يقدم الكاتب أحمد مدحت سليم، رؤية نقدية تحليلية لرواية جنازة جديدة لعماد حمدي،للكاتب الكبير وحيد الطويلة، والصادرة حديثا عن دار الشروق، نستعرض تلك الرؤية فيما يلي: " جنازة جديدة لمجتمع صار قديما" " عمّ يتحدث المايسترو "وحيد الطويلة" في روايته الجديدة "جنازة جديدة لعماد حمدي"؟.. الكلمة المنشورة على غلاف الكتاب، تخبرك أن ثمة رحلة غامضة يخوضها فنان مجنون تصادف أنه ضابط شرطة إلى عوالم سفلية وغرائبية من قتلة ومخبرين وبلطجية ومسجلات آداب وعشاق البدلة الرسمية.. ولكن هل هذا فعلًا ما يتحدث عنه الطويلة؟!.. متى كان الفن مباشرًا؟ ومتى كان فنانًا أصيلًا ومبدعًا مثل وحيد الطويلة سطحيًا ليقول لنا الحقيقة كاملة؟!.. الحق أنه من السذاجة أن نتصور أن وحيد الطويلة كان يريد أن يحكي لنا قصة الشاب الذي جاء إلى الدنيا ليجد أن أباه ضابطا كبيرا وبعد أعوام- في لحظة تقرير المصير والانتقال من الثانوية للجامعة- يقف أمام هذا الأب موقف وجود مدافعًا عن رغباته المشروعة في أن يصير فنانًا، ولكنه لا يلبث أن ينهزم.. ينهزم كالجميع.. ينهزم انهزام أجيال عديدة أمام السلطة الراسخة.. السلطة التي لا تعرف شيئًا عن الغد إلا أنه يجب أن يكون ضامنًا للاستقرار.. بأي شكل يكون هذا الاستقرار.. ومجتمع يستنيم إلى السكون والحلول السهلة استنامة السلطة إلى عروشها.. لا مكان ثمة للتفكير.. لا مكان للمعارضة.. لا مكان للثورة.. ولا مكان لبطلنا إلا في القالب المستقر الذي يريح أباه الضابط.. في أقسام الشرطة.. كضابط مباحث.. ولكي يتحقق ذلك لا يجب عليه فقط أن يلتحق بكلية الشرطة.. ثم يتسلم عمله البغيض.. ثم يمضي في تيار الزمن الهابط إلى النهاية.. بل يجب عليه أن يمتزج بهذا الواقع ليضمن لنفسه مكانًا.. لكيلا يخسر الحاضر كما خسر آمال المستقبل.. "والدك الضابط الفخيم قال إنك يجب أن تتواجد في بيئة شرطية.. حتى في المصيف!.. وفي الحمام إن أمكن، الجرابيع في المصايف الأخرى، وحذار أن تتهور ويعرف أحد أنك زفت، رسَّام" لا مكان إذن للفن.. للحب.. للحلم في هذا المجتمع المأزوم.. وكما يخسر شبابنا عمرهم أمام سلطة مكتب التنسيق.. وأمام موظفي التخطيط الذين لا يعرفون كيف يوجهون شابًا إلى وجهته كما يعجزون عن تحديد الأهداف اللازمة لنهوض بلدًا وبناء عليه تحديد الهدف من هذه الموارد البشرية الكثيفة بأحلامها.. يخسر بطلنا نفسه شيئًا فشيئًا.. ولا تتبقى إلا هذه البذرة من السخرية من واقعه التي لا تقوى السلطات والقوى على هصرها فيبقى للضابط شغفه بالفن وبالجنون.. "لم تكن مشغولًا بما ينشغل به الضباط، تستمع إلى حكايات تافهة، وبطولات زاعقة يخترعونها،..... كنت تراهم أبطالًا من وهم.. أبطالك الحقيقيون هم المسجلون خطرًا" ولكن هذا الضابط المخادع لا يخبرنا بالحقيقة كلها..أبطاله الحقيقيون ليسوا هؤلاء المجرمين.. إنه اختارهم فقط لأنهم أقوى منه.. لأنهم يقفون في وجه المجتمع وعاداته.. والحكومة وقوانينها.. والمباحث وأذرعها الطويلة والغاشمة.. أبطاله الحقيقيون كما سنعرف من خلال ضربات فرشاته الطائشة هم: زميله الضابط ذو الحنجرة الشجية والذي ينصحه قائلًا: "لا تفعل مثلي.. لا تترك نفسك للوظيفة".. وتستبد به أماله فيستغل فرصة تجمع الضباط وأسرهم على شاطيء ليلى مراد في مصيف مرسى مطروح ليغني لهم أغنية لعبد الحليم.. مضحيًا بمستقبله إذ تمت الاطاحة به في الحركة التالية!!.. وهند رستم التي أهدته قبلة رقيقة حين تطوع بمعاونتها على عبور الشارع بالزمالك في طريقها لزيارة صديقتها المطربة الجزائرية.. ونجيب محفوظ الذي صارحه بآرائه في الحب ساخرًا من طريقته في معاملة محبوبته صاحبة القطط الكثيرة.. وبيكار الذي يشارك القوة في مداهمة لمنزله دون أن يعرف طبيعة المهمة ولكنه ما إن يجد نفسه داخل بيت الفنان الذي يهيم به متأثرًا بمحبة أمه لفنه، حتى يجلس أمامه في جلسة رسم متجاهلًا صراخ الضابط المرافق.. وراقصة فاتنة ممتلئة بالحياة.. وشاعرة عربية ممتلئة بالشجن.. وبطل آخر.. وضعه الطويلة في طريق صاحبنا وفي طريقنا لنزداد يقينًا بجور النظام التعليمي والتنسيق والسلطة.. عبقرينو.. عبقرينو يقف على البر الآخر من الضابط الناقم على حياته لأنه ضابط مباحث.. عبقرينو يعيش حياة أخرى بائسة ينقم عليها لسبب مهم جدًا.. لأنه ليس ضابط مباحث!!.. وهكذا يتضح لنا بهذا التضاد الذكي أزمة الرواية.. بطلنا الفنان الذي يجمع في جعبته سخريات زملائه طول النهار ليفرغها في المساء داخل لوحاته، يتعرف على عبقرينو الذي تجري في دمه روح المحقق ولكن تقف بينه وبين كلية الشرطة أمور تافهة جدًا.. يجد كل من فجنون (اللقب الذي أطلقه الضباط على صاحبنا المجنون عاشق الفن) وعبقرينو (اللقب الذي يطلقه فجنون على الولد العبقري)، يجد كل منهما في صاحبه جناحًا تمكنه من التحليق.. فيحققا النجاح في القضية تلو الأخرى.. يحلان الألغاز بمزيج من الفن والعلم.. ولا رغبة لهم إلا المتعة والنجاح الذاتي.. ولكن ذلك لا يكفي هذا المجتمع .. يلزم هذا المجتمع ضلع ثالث هام.. ضلع السلطة وعشاقها.. وهو الضلع الكبير والأغلبية العظمي في هذا المجتمع المهصور.. "تصادف كل يوم واحدًا من هؤلاء، جمعية أصدقاء الشرطة، الذين يكبسون على فروع البوليس، يحتكون بالضباط، يعرضون خدماتهم بوجه مكشوف، يبنون صيتًا في المناطق التي يعيشون فيها أن القسم في جيبهم" وهنا نقف أمام البطل الثالث.. المعلم "ناجح".. المسجل خطر.. المنصهر في قعر القاع.. والذي يقرر في لحظة بدافع من عشق السلطة والرغبة في ضمان مكان فوق الحبل أن يكون مرشدًا للمباحث ولصاحبنا بشكل خاص.. فينضم للثنائي فجنون وعبقرينو لتزداد النجاحات والانتصارات.. إلى حين.. "هل أشعر بالفخر الآن لأني صنعته، لا أعرف. نسجته ونسجت ناجح على كفي، لدي جناحان أطير بهما" إلى حين.. لأن الوصول إلى اليقين.. إلى الآمال.. وإلى الحب كان مستحيلًا بطول الرواية.. كأنما لتتأكد مأساة الأبطال.. ومأساتنا.. " قطها زغلول وقع في الحب لأول مرة، أحب قطتها إلزا، والأخيرة مترددة، لا تعرف إن كان حقًا يحبها أم لا، يقفز على الظهور هناك لكنه يريد حضنها هي... لكنه في لحظة شعشع فيها الوجد في قلبه، خمشها بقوة أظافره، لم تفهم أن الخمش العنيف لا يحدث إلا من حب عنيف، تعاركا وأصاب عينيها، كان كالمسعور، أصابها نصف عمى وهي بين الحياة والموت." يعرف فجنون كل هذه المعضلات.. وينقم على هذه الأوضاع البائسة فيختار أن يسرد لنا سيرة أبطاله.. المسجلين خطرًا.. الذين لا يعرفون الخوف ولا الرضوخ ولا.. الحب.. بمهارة وحيد الطويلة.. ونصوصه الموسيقية المغزولة بالحرير سيصطحبك في الرحلة إثنان من الرواة لن تعرف من منهم يحدثك.. ولا هل يحدثانك فعلًا أم أنك غير المقصود بهذا الحديث وهذه الصراعات والغضب والمشاكل.. ديوان كامل يضم سير مجتمع داخل المجتمع.. مجتمع أسود داكن الحضور يسلتزم دخولك إليه تحذيرات كثيرة تفضل أحد الرواة بتركارها على مسامعك مرارًا وتكرارًا.. المعلم ناجح (الشهير بالدكتور).. ابنه هوجان.. أم خنوفة.. أم حواء.. العازف الروسي.. الأصفراوي.. خالد اركب.. سيد كبابه.. منير أبو شمس.. البيه المفتش.. آيات.. أسعد قشطة.. قنبل.. شحتة.. دنيا .. ثريا الخادمة المغرية.. وباسل عاشق السلطة.. وغيرهم.. وربما تتخيل أثناء القراءة أن الخطوط تفلت أو أن السرد يطول بلا فائدة.. ولكنني أرى أن هذا التطويل لا يقع اعتباطًا أو مصادفة.. بل هو من صميم عبقرية وحيد الطويلة.. وقدرته على فهم شخوصه وأزماتهم.. فبطلنا مأزوم ورافض لواقعه وينتج عن ذلك شعور أقرب للدهشة.. والشخص الذي يقع فريسة الدهشة لن يكف عن حكي مأساته كلما التقاك.. لن يكف عن سرد أقل التفاصيل كأنك يشهدك على غرابة ما سقط فيه.. ولو حدث ذلك لقتل وحيد الطويلة أهم ملمح من ملامح بطله.. كل هذه القصص تحوم حولها قصص الحب الرقيقة والمتوحشة التي يدفن فيها صاحبنا نفسه رغبة في إنقاذ بعضًا من زمنه وقلبه وروحه.. قصص حب يبرع فيها وحيد الطويلة بشكل خاص.. وأعظمها تلك اللمحة العابرة الموحية التي يضعها ضمن فقرة كأنها غير مقصودة.. " خمشها بقوة أظافره، لم تفهم أن الخمش العنيف لا يحدث إلا من حب عنيف أصابها نصف عمى وهي بين الحياة والموت. كدت أقول لها إن هذا هو ما حدث لعماد حمدي في آخر أيامه مع اختلاف الأسباب" لا حلم.. لا حب.. فلا مستقبل.. كل ذلك.. وغيره مما عجزت عنه القلوب والألسن.. يستلزم جنازة جديدة لعماد حمدي..