أمامك أم حواء، تبدو كواحدة من الغوازي، لدنة وظلت لدنة، تصور، رغم ماضيها المشرف، تزوجت من قريب لها في بداية مشوارها، سافر للسعودية بعد شهر واحد، رجته ألا يسافر، كانت ممحونة وتعرف، طار على أمل بالثروة السريعة حتى يرتاحا، هو أيضاً سافر بعين خائفة وقلب مرتعش، امرأة تنز منها الفتنة كلما نقلت ساقاً أو حركت شفتيها، فتنتها تتحدث وتكوي أكثر حين تصمت، أخذ قرضاً، أرسل لها النقود فاشترت شقة تواجه شقتها، كانت قريبة من الجامعة فأجرتها للطلبة القادمين من القرى أو الضواحي البعيدة، تطبخ لهم وتأخذ الإيجار وثمن الطبيخ بأقل قيمة، مع الوقت توطدت العلاقة بينها وبينهم، لكنها لا تدخل عندهم، تدق الباب، تضع حلل الطبيخ وتتراجع، يأتي واحد منهم يأخذ الطعام ويعيد الأواني، إلا فوزي، أسمر ممشوق بجبهة عريضة، تلمع عيناه حين يراها، وتلتهب مزانقها حين تراه لكنه يتصرف كأنه لا يراها. أي واحد يأخذ الأواني ويعيدها إلا هو، التمنع يصنع مسافة من اللهفة، على الأقل من باب الفضول، تبتعد وتقترب، يأكلها رحمها تقاومه، ذاقت طعم المنفلوطي مع زوجها ومع غيره قبله، مشتاقة ومحتاجة، تريده بشغف، لكنها لن ترمي نفسها رغم درجة حرارتها المرتفعة. امرأة وحيدة، لكنها صلبة صارمة، صنعت مسافة كي لا يخدش ظلها أحد، لكن الخيط الذي يظل مشدوداً بعنف لا بد من لحظة يتهتك فتلة تلو فتلة. شيئاً فشيئاً انكسرت الجفوة أو اللا مبالاة بين المالك والسكان، تسربت الراحة والعطف والحنية. في كل حكاية لا بد للبطل المتمنع أن يواجه لحظة تختبر قدره. لم تقاوم كثيراً: .. الحنفية خربت يا أستاذ فوزي، يلزم لها جوان. نغيره. هتقدر؟ الحنفية نتايه ومحتاجه جوان دكر. أشيل القديم واركب واحد جديد ومتين. دخل عندها بسماره القادح، ركب لها الجوان وجاء بالأجوان، صبت الحنفية وأطفأت النار، جوان يحرق وماسورة تبرد.. وعلى هذا المنوال. فوزي بجلده اللامع، بهيئة خشنة، بعينين سوداوين أكثر من سماره، يغطي شعره كل جسده، كادت لتعده شعرة شعرة، كان يذهب إليها خلسة، وعندما تيقنت أن الجميع عرفوا، هاجوا وارتاحوا، هاجوا وسكنوا، حملت الطعام لهم، ولفوزي في سريره. لم يؤلم أقرانه ما يرونه، أصبح عادياً مع الوقت، كان يوجعهم صوت حركة السرير في الغرفة، يصل لهم أثناء طعامهم أو مذاكرتهم، فرسبوا جميعاً إلا فوزي الذي نجح في كل شيء. لم يتحدثوا معه، واحد فقط قال له جملة يتيمة: أنت المسجل الخطر بيننا. الأيام تجري والدنيا قصيرة، عندما عاد زوجها من الخارج وجد الطفلة سمراء، قال نزعة عرق حتى رأى فوزي، من فوره ودون أية مناقشة حمل الطفلة بين ذراعيه، في مشهد سينمائي ربما خطر لصلاح أبوسيف ولم ينفذه، دق الباب، ومن الباب إلى سرير فوزي، قال بهدوء أمام الجميع: خذ بنتك، سمراء واسمها حواء. هجرها دون طلاق ودون أوراق، لم يقبل الطفلة، لم يسجلها باسمه. غادر الطلبة وطار فوزي. ضاقت بها الدنيا وخافت الفضيحة، في لحظة عمياء قررت أن تتخلص من كل شيء، باعت البنت لمن لا ينجبون بدون أوراق وأغمضت عينيها. باعت البنت واحتفظت بالشقة. ينادونها: يا أم حواء فترد: أنا أم آدم. تريد أن تمسح الأيام، تمسح ذاكرتها أولاً ومن ثم ذاكرة الناس، الناس الذين لا يعرفون الحقيقة كلها لكنهم يشمونها، يرددون الحكاية علناً، كل واحد يضيف طوبة من عنده حتى اكتمل الجدار، راحوا يناوشونها على طريقتهم، مرة أم حواء، مرة أم آدم. في السنة الثانية قررت أن تطلق السمار الذي كاد يفضحها من أول بنت، لديها عقيدة منذ كانت تحب الغوازي عكس عقيدة أقرانها: هي لرجل واحد حتى ولو لشهر فقط، لا تنام مع رجلين في وقت واحد. للأمانة.. هي تختار من تنام معه، لكنها لا تعرف بالضبط مع كم واحد نامت. دون تردد باعت البنت، باعت ولم تعرف لمن! أصرت ألا تعرف أي شيء، تحجر قلبها، وراحت تدبر أمورها بعقلها فقط. إذا كنت تريد أن تعرف الحقيقة فليست عندي، كل ما وصلني أنها جاءت من بلدها ندية، زغلولة كما يقولون، تضع يدها على رغيف العيش الناشف يصير طرياً، ضحكتها تسيل، عينها تحلق ومؤخرتها تقلق، لم تسمح له إلا بمسك يدها: كلي لك بالحلال، أخذها لأمه ليخطبها بدل أن يأخذها لأمها، والزواج قريب، يقف على عتبة الباب، لم يجد وسيلة أخرى ليأكلها، حيلة يفعلها الأوغاد والشعراء، تجدها في كل طبقة، أرخى ستارة النافذة فخلعت جلبابها، وبدأ عام الفتح، أخذ العسل ولغّ في الشمع حتى هان وذاب، وحين شبع قرر أن يهجر الخلية، بدأ يجهز للهجرة، باعها، سلمها تسليم مفتاح، لم يكن ليفعلها وحده، الدنيء مرعوب من داخله مهما كانت بجاحته، سلمها لأصدقائه بحيلة ذكية دنيئة، فمضغوا ما تبقي من شمع العسل. تلقفتها سيقان جائعة لا تمشي على قدمين، تمشي على ثلاثة، وهي للأمانة أبلت بلاءَ حسناً، تدعرت معهم متخيلة أنها بهذا تنتقم منه. لم يعد يحتاج لعذر، تركها وحدها تتقلب في أعذارها. حَوَّلها لعاهرة، لا ليس صحيحاً، حولها لممحونة دائمة، حاولت من قبل أن تثني زوجها عن السفر، الحلة على النار والفئران جاهزة لتلعب في الغطاء. بعد محنة وخطأ قاتل وفضيحة قررت تغيير الخطة نتيجة الهجوم الدائم على دفاعاتها البهية، وكأن السماء كانت مفتوحة، استجابت لتطلعاتها، لذا قررت أن تودع الملاعب المحلية، جاءها مايكل، انجليزي أشقر، منحته بخمريتها وروحها المنهكة المتهتكة ما عَزّ في بلده، منحته بسخونتها ما عوض برودة الطقس في لندن. كان شرطها الوحيد للزواج العرفي أن يحمل طفله معه حين يغادر، لم تعد تريد أطفالاً بعد أن عيرتها عيون الناس بحواء، ومع ان الأمر لم يكن يهمها كثيراً ساعتها، إلا أن جرعة التحرش كانت أكبر من أن تتحملها. حاول أن يعيد إليها بعض إنسانيتها، لكن الحلة التي احترقت قد تظل صالحة للطبيخ لكنها لا تعود بيضاء مرة أخرى. حمل طفله وغادر، لم تنس أن تبيعه له، كل شيء صالح للبيع، حمل خمسة بعده أطفالهم بعد أن سددوا ثمن البضاعة، ولم تعد أم حواء أم حواء، أصبحت سعادة السفيرة أم آدم، أحياناً السفيرة فقط، لها علاقات ناجحة مع الشعوب الأجنبية مؤثرة ومثمرة أكثر من وزارة الخارجية التي تبغبغ فقط أما أم آدم فهي تبغبغ وتنتج وتبيع. الحكاية لها جذور، أبوها تزوج عدة مرات، وأمها أيضاً، لم تعرف إخوتها من بعضهم البعض ولا ساندها أحد، وقامت معركة مريرة على ميراث تافه فقررت أن تتخلص من هذا الإرث وكل إرث. نصيحتي: لا تحاول الاقتراب منها أبداً رغم ملامحك التي تشبهنا كلنا، قلت لك من قبل إنها تحبل من عينيها، دعها وحدها تفعل ما تشاء، هي وحدها صاحبة القرار، وقد تقرر تغيير النشاط في أية لحظة والعودة لقواعدها سالمة، وإن رمت عليك ايشاربها فاعلم أنك يمكن أن تحصل على طفل دون وجع دماغ من أمه، ستتسلمه بعد الفطام جاهزاً لتربيه وحدك وعلى مقاسك، ويكفي أنه بعد ذلك سيستطيع السفر إلى كل أوروبا دون تأشيرة لرؤية إخوته والاستمتاع بالطقس هناك. معمل فاخر لا يطالب زبائنه بالضرائب ولا بالقيمة المضافة ولا ضرائب المبيعات. السفيرة أم آدم بوجه مليح لم تنهكه المعارك، لا تكبر، لا تستطيع أن تقدّر عمرها الحقيقي، تسعة بطون حسب علمي في أقل من عشرين عاماً، وصلت الأربعين بصعوبة، لم تستطع السنين أن تغلبها بسبب المدد الأجنبي المتواصل، وأنها في الأساس وضعت دستورها واشترت دماغها، لا تعرف أسماء أطفالها ولا ملامحهم ولا تشتاق، وإن تذكرت اسماً لا تعرف في أي بلد، مرت بممحاة على ما يزعجها كأنها ولدت بلا قلب. وناجح يتمنى الآن لو يقدر على ما قدرت عليه، بين وقت وآخر يضع يده على صدرها ويقول: هنا يرقد قلب المسجل خطر الحقيقي يا سعادة السفيرة، هنا جثث كثيرة. انتظر الآن، لقد وقف ناجح في السرادق فوقف الجميع، يحدق في الفراغ كحطام سفينة على ساحل ميت، ينظر إلى الصور المعلقة تتوسطها صورة قلبه وفقيده، ينظر كأن حياته كلها معلقة على الحوائط، يبدو أنه سيلقي خطبة، الزجاجات كلها نزلت على الأرض في مشهد مهيب، صوت الأراجيل والجوزة انقطع، لا أحد يتحرك من مكانه، حتى العامل الذي يحمل صينية قهوة أو زجاجات بيرة تسمر في مكانه. يبدو من بعيد كشبح لأول مرة في حياته مع أن المصابيح فوق رأسه مباشرة، كأنما المكان الأشد عتمة هو المكان الذي يقع تحت الإضاءة القوية دائماً. قاري القرآن صدّقَ السورة بسرعة. مساعده خنوفه المسجل الطريف، شقيق أم خنوفه، ورث الاسم والعلامة عن أهله، لن تلقط من فمه كلمة واحدة مفهومة بسهولة، ربما هذا هو السبب في أنه الذراع اليسرى لناجح، اليمنى بالطبع محجوزة لأخته، وحتى لو سكر أو صار مسطولاً فلن تفهم جملة واحدة أيضا، وستعتقد أن الجريمة التي يحكي عنها ربما وقعت في كولومبيا ويقوم هو بالترجمة للغة العربية أو يقصها عليك بالبرتغالية. وقف ناجحُ بحزن يكاد يتساقط من ملامحه، رفع حاجبيه إلى السماء السابعة وقال جملة واحدة: هذا العام سوف نعمل عمرة على نفقتي صدقة على روح المرحوم. مش باقي مني غير شوية ضي في عنيا. وأنا هديهملك وأمشي بصبري في الملكوت. وعاد لمكمنه، خنقته العبرة. دموع تنهمر، وصياح علا ثم خفت رويداَ رويدا، وخنوفه يتجه إلى جهاز التسجيل يضع شريطاً من جيبه لتنساب العدودة. وانطلق الموال: يا عيني ع الحلو لما يميل بخته.. كل ما يزرع ورد يطرح شوك من بخته.. حتى لو فصلته بطويل يقصر على بخته. فضل يبكي سنين وايام على حاله لا حد زاره من أهله ولا حد خد باله وصحابه نسيوه لما خلص ماله. ولما أراد الكريم وخطبوا له جم يحنوه ملقوش الحنة من بخته. كأنك في عزاء. الدمع مدرار، لا تعرف على فرصة العمرة أم على المرحوم أم على الصوت الذي ينز حزناً للمطرب علي موسى الذي احتكر الحزن والشجن وحده كأنه مطرب العزاء والأحزان والذي باع شريطه هذا أربعة ملايين نسخة في عامين متفوقاً على أم كلثوم وعبد الحفيظ حالم. عندها انطلق صوت خنوفه مفهوماً لأول مرة: الفاتحة لروح المرحوم، الفاتحة لروح المرحوم علي موسى.