اصدرت أخيرا عن دار الساقي في لبنان الطبعة الثانية من رواية شريد المنازل للكاتب اللبناني جبور الدويهي وكانت الرواية من بين الروايات التي نافست علي جائزة البوكر العربية لهذا العام. وحظيت طبعتها الاولي باهتمام نقدي كبير نظرا لتميزها الفني اذ تشكل نصا استثنائيا بين النصوص عالجت موضوع الحرب الاهلية اللبنانية, وهو الموضوع الاول في الرواية اللبنانية منذ ربع قرن لكن رواية شريد المنازل تنصب بطلها نظام العلمي أيقونة من أيقونات هذه المرحلة الصعبة من تاريخ لبنان, تبقيه في مكانة الشاهد علي حلم التنوع الذي انتهي. تعيد الرواية كتابة تاريخ الصراع الطائفي الذي كان سببا في الحرب ولكن من زاوية انسانية بالغة الرقة تخلص هذا التاريخ من السياسة وتضعه في قلبها في نفس الوقت. تقوم الرواية علي ما يمكن تسميته مجازا بسرد المحليات اذ يغطي نصفها الاول تقريبا فترة تحولات عاشتها مدينة طرابلس اللبنانية مع تحولها الي مصيف وتعطي اشارات بالغة الاهمية عن طبيعة الحراك الاجتماعي الذي عاشه لبنان بين نهاية الخمسينيات وأوائل السبعينيات. وفي هذه المسافة نري ايضا حجم الانشغال بحلم القومية وغروبه مع غياب جمال عبد الناصر, ونتابع تلك التحولات المريرة ونحن نقرأ سيرة محمود العلمي وطموحه الذي بدأه بقراءة كتب التاريخ التي لا يفهمها ثم واصل العمل في تنظيم البرامج السياحية قبل ان يتورط في تجارة المخدرات, الامر الذي يقلب حياة اسرته رأسا علي عقب.
ومع سجنه تبدأ اسرة جاره المسيحي توما في رعاية وتعهد ابنه نظام الذي يقدم ما يمكن اعتباره صورة لبنان المرجوة, فهو ولد جميل وذكي ونابه قادم من أسرة مسلمة ليعيش في كنف اسرة مسيحية, ولا يجد نفسه حائرا في هويته, واختباراتها اليومية في بلد كان يجرب انقسامه. ينحاز نظام منذ طفولته إلي هوية حرة, تعبر الحواجز والحدود ولا يجد تناقضا من اي نوع بين حبه لأمه بالميلاد والحب الذي قدمته له رخيمة المسيحية التي نصبها أما بالاختيار. كما يشعر بالالفة سواء كان في مسجد او في كنيسة.
تذكر سيرة نظام في الرواية بشطرة في بيت شعر كتبه المتبني علي قلق كأن الريح تحتي وتشكل ملامحه في الرواية كابن موت, فهو المحبوب من الجميع, لا نعرف له مستقرا, انه شريد المنازل لا يرضي بالإقامة قي مكان. ينجح نظام بعد ان انسلخ تماما من بيته الأول وبقي مع أسرته المسيحية في السفر إلي بيروت يقنع أمه رخيمة بالبقاء هناك لدراسة الحقوق وهي حجة مكنته من العيش في مدينة مفتوحة تتيح له التنقل والتسكع باستمرار لكنه وافق علي دفع الثمن وهو ان يتعمد كأي مسيحي غير أنه اشترط في المقابل ان تبقي هذه الخطوة سرية لكيلا لاتحتج عماته المسلمات اللاتي كن يراقبن وجوده مع توما بعدم الارتياح.
تقبل رخيمةالام التي لا تنجب بالصفقة علي أمل الاحتفاظ بنظام لكنه يضيع بيروت, المدينة التي كانت فاترينة العالم وفيها عاش نظام مدللا كمراهق ثري يستقبل العالم ببراءة وعدم اكتراث, يراه بعين الطائر من شرفة فندق فقير سرعان ما تحرر منه عندما تعرف علي صديقته يسرا التي ذهبت به إلي بيروت أخري منشغلة بالنقاشات السياسية اكثر من الانشغال بعلب الليل.
وفي محاولة للاستقرار استأجر نظام شقة أولغا اللبنانية من أصل روسي والتي كانت علي سفر لمطاردة عاشق تمنت لو عاشت معه وفي تلك الشقة التي أوصته صاحبتها بالحفاظ علي تمثال ل ماري جرجس يستمع لنقاشات لم يكن طرفا فيها, لكنه كان بحاجة الي الضجيج القادم منها ليقتل وحدته ويتخلي عن ترفه, لكن تلك النقاشات غذت قلقه ولم تقدم له اجابة. في نهاية الرواية يقتل نظام أمام حاجز أمني وتهمته الوحيدة أنه آمن بالحب وعاش هويات متعددة في مجتمع الهويات القاتلة وقدم تصوره الخاص عن الهوية اللبنانية التي يتمناها هوية حرة فعندما سأله الجندي الواقف امام الحاجز عن هويته, رد واصفا عين جنان حبيبته الرسامة التي جاء اليها ليرمم تمثال ماري جرجس وفي مرسمها وجد المستقر الذي تمناه وربما كانت الوانها المتعددة هي ذاتها اللوحة التي يبحث عنها لبلد لم يتحمل نظامه فسحة الأمل التي كان يمثلها ويرغب في الدفاع عنها. في الرواية مساحات سرد, مكتوبة بشجن عميق, والنص ذاته يبدو مثل مقطوعة موسيقية, كتبها جبور الدويهي لتلعبها آلات كثيرة في تناغم لافت, فنحن عندما نقرأ مشهد أولجا الروسية, وهي تقف علي حاجز أمني عرضه للاغتصاب وإلي جوارها وقف عاجزا عن التدخل, نتألم لها, لكننا سنجد ردا علي هذا الالم بألم أكبر في مساحة سرد تقدم ذات المقطوعة بآلة أخري حيث تعيش أولجا المشهد ذاته وهي تري نظام عاجزا عن تأكيد هويته علي حاجز أمني آخر يمثل هوية مضادة, وتعيد أولغا تأدية الدور الذي أداه معها لتعبر به هذه اللحظة. وفي قلب هذا الالم يضيء الكاتب بلغة استثنائية علاقة نظام مع جنان وهي علاقة يتحقق فيها لأول مرة, لكن جنان تقطع شرايينها احتجاجا علي غيابه, وردا علي فشله في العبور بين بيروتالشرقيةوبيروتالغربية. كما يقدم الكاتب في الصفحات الأخيرة وصفا بديعا لجنازة نظام الذي لم يضف عليه الكاتب أية ملامح ايديولوجية وأبقي صورته ناصعة البياض, في الجنازة نري اخته ميلسون وهي تنقل جثته من بيروت إلي طرابلس ثم إلي حورا لتمكنه من وداع أخير يضمن له العبور فوق المنازل التي تشرد منها وتنتهي الرواية وقد استقرت جثته أخيرا في بستان كأنما هو زهرة لا يتبقي لنا منها غير العبير.