الدولار خلال إجازة شم النسيم.. أسعار العملات في البنك الأهلي والمركزي وموقف السوق السوداء    أسعار اللحوم اليوم الأحد 5 مايو 2024.. كم سعر كيلو اللحمة في مصر    الأرصاد تحذر من انخفاض درجات الحرارة وتساقط الأمطار على هذه المناطق (تفاصيل)    مصر للبيع.. بلومبرج تحقق في تقريرها عن الاقتصاد المصري    حملة ترامب واللجنة الوطنية للحزب الجمهوري تجمعان تبرعات تزيد عن 76 مليون دولار في أبريل    مصر على موعد مع ظاهرة فلكية نادرة خلال ساعات.. تعرف عليها    روسيا تصدر مذكرة اعتقال للرئيس الأوكراني زيلينسكي    أول تعليق من مدرب سيدات طائرة الزمالك بعد التتويج ببطولة إفريقيا أمام الأهلي    نجم الأهلي السابق يوجه طلبًا إلى كولر قبل مواجهة الترجي    قصواء الخلالي: العرجاني رجل يخدم بلده.. وقرار العفو عنه صدر في عهد مبارك    بورصة الدواجن اليوم.. أسعار الفراخ والبيض اليوم الأحد 5 مايو 2024 بعد الارتفاع    هل ينخفض الدولار إلى 40 جنيها الفترة المقبلة؟    حزب العدل يشارك في قداس عيد القيامة بالكاتدرائية المرقسية    علي معلول: تشرفت بارتداء شارة قيادة أعظم نادي في الكون    العمايرة: لا توجد حالات مماثلة لحالة الشيبي والشحات.. والقضية هطول    بعد معركة قضائية، والد جيجي وبيلا حديد يعلن إفلاسه    تشييع جثمان شاب سقط من أعلي سقالة أثناء عمله (صور)    توقعات الفلك وحظك اليوم لكافة الأبراج الفلكية.. الأحد 5 مايو    كريم فهمي: لم نتدخل أنا وزوجتي في طلاق أحمد فهمي وهنا الزاهد    تامر عاشور يغني "قلبك يا حول الله" لبهاء سلطان وتفاعل كبير من الجمهور الكويتي (صور)    حسام عاشور: رفضت عرض الزمالك خوفا من جمهور الأهلي    ضياء رشوان: بعد فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها لا يتبقى أمام نتنياهو إلا العودة بالأسرى    عمرو أديب ل التجار: يا تبيع النهاردة وتنزل السعر يا تقعد وتستنى لما ينزل لوحده    الزراعة تعلن تجديد اعتماد المعمل المرجعي للرقابة على الإنتاج الداجني    حسب نتائج الدور الأول.. حتحوت يكشف سيناريوهات التأهل للبطولات الأفريقية    كاتب صحفي: نتوقع هجرة إجبارية للفلسطينيين بعد انتهاء حرب غزة    احتجاج مناهض للحرب في غزة وسط أجواء حفل التخرج بجامعة ميشيجان الأمريكية    مصرع شاب غرقا أثناء الاستحمام بترعة في الغربية    إصابة 8 مواطنين في حريق منزل بسوهاج    رئيس قضايا الدولة من الكاتدرائية: مصر تظل رمزا للنسيج الواحد بمسلميها ومسيحييها    اليوم.. قطع المياه عن 5 مناطق في أسوان    الآلاف من الأقباط يؤدون قداس عيد الميلاد بالدقهلية    محافظ الغربية يشهد قداس عيد القيامة بكنيسة مار جرجس في طنطا    البابا تواضروس يصلي قداس عيد القيامة في الكاتدرائية بالعباسية    مكياج هادئ.. زوجة ميسي تخطف الأنظار بإطلالة كلاسيكية أنيقة    دار الإفتاء تنهي عن كثرة الحلف أثناء البيع والشراء    حكم زيارة أهل البقيع بعد أداء مناسك الحج.. دار الإفتاء ترد    صناعة الدواء: النواقص بالسوق المحلي 7% فقط    أبو العينين وحسام موافي| فيديو الحقيقة الكاملة.. علاقة محبة وامتنان وتقدير.. وكيل النواب يسهب في مدح طبيب "جبر الخواطر".. والعالم يرد الحسنى بالحسنى    عاجل.. مفاجأة كبرى عن هروب نجم الأهلي    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    عبارات تهنئة بمناسبة عيد شم النسيم 2024    تساحي هنجبي: القوات الإسرائيلية كانت قريبة جدا من القضاء على زعيم حماس    محافظ القليوبية يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة السيدة العذراء ببنها    نميرة نجم: حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها غير موجود لأنها دولة احتلال    سعاد صالح: لم أندم على فتوى خرجت مني.. وانتقادات السوشيال ميديا لا تهمني    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    صيام شم النسيم في عام 2024: بين التزام الدين وتقاطع الأعياد الدينية    بعد الوحدة.. كم هاتريك أحرزه رونالدو في الدوري السعودي حتى الآن؟    عوض تاج الدين: تأجير المستشفيات الحكومية يدرس بعناية والأولوية لخدمة المواطن    لطلاب الثانوية العامة 2024.. خطوات للوصول لأعلى مستويات التركيز أثناء المذاكرة    محافظ بني سويف يشهد مراسم قداس عيد القيامة المجيد بمطرانية ببا    رسالة دكتوراة تناقش تشريعات المواريث والوصية في التلمود.. صور    نجل «موظف ماسبيرو» يكشف حقيقة «محاولة والده التخلص من حياته» بإلقاء نفسه من أعلى المبنى    شديد الحرارة ورياح وأمطار .. "الأرصاد" تعلن تفاصيل طقس شم النسيم وعيد القيامة    المنيا تستعد لاستقبال عيد القيامة المجيد وشم النسيم    مهران يكشف أهمية استخدام الذكاء الاصطناعي في التأمين    من القطب الشمالي إلى أوروبا .. اتساع النطاق البري لإنفلونزا الطيور عالميًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنازة جديدة لعماد حمدي..رواية ل"وحيد الطويلة" ..الجزء الثاني
نشر في الأهالي يوم 04 - 09 - 2021


رواية
وحيد الطويلة
الجزء الثاني
4
من داخل السيارة أَنقِلُ عينيَ بين المقاهي على جانبي الشارع، أبحث عن فنجان من القهوة، أو فنجانين، عادة أدمنتها منذ بداية العمل بالمباحث، لا أستطيع أن أفتح عينيَ قبل أن أشرب اثنين، لا تفهم معنى الأشياء المزدوجة، معظم ضباط المباحث الذين يدخنون تجد الواحد منهم يحمل علبتي مارلبورو معاُ، في يد واحدة، مشهد يتكرر كثيراً، كأنه تقليعة، كأنه إشارة أو عدوى، هو كذلك بالفعل لدرجة أنك تعرف ضابط المباحث من مارلبوره دون أن تخطئ.
تراودني رغبة خفيفة أن أمر على "جروبي"، كانت حبيبتي السابقة تجلس فيه دائماً، رغم أنه صار مكانًا لالتقاط بائعات الحب، لعقد الصفقات، ربما لم تكن تعرف ذلك أو لا تكترث، المكان قريب من قاعات عرض لوحات الفنانين التي ترتادها كثيرًا.
الشوارع خانقة، والسيارة لا تكاد تتحرك تحت وطأة الزحام، لا يوجد شبر واحد أو زاوية يمكن أن أركن فيه سيارتي ولو في مكان مخالف.
واحد يسحب بقرة في قلب الميدان، تقفز إلى ذهني أشياء غريبة، التفاصيل العابرة تعيدني إلى حياتي السابقة، كأن الحياة شاشة عرض تتناوب الصور عليها دون سابق إنذار.
جاء وقت كانت فيه حوادث الإرهاب على أشدها، الكل مشدود، الكبير والصغير، الضباط يبيتون في الأقسام وفي الشوارع، لا أحد يعود لبيته إلا لماما، إلا ليستحم على الواقف، كمين في كل شارع تقريباَ، وكمين رئيسي في شارع كورنيش النيل.
تخيل معي هذا المشهد إن لم تكن قد سمعت به من قبل، ولا أظنه وصلك، اقتربت سيارة بيجو، وحين وقعت في الكمين أطلقت النار فجأة ثم فرت مسرعة.
هكذا ببساطة.
وانقلبت الدنيا.
أقْفِلَت الشوارع، لكن هيهات، من أطلق النار اختفى مثل قرص بنادول في بحر، تبخر كسحابة في صيف حار.
لم يستطع واحد من أفراد الكمين رغم كثافة عددهم أن يلتقط رقم السيارة، تعقدت الحكاية من بدايتها، ولا مفر من البحث عن كل سيارات البيجو البيضاء في المحروسة كلها.
كان على كل ضابط أن يعود لدفاتره القديمة، كل واحد يعود لمرشديه، أسرع من الضوء.
لديَّ مرشدون أكثر من الهم على القلب، أكثر من عدد شعر الراس، لكن تحت القبة شيخ، تحت إبطي كبيرهم.
طرت إلى الفيلسوف في الحال، لا أحتاج لأن أذكرك أن المسافة بيني وبين رئيس جمهورية المسجلين واضحة تماماَ، ولا يستطيع واحد أن يقول إنها غير مبنية على الثقة.
بين كل ضابط ومرشديه مساحة من الثقة تعادلها مساحة من الشك.
بعد نصف ساعة كنت على رأسه، أمام سرير نومه، يسكن في شقة كبيرة أعلى مقهاه، حاولت زوجته أن تستأذن لتوقظه، عبست في وجهها وأشرت أن تبتعد.
من الدهشة بعد المفاجأة راح ينظر لأعلى، يبحث عن ثقب في سقف الغرفة.
"أريد السيارة الحقيقية والفاعل الحقيقي".
أوقن أن ناجح يستطيع في نصف يوم أن يؤمن لك نفس ماركة السيارة بنفس اللون، ويدق لك الأرقام التي تريدها.
على عَجَل لبس جلبابه، استأذن ليغسل وجهه، مشط شاربه بيده اليمنى واعتمر طاقيته، عند خروجنا داعبتُ طفلته التي بدا كأن لسانها انعقد، وجهها بلا نقطة دم واحدة، انتقلت إليها العدوى من أمها رغم أنها معتادة بالطبع على عمل زوجها العظيم، كنا من قبل ندخل المقهى ونرسل له من يخبره بوجودنا، لأول مرة تجدنا فوق رأسها وأمام سريرها.
وضعت يدي في جيبي، أخرجت ما وجدته، مددت يدي للطفلة التي ترددت في البداية، وحين سمعت صوت أبيها بالموافقة انقشع جوال بؤس كان يغطى وجهها وأشرق.
أصعب شيء في وظيفتنا هذه هو بؤس الأبرياء، ربما لا يلتفت إليه ضابط لكثرة الجرائم، من شراسة المجرمين، ضغط العمل، نزيف الأعصاب، نعمل على أعصابنا نكاد نمشي عليها، جريمة قتل تجعلك تنسى أن تأكل لولا أن يوقظك أحدهم، لكنني أعرفني جيداً، قبل أن آوي لسريري أو أجلس أمام حامل اللوحات لأضرب فرشاة في أي اتجاه، قد يقفز لي وجه القاتل والقتيل، لكن ما أحمله إلى سريري قبل أن أغمض عيني هو بؤس الأبرياء.
"أريد السيارة الحقيقية والفاعل الحقيقي، فوراً".
يمسح شاربه بأناقة كما يليق بزعيم حقيقي فاجأته الكاميرا، يحرك يديه كما لو كان يقود سيارة، لحظتها عرفت أنه يستطيع أن يأتي بالسيارة، أية سيارة، هو فقط يفكر أن يأتي بواحد يعترف، المهم أن يعرف أن يسوق كي تنجح القضية.
"القضية يمين مش شمال يا ناجح".
المشهد مقبض والقسم يغلي، الكل على سطح ساخن، تنطق الوجوه قبل الأقدام، أصوات مكبوتة ووجوه مكتومة بينها وبين الهزيمة سيارة بيجو، والوزارة بكامل عدتها في قلب القسم، كل الرتب التي تتخيلها، الأمن المركزي، قوات مكافحة الإرهاب.
حرب.. حرب حقيقية.
بعد ساعتين فقط، كان ناجح قد نجح أن يأتي بالسيارة الحقيقة والسائق الحقيقي، دخل علينا منتصراً مع اثنين من المرشدين اللذين يعملان معه، قبضوا على السائق، وضعوه بالقوة أمام عجلة القيادة، أرغموه بجبروتهم، فقاد السيارة بهم حتى القسم.
لم يصدق مدير المباحث نفسه، قضية إرهاب في ساعتين، يسترد الضباط أعوامهم السابقة وتتورد خدودهم لحظة النصر.
وانكشفت الحكاية: السائق ومن معه يسرقون المواشي من محافظة بعيدة، مجموعة جرابيع، يضعون العجل داخل شنطة السيارة، لا يستعملون سوى سيارات البيجو التي تتسع شنطتها لعجل بحجم كبير، وحين اقتربوا من المكان لم يتوقعوا كميناً في السابعة صباحاَ، ضربوا لخمة، تصرفوا بقلق وتوتر اللحظة، أطلقوا النيران في الهواء في اتجاه الكمين لكن لأعلى، لم يصب أحد وفروا بعِجْلهم.
انقلب الإرهاب إلى عِجْل.
وانفض المولد.
يا ابن الإيه يا ناجح.
كان يمكن أن يأتي بسيارة باللون الذي تريده، ويستطيع أن يخلق لك شخصاً يعرف القيادة، لكنه كان يبحث عمن يقبل أن يعترف بهذه الجريمة، الذي يعترف ولن يتراجع إلا أمام حبل المشنقة، يختار الذين لا توسوس لهم أنفسهم ولا يضحك شيطان من الإنس عليهم أو يشتريهم، الشيطان العادي لا يقربهم، يعرفهم، من نفس طينتهم.
في شغلتنا هذه ترى العجائب، ترى عشرات المسجلين الذين تابوا توبة نصوحا أو نصف توبة، يستطيعون سد خانة أية قضية، يأتون بمسروقات وهمية وناس حقيقيين لم يرتكبوا الجريمة ليعترفوا بها.. بعض الضباط يفعل ذلك.
في شغلتنا هذه ضباط تسأل واحداً منهم عن أهمية عمل الضابط، يقول لك: الضابط موقف ويقول آخر: الضابط تصرف، لكن لا أحد يتصرف مثل ناجح.
أنظُر في عينيه، كيف استطاع أن يبني هذه المملكة التي لا تكاد تُرى، لكنها تفعل كل شيء، يستطيع أن يأتي لك بالفاعل وأنت جالس في مكتبك، بالصدق أو بالخديعة، أو يدلك عليه من بعيد لتنزل وقواتك لتقبض عليه.
حين تحدث جريمة يكون ناجح وقبل أن يصل إلى مقهاه قد عرف الفاعل ومكان البضاعة وأين وكيف تم تصريفها.
تجده في انتظارك.
ما من مسجل يستطيع أن يتصرف في قشة دون مشورته، إنه يلعب الدورين معاً: مسجل خطر ومرشد طيب يساعد الحكومة، لكنه لا ينسى أبداً أنه زعيم على قبيلة كبيرة- حتى لو كان زعيماً في الظل- ولن يسلمك أحداً إلا تحت الضغط، إلا حين لا يكون هناك مفر من خرم الإبرة، حين تضيق عليه ولا يجد حتى خرم الإبرة، يفاوض ببراعة، بصياعة، بمعلمة، بمكر المعلمين الذين لا يركنون ظهرهم لحائط واطئ.
لعبة عض أصابع متبادلة، يحافظ على ملكه بألا تحرجه أو تجرحه أمام مريديه، ويقدم لك بكرم واضح ما يمر من تحت ضرسه أو ما يراه مخلاً باللعبة، وكما أخبرتك يستطيع أن يبيع أي واحد ليس من صلبه الكريم، يقبل ما تصل إليه يداك، يعرف كل شاردة وواردة، تصب في حجره كل المعلومات، أحياناً قبل حدوثها.
قلت لك إنه لا يريد دور الزعيم وإن بدا كذلك في مملكته، إنما يلعب دور المرشد الكبير دون أن يشم أحد الخبر، وإن بدا صغيراً عليه وليس من مقامه.
كأنه لم يستطع أن يفلت من الصفة: مرشد للمباحث، لكنه من نوع آخر، ببساطة هو الخلطة السحرية: زعيم حين يطلب منه الأعوان المشورة، وتاجر عند تصريف الغنيمة، وفي النهاية إن ضاق الخناق مرشداً للحكومة.
يقبض من الحكومة ليس احتياجاً لملاليمها، وإنما للبقاء على اللائحة القريبة من الحجر، حجر الحكومة:
"وكله من خيركم يا سعادة الباشا".
يفعل ما يريد، لكن حين تنضج الأزمة وتستحكم يقف في صفي ويبيع من يبيع عدا ابنه.
المسافة بين ضابط المباحث والمرشد الذي كان مسجلاً خطراً ليست كالمسافة بين ضابط ومرشد عادي متطوع أو بأجر يرمي فقط بالمعلومات.
أنت أمام ثعلب يغير ملامح وجهه ببراعة دون حاجة لعمليات، بوجه شيخ صالح، طامح للقيادة في ملعبه، ذئب صارم حين ينسى دور الشيخ أو حين يفلت منه، لكنه يستطيع بسرعة أن يغير التوصيلة ويعدل البوصلة، ذئب يقص أظافره حين يدخل مكتب ضابط المباحث، على استعداد أن يخلع طاقيته ويكشف ويعري رأسه حتى يظل قريباً من عين الرضا.
ثم إنه على حسي واسمي يفعل ما يوطد به مكانته في منطقته.
ناجح كان هدية السماء، لو لم تأتني أو تقع في حجري لاخترعته.
ما زلت أبحث عن مكان أشرب فيه قهوتي، دماغي ضربت، أتذكر الآن جيداً: كانت الوزارة تقوم بحملة من حين لآخر لضبط المخالفين والسلاح غير المرخص بالذات، بالعربي هوجة للردع العام وكل من تسول له نفسه المخالفة، وهذا الكلام المحنط، هوجة يسمع بها كل الناس في منطقة ما، اخترعت المستشفيات جراحة اليوم الواحد واخترعنا على منوالها حملة اليوم الواحد بقوات كثيفة، كنا نقبض على هاربين من أحكام بالسجن، تجار مخدرات وغيره، لكن الحملة التي تستطيع أن تضبط بندقية آلية كانت هي الفائزة وصاحبة الصيت.
يكاد يضحك الآن بعد أن انتشر السلاح الآلي في كل مكان، وصار في أيدي الأطفال، حتى الجرينوف أصبح بين يدي أصغر الخطرين.
أتذكر أننا احتجنا لبندقية آلية حتى نزين نتائج الحملة، بندقية كبيرة، ذهب ناجح بنفسه، دفع ثمنها من جيبه، قال للتاجر إنه لا يستطيع الخروج بها وحده من المنطقة:
هناك نقطة شرطة قريبة من بيتك، والمكان مرصود.
التاجر الذي راح يضحك بسخرية واستهزاء قال:
"هم يعرفون أكثر منك أنني أتاجر في السلاح، وأضاف بعد قهقه عالية: الضابط أحياناً يطلب قطعة مني".
أتذكر الآن جيداً كأنني أراها أمامي على شاشة أنني وضعت الخطة، ذهبت رفقة ناجح، بعد أن لبست جلباباً مثل جلبابه، على رأسي طاقية استعرتها منه، كبستها جيداً، وملفحة قريبة من ملفحته، أصررت أن يخرج التاجر معنا، يوصلنا حيث السيارة بعد نقطة الشرطة حتى نكون في الأمان.
خطة محبوكة، شعر التاجر أننا خائفون، وإنه يحمينا.
أفهمت معاون المباحث أن يجلس أمام مقود السيارة وأن يكون جاهزاً للانطلاق فور وصولنا، فتحت الباب الأمامي لناجح ليجلس بجوار السائق، وفتحت الخلفي من اليمين ليضع التاجر البندقية ثم أجلس أنا، في لمح البصر قمت أنا وناجح بحمل التاجر من قوائمه ورميناه كعِجْل داخل السيارة، قفزت ونمت فوقه، كتمت أنفاسه وانطلقنا، لم أتزحزح من فوقه قبل منتصف الطريق ليأخذ نفسه، وحين وصلنا القسم كان التاجر ينظر بكل غيظ وانتقام العالم ويقول جملة واحدة يرددها بلا توقف:
"والله لأقتلك يا ناجح، والله لأقتلك يا ناجح".
5
صرتما صديقين، أنت وناجح.
لا أحد يعرف سبب العلاقة الوطيدة التي جمعت بينكما، سبب ظهور العلامات التي وحدت بينكما وجعلت لكما شيخاً واحداً.
قضية قتل راح ضحيتها شاب عند حافة أرض زراعية، كنت أول من وصلت، الأرض عبارة عن بركة طين كبيرة، من سقى الأرض ترك المياه مفتوحة حتى أغرقتها، ما إن تضع قدمك حتى تغرز إلى صابونة ركبتك.
لا شيء واضح في المكان، الوقت بعد المغرب في عتمة الشتاء، والفوانيس وأضواء التليفونات لا تكفي لرؤية عنزة كبيرة.
حاولت أن تبحث عن أية علامة، مسرح الجريمة هو بطلك الأول، الذي يمكن أن يبوح بالأسرار، بل هو سر الأسرار، والقطفة الأولى الحاسمة تأتي دائماً من قلبه.
لا شيء سوى جثة لشاب تم تخريط وجهها حرفياً طولاً وعرضاً، لم يترك الجناة أي أثر في الوجه حتى لا يتعرف عليه أحد.
عينان مقلوعتان من محجريهما، معلقتان لأعلى كأنهما ترشدان ملائكة الشمال إلى المجرمين، لا تعرف مكان الفم من الأنف، لا حواجب، لا جبهة، خدَّان متورمان، أذن مشقوقة بالطول بقي نصفها، وأخرى مملوءة بالطين، كل ما في القتيل ما زال يتألم ويصرخ فى وجه قاتله.
عمل غير صالح، ولا شيء غير أطنان من زجاجات فارغة تكفي لتعبئة مصنع كوكاكولا، أحذية مُقدَّدَة ربما رماها أصحابها لتصبح طرية بالماء والطين، كانت ميتة فعادت إليها بعض حياة بجانب جثة مقتول، وفخار مكسور في كل متر كأنه دوماً يدل على النهايات أو يعود إلى منبته الأول.
لا دليل يوحد الله، لا تريد أن تخرج من المكان، تود لو ينطق الطين، يدلك على أي شيء، ربما يبوح لك بشيء يساعدك في حل القضية.
أن يترك ضابط مباحث مسرح الجريمة دون أن يلقف أي دليل أو شاهداً ولو ضعيفاً سوف يعقد اللعبة كلها، بل ينسفها من الأساس.
لا شيء سوى همهمات غاضبة من ناس لا يعرفونه، همهمات ليست من أجل القتيل بل ضد الضابط الذي يجب أن يحل اللغز في الحال.
رحت تبحث في جيوب المقتول، لا أثر حتى لبطاقة أو خطاب من حبيبة أو أب أو صديق يدلك فقط على شخصيته ثم تبحث بعد ذلك عنهم.
لم ينظف المجرمون وجهه من معالمه، بل نظفوا تاريخه كله، محوه حتى يذهب إلى القبر مجهولاً، لا ملائكة تعرفه ولا شياطين، دون عديد أو صراخ.
تسأل نفسك: ماذا يفعل الميت في جنازة صامتة لا يسمع فيها صوت واحد من أحبته.
لا شيء، ستخرج الآن بنصف خيبة إلى أن تسوق لك الأقدار أي دليل، بل ربما بكل الخيبة، ستعود إلى رئيسك مفتش المباحث، سوف يرمقك بنصف عين، ليته ينظر إليك ويقول: ما هذه الخيبة.
الجرم الكبير أن أولاد الكلب قاموا بتخريط بصمات أصابعه، يديه ورجليه، كأنهم عتاة المافيا في جريمة لا تحدث إلا في السينما.
صحيح أن هناك قضايا كبيرة انتهت إلى مجهول وأقفلت على أسرارها، سيقولون إنك فنان لن
تقبل بهذه النهاية، ولن تقفل القضية على هذا النحو وأنك هائم في السماء تسأل الملائكة حلاً، وأن القضاء والقدر ليسا في قاموسك، لكن عليك أن تجد باباً لهذا القدر حتى تذهب للقضاء بقضية فككت أسرارها.
"آدي آخرة الفن، فرجنا يا فنان على الحل".
استهوتك الحكاية رغم غموضها الشنيع، رحت تنظر إلى الناس المتجمعين المشغولين بالجثة لا بالمسرح، ساعتها كنت تبحث عن علامة، أية علامة، تقودك ولو بالحدس لا بالتحليل إلى مبتغاك.
يحوم المجرم حول مكان جريمته، وربما يكون بينهم.
لكن لا خبر يتيماً ينقذك، ليس سوى صوت غربان تعود إلى أعشاش الأخرين، مثل الغربان الذين هدموا عش القتيل وعمره.
كنت تبطئ في الخروج من قلب المسرح، والأعين كلها حولك مستاءة تستحثك بخيبة على الخروج، كأن على ضابط المباحث أن يفتح المندل ويعرف القاتل في الحال.
تباطأت، لكنك في النهاية بوجه نصف مهزوم خرجت، جاءت عربة الإسعاف، حملت الجثة، وبدأ الناس الذين تحاوطوك في البداية ينصرفون كلٌ في اتجاه.
ساعتها، وكما فعل سابقاً جاءك من خلف، اهتزت يدك من شيء لامسها، استدرت لتراه، كان قد حاذاك كعادته أيضاً، قدم لك كيساً من البلاستيك به شيء لم تتبينه، غارق في الطين كأنه كفن له، رحت تنظر إليه مستغرباً، رفع يده قليلاً وقال:
"خذ فردة الشبشب هذه، ربما تنفعك".
مددت يدك، أخذتها:
"من أنت"؟
"أنا الدكتور، الدكتور ناجح".
أكمل وهو يشير بيده بعيداً:
"أنا صاحب مقهى السعادة، اسأل عني تجدني".
طلب هاتفك، ورغم أنك تعجبت إلا أنك أعطيته له طائعاً، كأن العلامات بدأت في الظهور، كتب رقمه ثم دق على هاتفك منه:
" رقمي لو احتجتني".
قبل أن يمضي أشار مودعاً:
"ستحتاجني يا سعادة الباشا، تسعدني معرفتك".
هذا ناجح الذي أنقذك فيما مضى.
تلفتُ،
كان قد مضى.
يخرج لك هذا الرجل كل فترة كأنه قرينك.
كن أنت قرينه هذه المرة وفاجئه بالعزاء في ابنه.
لم تبح لأحد من زملائك بموضوع فردة الشبشب، وضعته في درج، وحين غفوت قليلاً في مكتبك، قمت مذعوراً والفردة تنادي عليك.
أخذتها، غسلتها جيداً من طينها، فردة شبشب صغيرة لشخص ربما كان فقيراً، بالقطع هو فقير.
قضية مضروبة، لن يهتم بها أحد.
رحت تدق بالفردة على يدك علها تنطق، حين قلبتها وجدتها محروقة من أسفلها في مواضع كثيرة على وشك أن تتفحم لولا بقع قليلة.
رحت بأصابعك تلمس كل موضع احترق، تلمس كل مكان وحده، تكاد تضمها لصدرك لتنطق، رحت تكلمها وتكلمك، كأن لها لساناً وعيوناً تنظر إليك.
تمسح رأسك، أصابتك لوثة الفن.
مائة سؤال وسؤال، مقاسها 42، والحمالات زرقاء.
هذا الشبشب ربما ليس للقتيل، كان مدفوناً بفردة واحدة، رماها أحدهم بعد أن أكلها الدهر وأكلته، وربما كان لامرأة تطبخ بالخشب أو تعمل في غرزة، هو على الأرجح لصبي يعمل في غرزة للحشيش، المنطقة كلها تعمل بالحشيش، تدخنه كأنها تؤدي الزكاة، تخرجها يوماً بيوم حتى تمسح ذنوبها أولاً بأول، وربما، مائة احتمال.
لكن لا، فردة واحدة لن تحل قضية ولا قيمة لها، سيقولون هذا المجنون يمر على أقدام الناس يقيسها على شبشب، ومنذ متى كان الناس في هذه المنطقة يلبسون مقاساتهم.
عبث، الحكاية كلها عبث، لا خيط حقيقياً أمامك، خيطاً واحداً يجعلك تلعب وتحل اللغز، لا بد أن تشتري كمية كبيرة من ألغاز ميكي علك تجد ثقباً أو كوة تفتش فيها عن أثر لمقتول، أو يخترع لك عبقرينو آلة قراءة الشخصيات من شباشب أصحابها.
كتب الشرطة لا تحتوي على قضية مماثلة.
يجب أن تحصر أولاً بلاغات المفقودين ربما تعثر على بلاغ لواحد لم يجده أهله، واحداً أو أكثر، وساعتها يمكن أن تجد باباً أو نافذة، تعرض عليهم الشبشب بحروقه.
تفكر أن تعيده إلى الخزانة، مازال يكلمك، يشير عليك، لكنك تفكر أنك يجب أن تذهب الآن إلى المشرحة لتقيس الشبشب على قدم القتيل.
نعم، هذا ما يجب أن تفعله فوراً حتى تغلق أحد الأبواب، ليلبس القتيل شبشبه أمامك وترتاح.
لكن من يلبس شبشباً كهذا ربما أعطاه له أحد، ربما كان لأبيه أو لأي كان.
ما زلت تفكر أن تعيده إلى الخزانة.
ودق الباب.
لا بد أن مجنوناً آخر يدق عليك في الرابعة صباحاً، لعلها قضية أخرى، يا ستار.
ودخل عبقرينو.
صديقك الذي يحب المباحث والقضايا أكثر من روحه، يشاركك حل الألغاز، يذهب معك في كل مكان، كان تليفونه مغلقاً هذا المساء وحتى حين طلبك كنت في قلب الطين والدماء.
أين كنت يا كولومبو؟
لم يرد، كان يحمل كيساً آخر راح يمرره أمام عينيك، كان يحمل فردة الشبشب الأخرى.
تأكدت من تطابقهما، وبالحروق نفسها.
فردة أخرى، بدأت الحكاية تكتمل يا فجنون.
فردة أخرى في يد عبقرينو.
وصل مسرح الجريمة بعد خروجك بقليل، كأنه هبط من مركبته الفضائية، أوقف سيارته في أقرب نقطة منه، وجهها، سلط عليه كشافات السيارة، ارتدى قفازه وحذاءه المطاطي وراح يفتش وحده.
"قلبت الدنيا، لم أجد غيره، وأظنه سيتكلم".
عبقرينو، لم تعد تتذكر اسمه الأصلي الذي ولد به، الموجود في بطاقة الرقم القومي، بل ربما نسيه هو، لا أحد يعرف له اسماً أو كنية غيرها.
هو ذراعك اليمني واليسرى، هبط على المباحث من كوكب آخر، ليس ضابطاً رغم هيبته، تحتاج مئة لوحة كي تستطيع أن تجيب على غرامه بالبوليس، المباحث تحديداً، لا تستطيع أن تقول إنها غواية، أو أنها تستهويه فقط، يعشقها بدمه.
غرامه أن يجلس معك بالساعات، يترك عمله، لا تنام ولا ينام، يفك لغز القضية، وحين يظهر القاتل أو السارق بعدما فكك القضية وأعاد تركيبها، يشتري زجاجة نبيذ أحمر، يرشفها وحده على مرأى منك، وعند أول رشفة وآخر رشفة أيضاَ يقول بسعادة مغمض العينين:
الحمد لله على نعم الله.
ليس طامحاً لسلطة، أية سلطة وإن لم يخل الأمر أحياناً من حسرة على لسانه، ورغم أنك تعرف أن الناس تكره البوليس أكثر من المجرمين، إلا أنهم يتمسحون بالسلطة بل يقفزون في قلبها إن واتتهم فرصة بل نصف فرصة.
غاوٍ، والغاوي يرمي نقوطه على الأعتاب، تحت المخدات، فوق رموش الراقصات، مغرم بالبوليس منذ صغره، ربما لم يلبس بدلة ضابط في أحد الأعياد، ربما لم يحل ألغاز ميكي مثلك، ربما فعل وأكثر، واقع في هوى أخذ بقلبه وعقله معاً.
مثله مثل معظم الطلاب في بلادنا، يفكرون أول ما يفكرون في دخول كلية الشرطة، إرث قاس تستطيع أن تعرفه بسهولة من أعداد الطلاب الملطوعين أمام بوابات التقديم، أهاليهم تتملكهم نفس اللهفة، ورغم أن العالم اتسع إلا أن لعاب الناس مازال يسيل مدراراً أمامها.
حاول أن يدخل الكلية لكنهم رفضوه، عمل مهندساً للاتصالات إلا أن الدودة ظلت تلعب في عقله وتأكل مؤخرته.
وجد الباب مفتوحاً أمامه حين تعرف عليك، وجد طاقة القدر، توطدت علاقتكما، يخرج معك في كل مأمورية ولو تافهة، يرى، يراقب ويتعلم، مع الوقت صار الخبير الأول، أنت تلعب بروح الهواية وهو يلعب بعقلية الاحتراف.
أنت لا تريد أن تثبت أي شيء سوى إصرارك أن تنجح في لعبة وظيفة أدمنتها ولو لم تحبها، وهو كلاعب كرة جاءت له الفرصة في ناد كبير فاصطادها بكل ما أوتي من حلم وغرام.
القصة ليست في الدراسة، المباحث عمل جديد أمام كل ضابط، الكتب وسنوات الكلية لن تنفعك في شيء سوى أن تقلب يدين فارغتين وتلقط وحدك، وهو كان ملقاطاً كبيراً.
مهندس اتصالات، أول من عرفك كيف تستخدم الهواتف الجديدة، الموبايل، المواقع "اللوكيشن"، ساعدك أن تكون أول من يستخدمه، تعرف مكان المشتبه به في ثانية، يكفي أن يفتح أحدهم هاتفه أو يقوم بوضع شريحة جديدة، صار المتهمون يرونك أمامهم ولو في آخر الدنيا كأنك هبطت من السماء.
فردة أخرى وعبقرينو معك، بدأت اللعبة واتسعت.
"لا بد أن القتيل كان يعمل في مقهى".
لكن عبقرينو أضاف: أو في محل كباب.
حرثتما المقاهي ومحلات الكباب، لم تتركا منقد فحم، هذا شبشب لشاب كان يقف أمام منقد الفحم، يهش عليه، يطير الفحم المشتعل، يمسكه بيده أحياناً ويعيده لموقعه حتى ولو لسعه كأنه يمسك طوبة، أو يسقط على الأرض فتدوسه الأحذية والنعال.
فردة أخرى تلوح لك، ومناقد فحم ومقاه ومحلات شي اللحوم.
أسبوع مضن، لم تترك غرزة حشيش إلا ودخلتها، راجعت أسماء من حضر ومن غاب، ربما القاتل في من حضر، حتى تنكشف الحكاية.
صبي يعمل في محل كباب لم يبلغ صاحبه عن اختفائه، وتعقدت الخيوط، ربما قتله صاحب المحل الذي غاب بالصدفة ولا أحد يعلم مكانه.
"اشتدي يا أزمة، انفرجي".
يقول لك عبقرينو.
تتأمل هذا الغاوي الذي يعمل بقلب ورب، أصبح اللغز لغزه والقضية قضيته، وكأنك أنت الذي تعمل معه لا العكس.
تصادف كل يوم واحداً من هؤلاء، جمعية أصدقاء الشرطة، الذين يكبسون على فروع البوليس، يحتكون بالضباط، يعرضون خدماتهم بوجه مكشوف، أحياناً يعرضون أشياء أخرى، يظهرون في الصورة، يبنون صيتاً وسمعة في المناطق التي يعيشون فيها أن القسم في جيبهم، وشيئاً فشيئاً يهرع إليهم الناس عند أية مسألة لها علاقة بالأقسام، المرور، البلدية، وأخيراً المباحث.
شيئاً فشيئاً يصلون إلى مشارف السلطة التي يرومونها ليل نهار، بعضهم طامح فقط لأن يقال عنه في منطقته إنه حبيب ضابط المباحث، يستمد سلطة كاملة من جملة وحيدة، بعضهم يعشق ضابطاً مع السلطة، يصعد معه إلى الكمين الذي يستمر لأربع ساعات أحياناً، يرتاحان معاً في سيارته المرسيدس، وربما ينام الضابط فيها، والأمر لا يخلو في معظم الأحيان من عشاء من الكباب.
لكن عبقرينو ليس واحداً من أصدقاء الشرطة الذين يركبون مع ضابط الدورية، ويطلبون منه أن يتكلموا في جهاز اللاسلكي وينادوا على القسم كأنهم ضباط.
منهم متربحون، يستغلون أسماء الضباط ليفرضوا سطوة وسلطة في مكان، ويتخذون ذلك معبراً حريرياً إلى النساء.
عبقرينو ليس واحداً منهم، هو تركيبة أخرى تمامًا.
نعم، شاب قتيل يعمل في محل كباب، ينام في غرفة أعلى المحل، ليس هناك أحد موضع اتهام، وصاحب محل كباب اختفى ليلة القتل، وفردة شبشب هدية من مسجل خطر وفردة أخرى من عبقرينو.
خيوط الحكاية بدأت تتشابك، سيحلها عبقرينو، سيحلها.
أنت وضعت أمامه كل شيء.
في كل مرة تضعه في المواجهة، يمتلك الغريزة والغواية، وما عليك إلا أن تحركهما، تحطه أمام الشاشة، تحكي له كل تفصيله وتتركه.
هناك ضباط يخفون المعلومات عن المرشدين الذين يعملون معهم.
أنت لا، أنت تضعه في قلب الإثارة، أمام بوابة النجاح، الناجح هو من سيحل القضايا، والكل يبحث الآن عن فرصة للتحقق في وقت شحت فيه الفرص، واحتكرها أبناء العاملين في أي مجال.
نعم، أعطيته الفرصة، ما إن قبض عليها حتى لضمها بحلمه، أخذها بقلب عاشق ممتن، يتقدم بجموح، ورغم أنه ناجح كمهندس اتصالات إلا أنه لا يشعر بذاته إلا وسط رائحة المجرمين.
يسوق وأنت نائم، يأتي في أنصاف الليالي، كان يقول لك في لحظة صفاء- يقولها بصوتك- يحكي لك بصوت ضابط مباحث: اللذة أن تفك اللغز، أن تصبح مسجلاً خطراً على المسجل، أن تتقمص روحه كأنك هو.
كنت تعامله على هذا النحو، علمته ألا يترك ولو نعلاً قديماً في محل الجريمة إلا أخذه ولعب عليه.
قال صاحب المحل أن ولداً جاء ليعمل عنده وسكن مع القتيل في الغرفة ذاتها.
رفعت الشبشب أمام مفتش المباحث وقلت بصوت عالِ: ألف مبروك، القضية انحلت.
هنا تقدم عبقرينو، عرف إن هذا الولد استلف نقوداً من القتيل، وحين طالبه بها بعد شهور استدرجه مع أصدقائه:
.. خرطنا وجهه كله حتى لا يعرفه أحد.
قتيل، طالب في الجامعة يعمل في محل كباب بعد الظهر ليعيش، يصرف على دراسته ويرسل لأهله الغلابة.
هناك دائماً ضابط مباحث فلتة، له مرشدون وأصدقاء، وفي الداخلية هناك مباحث للمواصلات والنقل والكهرباء وغيرها عدا المطافئ ليس لها مباحث.
تضحكان معاً:
"من سيتوقع الحرائق قبل وقوعها"؟
كان من نصيب عبقرينو أن أصبح اسمه: معاون مباحث المطافئ، يقولها الضباط والأمناء تندراً عليه، لكنه من حل اللغز في النهاية.
تهرش رأسك كأنك سقطت من علِ: هل كان ناجح يعرف الجاني حين قدم لك فردة الشبشب.
موهبة المسجل تسبق أحياناً موهبة الضابط، أو تسبقه في الفعل بخطوة.
بعد القضية، رغم حزنك على الشاب، علقت فردة شبشب على حائطك وأنت تسمع من خلفك: الضابط المجنون ومعاون مباحث المطافئ حلا القضية.
6
ربما تكون الآن أيها القارئ أمام باب السرادق، وإذا كان ناجح قادرًا على أن يبيع رفاقه وحلفاءه بهذه البساطة، مثلما فعلَ مع تاجر السلاح، دون أن يخشى القتل أو التهديد، فماذا تتوقع أن يكون؟ ولا تَقُل لي أن بيع الرفاق والتخلص منهم طبيعي ومتوقع في عالم الإجرام، هذه فكرة غير صحيحة عنهم، على الأقل ليس بهذه السهولة.
إذا نظرت من أي ثقب في خيمة السرادق ستعرفه دون أن يشير إليه أحد، ستعرفه من كرسيه، من صورته المعلقة في قلب السرادق بجانب صورة المرحوم ابنه.
هؤلاء قوم لا تعنيهم الأسماء، صورهم معلقة في القلوب وعلى الحوائط، حتى حوائط سرادقات العزاء، وفي نفوس تابعيه.
ولولا الخشية واستراتيجية ناجح: أن تظهر كأنك تختفي وأن تختفي كأنك ظاهر، لعلقوا صورهم على أعمدة الإنارة في المنطقة، لكنهم يفكرون في الأمر وقد يفعلون.
تفكر أن هذا الرجل يتخفى خلف الزعامة، يختفي منها، لكن المسجلين خطراً لا يقبلون بأقل من زعيم كبير، حتى وإن كانوا قتلة.
تفكر أن كل الناس في بلدنا تبحث عن زعيم، وإن لم يكن موجوداً لاخترعوه، يحملونه إلى الكرسي، يمجدونه يسبحون بحمده ولا يأكلونه، حتى لو أطاح النمل برجل كرسيه.
لا تلتفت لكلامي، أنت لن تفهمه وأنا لم أفهمه كذلك إلا مؤخراً بعد سنين طويلة من الشقى المالح، من الجري خلف الناس والمجرمين.
لا أعرف، هل أنا أفهم في علم النفس أم أستطيع أن أقرأ الوجوه، أم أفهم في الرسم والألوان؟
كل ما أريدك أن تنتبه له أنك ستصادف إن قررت الدخول للسرادق المعلم شحته، ستعرفه وحدك من هيئته، وجه بأخاديد مثل أرض عطشى ونظرة مستسلمة، قصير نحيل كأنه عصا ترتعد وتتلقلق داخل جلباب، بشرة تميل إلى الصفرة، يقولون رجل قراري، صعب أن تصل لقراره وعمقه، بشارب نصف منكس، لن تعرف ماذا يخبئ، وكل ذلك تحت طاقية طويلة تكاد تعادل ربع طوله وإن ظهرت كنصفه.
هو من سيصحبك إلى الكبير، ربما تجد دخاناً أبيض فوق رأسه وحده، حيث الدخان الأزرق يطير فوق الرؤوس الأخرى ويغطي المكان.
له صنف لوحده كما هو صنف وحده.
حين احتجنا بندقية آلية في حملة أخرى ولم نجد، كان ناجح في الموعد، أحضرها ووضعها أمامنا، بالطبع لم نسأله من أين؟ ولا هو انتظر، لكن المشكلة التي واجهتنا من الذي سيعترف بأن السلاح يخصه.
قال ناجح: "شحته موجود".
شحته النازح من أسيوط البعيدة الطاردة، المدينة القاسية على أهلها، يفتش عن لقمة عيش، حين اختبر الدكتور ناجح قدراته لم يجد له قدرة سوى أن يكون مرشداً، سوى الطاعة، أن يكون لاعباً احتياطياً يستدعيه متى احتاجه، يعمل في القهوة تحت عينه وينام في واحدة من شقق الدكتور، مستعداً للمساعدة لكن قلبه لا يطاوعه في الأذى، لا يفهم إلا في تعاطي الحشيش وتنفيذ الأوامر.
يشتري الحشيش بفلوسه أو بفلوس الآخرين، يبيعه دون أن يؤذي أحداً، وحين شعر بالأمان قال لناجح جملة واحدة: اطلب مني أي حاجة إلا أن أحبس أحداً.
وكما أن الممالك الكبيرة كهذه تحتاج مجرمين عتاولة مغاوير، تحتاج أيضاَ لهؤلاء الذين يؤدون الأعمال النظيفة، مثل الاعتراف بجرائم لم يرتكبوها وقضاء فترة قصيرة بالسجن.
بندقية آلية، لم يبق غير من يعترف بها.
هناك دوماً اتفاق غير مكتوب، اتفاق جنتلمان، أن يكون المحضر خفيفاً طالما أننا لم نضبط البندقية فعلاً، محضر به ثغرة خفيفة تساعد في تخفيف الحكم وإغلاق الجناية بعد أن سددنا الخانات.
يتقدم شحته ليتصدر المشهد، كل فترة قد تجد واحداً يزجونه غصباً أو بمقابل، لكن لم يوجد بعد هذا الذي يفعلها بمزاج إلا المعلم شحته، أحياناً يأتي ليسأل، يحبس بشغف وافر، الحبس عنده ليس وظيفة، بل يجري في دمه، في كل خلية من خلاياه.
"الدنيا معمولة من أجل سيدنا محمد، والحبس معمول من أجل شحته".
وعليه يدفع الدكتور ناجح لشحته يوميته كأنه يعمل، يحتفظ له بالنقود لحين خروجه، يوكل له محامياً، يستعين بشهداء الزور، ويرسل له في السجن كل ما يحتاجه حتى تنقضي المدة ويخرج بألف سلامة.
حبس عشرات المرات، يقول ببساطة: الحبس ليس شيئاً كبيرا. تعود عليه لكنه تعب.
أحياناً تحس أنه مشتاق للحبس كأنه بيته، أحياناً يحضر كأنه ذاهب لامرأة يعرفها جيداً، لا يريدها ولا يرفضها.
في لحظة ضاقت به الدنيا، ولا امرأة تدلك له ظهره وتعبه، لا يقرب امرأة بالشهور لكنه ينتظر ولا أمل، الحبس يضيع عليه الفرص، ولا يريد أن يرتبط بنشالة أو هجامة من بني جلدته، على أمل أن يكنز مالاً يعود به ويتزوج.
جسمه خفيف وروحه أخف، لا يقدر على الأعمال الثقيلة، فكر أن يعود من حيث أتى، يصعد لجبل أو مغارة.
يبدو كأنه ابن ليل متخف، ملامحه النحيلة تبعث على الاستهزاء، لكن عينيه الميتتين تدلان على سر آخر أو وهم آخر.
عينه ليست ميتة من شدة الإجرام، بل من شدة الغلب.
هنا لا أحد يصدق بسهولة أنك غلبان وبدون خرابيش، إن لم تكن مجرماً فأنت مرشد أو مخبر.
في جيبه مطواة قرن غزال، يسحبها بخفة ويفتحها ببراعة، حين لا تجده في السجن أو المقهى يكون هائماً في إحدى الغرز، بعد أن عمروا الرؤوس همس له أحدهم:
تبيع كليتك؟
حين أخرج له المطواة راح الحديث في سكة أخرى:
إذاً فلتبع خصيتك.. فرصة عمرك، الجماعة ينقبون الأرض عمن يبيع، أنت تعرف أنهم لا ينجبون.
"كله إلا خصيتي، أنا أعيش في الدنيا بسلاحي، لا يمكن أن أتنازل عنه لأحد".
"مليون جنيه يا برنس".
سال لعابه، حار ودار، سأل من خلف الجميع، حين اطمأن إلى أنه يستطيع أن يعاشر وينجب بخصية واحدة، راح يفكر في بيع شقيقتها، أن يحصل على مليون جنيه مرة واحدة ويصبح معلماً كبيراً دون حبس، يودع الشقاء ويرتاح.
يخشى أن يفقد رجولته ولا تستطيع مئة مليون أن ترفع رايته بعدها.
حين يمشي يضع يده في سيالته، لا تعرف إن كان ممسكاً بخصيته أم بمطواته، في الغالب يتحسس مقاسه:
الأجانب يدفعون مائة وعشرين ألف دولار.
لكن لا شيء في الدنيا يساوي أن تتكرع امرأة تحت ساقيك، بعدها ستجلس تحت رجليك، بعد أن تكون قد حممتك وتولع لك نفسين من الحشيش.
أخرج يده من جيب جلبابه، لتكن حبسة أخيرة ويبيع، أقسم ألا يعود بعدها وأن يحمل البلاد على كتفه كما تحمله أرضها.
يجب أن يغير نشاطه، أن يخلق عالماً على مقاسه.
حين مرض رفض الذهاب للمستشفى خشية أن يستأصلوها خلسة.
حبسة أخيرة.
أخذنا البندقية، جاء شحته خلفنا إلى القسم، قلنا له عد في الغد حتى نتم المحضر، وعندما جاء الغد تكرر الأمر، ثلاثة أيام يأتي ولا يحبس، يأتي ويعود، يدخل ويخرج كأنه واحد منا.
وعلى غير توقع جاءني تليفون من ناجح:
"شحته يأتي لسعادتك كل يوم وأنتم تعيدونه، إنه يسألني كل ساعة، جزمته ذاب قعرها، أصبحت من غير نعل وصار يمشي على الجورب".
ضحكت بصوت عالِ.
"إنه يسألني: متى ستحبسونه يا سعادة الباشا"؟
7
ادفع نص عمري والباقي أقسطه
وترجع لي عقلي اللي انت ملخبطه.
تمد يدك لترفع الصوت قليلاً، لن يصدق أحد أن هذا الشريط هو الهدية الوحيدة التي تلقيتها وقبلتها، وممن؟ من الفيلسوف ناجح، فيلسوف الجريمة الذي لا تعرف بالضبط كم مرة انتحل صفتك ليأتي لك بقضية، كنت تعرف وهو يقول بابتسامة صفراء: مضطر يا سعادة الباشا، فعلتها لأجلك.
المهم أنه وصل، لست في حاجة بالطبع لأن أذكرك أنه بدل ملابسه، وضع نظارة أنيقة على عينيه مثلك، ولم ينس أن يحمل علبتي مارلبورو في كفه الأيسر كما يفعل كل ضباط المباحث.
الجميع ينتحل، ولم لا، السلطة مغوية تعمي القلب، تلغيه، تسمح بالكذب بالتجريب وخرق كل شيء.
حتى قمر الراقصة فعلتها.
حتى باسل فعلها.
جالساً في مكتبي، ألتقط أنفاسي بعد يوم مرهق، ربما تنتهي الليلة سريعاً، وأمر على أي مكان أتناول فيه عشاءً مثل بقية البشر، عند الرجل الذي يعلق لافتة مكتوب عليها: الكفتة بالمتر، أشك في أن هذه الكفتة كفتة حمير بالأساس، لكن الكثرة تغلب كالعادة، لا مكان فارغاً عنده ولا حتى في الشارع الذي احتله، حين رن التليفون خطفته خطفاً: يا ستار.
كان الصوت على الطرف الآخر لرجل، قال: حضرتك لما تحب تدخل البيوت ادخلها من بابها.
بسرعة البرق دون ثانية تفكير: أنا أخش من الحتة التي تعجبني.
ورغم أنك لا ترد أبداً بهذه الطريقة، إلا أنك دون أن تدري رحت تكتسب ألفاظاً وعبارات تفلت منك وحدها.
كما أنك أيضاً وسط ذئاب ألسنتها فالتة لا يعترفون بالضابط المؤدب على طول الخط، يستغلون أدبه، يتندرون عليه وربما يتعشون به.
كما أنك لا تعرف من يتحدث على الجانب الآخر:
"الحكاية أن.."
قاطعتُه: "تعال لمكتبي".
حين رأتني ابنته قالت: "لا، ليس هو، بل شخص آخر، باسل شخص آخر".
تتكرر الحكايات كل مرة بنكهة مختلفة، وأنت مستمتع وغير قلق رغم القلق الذي يصاحبها، أنت لا تنسى أنك فنان، قلقك في مكان آخر، تلعب على اللوحات وتلعب هنا أيضاَ، الفرق أن الأولى تخصك وحدك أما الثانية فتخص آخرين.
عاش باسل معنا في المباحث، واحد مننا، طويل وسيم، في أول شبابه، مثله مثل الحيارى والعاشقين شهداء الشرطة الموهومين بها، أفلتت منه الفرصة، ورغم أنه دخل كلية الحقوق إلا أن دمل البوليس ظل ينقح عليه، شغفه بالمباحث لم يتركه على حام ولا بارد، فشل في الدخول فأعطيناه فرصته، لم ينجح أن يكون ضابطاً فصار ضابط مباحث ولو بالقلم الرصاص.
اقترب منا، لا أتذكر كيف جاء، فجأة وجدناه بيننا، لا، لا، تذكرت، تعارك مع ضابط مباحث، قال له: "أنا كان ممكن أكون ضابط زيك".
يحضر قبل أن نحضر، يراجع القضايا المفتوحة، يضع الخطط بحماس، يغادر معنا بقوام ممشوق كأنه ضابط في فيلم أمريكي، مستحيل أن تتخيل هويته خارج البوليس، أصبح اسمه باسل باشا، ملامح اكتسبت حدة جعل من الصعب عليك أن تجتاز مسافة الهيبة بينك وبينه بسهولة.
لم يترك قضية إلا وسهر معنا عليها، سيارته تحت قدمه وتحت أمرنا، يحفظ كل عناوين المرشدين وأرقام هواتفهم وهواتف البقالين في أحيائهم، يحفظ كل صور المجرمين في دولاب المباحث، وحين يروق يحكي لك عن الجرائم العجيبة التي يشاهدها في الأفلام، أو التي يطالعها في الانترنت الذي كان يعرفه أكثر منا في بداية ظهوره.
يعمل في مكتب محاماة ملك والده، لذا يقضي كل وقته معنا، ويقضي وقتاً مستقطعاً في مكتب والده الذي تعب منه وإن جاراه غصباً، حين يراه يقول في وجهه: أهلاً بالخبير الأجنبي، يعرف أنه معذور، كما أنه يفتح للمكتب سككاً هنا وهناك.
مفاتيحه مُعلَّقة في عروة بنطلونه، علبتا المارلبورو في يده اليسرى.
الصورة الكاملة ولا تذهب بعيداً، ينظر للأمام عند مرورنا أمام النوبتجية، يحفظ أرقام المحاضر، أيام وقوعها وتفاصيل التفاصيل.
تعرَّفَ على البنت الساحرة الجالسة أمامي الآن مع والدها، انتحل اسمي وقدم نفسه كرئيس مباحث وسيم- أعترف أنني كنت وسيماً – وعدها أن يتقدم لخطبتها، حين طلبها على الهاتف لبسه الدور وأفلتت منه الحكاية، قال بلهجة آمرة لأخيها:
"هات أختك، أنا رئيس المباحث".
ولأن الطريقة لم تعجب أخاها أقام الدنيا وأقعدها مما دفع الأب أن يطلبني:
"البيوت لها أبواب يا سعادة الباشا".
لا تعرف، تضحك أم تختفي، سمعتك في الدائرة كما الطبل، ضابط يأتي للناس بحقوقها، هادئ الأعصاب، لا يخطئ ولا يسب أحداً، يتحاكون باسمك.
وأن ينتحل واحد اسمك فهذا متوقع، لكن أن يغازل باسمك فلا وألف لا، ولا تعرف كم من مؤخرة اعتلاها، والخوف كل الخوف أن يكون صنع سمعة سيئة في هذا المجال.
.. "يجب أن تحرر له محضر انتحال صفة"، قال زميلك.
"ومحضر غزل غير عفيف أيضاً"، قلتَ أنت.
في النهاية قلتُ لا، أكل معنا خبزاً وملحاً، أكل معنا كيفما اتفق، المصيبة أنه كان يجب أن يكون ضابطاً وأفلتت منه لسبب أو لآخر، لم تكن معه واسطة تحمله إلى حلمه.
كما أنه تعرض للخطر أكثر من مرة، بل كان يتقدمنا جميعاً ككبش فداء محتمل، وأن يكون مغرماً بالبوليس وحل ألغاز الجريمة أفضل بكثير من أن يكون مغرماً بصناعة الجريمة.
تحت الضغط والمنطق اضطررت لعمل محضر.
تتذكر الآن أنك سعيت لتخفيف الدوافع حتى يحصل على حكم مخفف، كنت تفعل ذلك من وراء قلبك، بجزء من العقل الذي تدخره لحماية اسمك وسط محيطك المتنمر الذي راح يلوك الحكاية كخطأ موجه لك، وكبطولة أيضا: سمعتك هي من أغرت الناس لينتحلوك، هذا طبيعي ويحسب لك.
أنت من يجب أن يمشي كالطاووس في الشوارع، لكنك لا تفعل، بينما آخرون يسرقون ريشك ليتزينوا به.
كان محرجاً حين قابلته، غطى وجهه ودموعه تسقط من بين أصابعه، أحس بإحراجي، بالموقف الذي وضع نفسه فيه ووضعني.
أخذ حكماً مخففاً مع إيقاف التنفيذ.
المسألة ليست في الرحمة فقط، بل في المواءمة، في العيش والملح، في أن تقدر الدوافع طالما أنك لا تؤذي أحدا.
ثم إنك كنت دائماً مع أشواق الناس، أنت تحديداً المضروب بعنف وعمق بالمسجلين خطر حتى وإن أصابهم خبل في أحلامهم.
المصيبة أو الغريب أنك بعد عمر كنت ترى أنهم يفعلون ذلك بمتعة غريبة، صحيح أن أكثرهم مغروز في بئر الخطيئة، لكن بعضهم ينشل محفظتك بأصابع عاشق سعيد، لا يعنيه من أنت، تعنيه الغنيمة والطريقة.
حتى في العشق، بعض الصيادين مهما أعجبتهم الطريدة، ما يبقى في قلوبهم ويكاد ينط من صدورهم هي الطريقة التي صنعوا بها الفخ واصطادوا طيرهم.
تكاد تضحك، أنت أيضاً فعلتها مع قمر.
تلمح طيفها بعينيك، تعبر الطريق مارة من منتصف الميدان وسط السيارات من أمام مكتبة مدبولي، لم تعرفها من وجهها ولا من شعرها الذي لا بد قد بدلتهما الأيام والموضة وألعاب الزمن والنساء، عرفتها من مشيتها، تخطر كغانية في فيلم إيطالي قديم، عرفتها من حركة الكعب العالي رغم الزحام، والانحناءة الناعمة للخصر على المؤخرة، بين كل مئة امرأة ستجد واحدة فقط يرتاح خصرها على خلفيتها راحة غريبة، كأنهما نُحِتا معاُ، انحناءة ناعمة مرعبة قدمتها لها الطبيعة فاستثمرت فيها.
أدعك عيني بسرعة، ادعك عينيك بالله معي، ربما تكون واحدة أخرى، وأنت الذي تعيش بلا امرأة لا بد أن تحلم بسوق النساء.
دعك من خيالاتك وخلك في الزحام، حين تعطيك جانبها تتأكد تماماً أنها هي، مؤخرة بجناحين، نادرة في العصر الحديث، خصر بقوسين من الجانبين، كمانان من الأبنوس، حين كنت تمسكها منهما وكأنك تدير الدفة تبتسم بشراسة وتقول لك:
جدتي كانت تجسنا عند البلوغ وتقول:
"مؤخرة السمكة.. ميراث العائلة".
نعم سمكة بزعانف من الجانبين، المرأة السمكة.
هل هذه الزعانف هي من أغوتك؟ لم تعرف امرأة في حياتك لم تكن فيها لمحة فنية، أنف أخنس مثل أنف نادية لطفي بطاقتين مفتوحتين تقدحان شرراً، وتعرف أنك حين تطير معها في الفضاء ستلفحك النار، أو واحدة رقيقة تكاد من فرط هشاشتها أن تنفرط وتتفتت من بين أصابعك، أو أخرى لها شفاه الزنوج، شفاه بخيرها بشوكها، تلك الشفاه البطل في الملامح، شفاه نساء لوحات جوجان، لا تعرف إن كانت النار تخرج منها أم هي التي تخرج من النار في كل لحظة، وغلالة ساخنة تكسو الوجه والمكان، شفاه أقرب لشفاه الممثلة كاميليا بجملة رشدي أباظة: كانت كتلة من اللهب تنهار بين ذراعي وتذوب.
تبخرت منك في الزحام، تبخرت لكنها لم تتلاشَ من روحك.
لعوب بأناقة، كمفعول حقنة في الوريد، تتذكر حين هاتفتك، أنت ترد فقط حين تكون يدك فارغة من عمل، وحين تكون مشغولاً يرد شاويش السنترال ثم يحول لك.
تتذكر الآن أنها قالت إن هناك لصاً يكسر هَوَّايات السيارات ويسرق أجهزة الكاسيت منها، قلت لها: أنتظرك.
ولم تأت.
يومان، ثم مرة أخرى أعادت نفس الجملة، كدت تقول لها إنك لن تبحث بلاغها قبل حضورها لكنك تراجعت، أخذك صوتها، صوت مرقوع تأتي بحته في آخره، تظهر في الختام كأنها سلاح خفي، صوت لعوب مغو، صوتها الحقيقي دون ألعاب الأنوثة، دون أدنى تصنُّع أو ادِّعاء أنوثة، أضافت جملة قبل أن تنسحب بسرعة:
"الأجهزة المسروقة على سطح عمارة أسفلها محل بيع أنابيب الغاز".
صعدت بنفسك، أحضرت المسروقات، وقبضت على اللص.
انتظرتها، وجاءت.
بعد المكالمة الثالثة جاءت.
لا تعرف لماذا تحتاج هذه المسائل اللعوب لثلاث تكات؟
حين وضعت ساقاً على ساق عرفت أنها تريد أن تكسر الكلفة بينكما، لا أحد يضع ساقاً فوق أخرى في حضرة رئيس المباحث، رحت تسأل نفسك سؤالاً واحداً: كيف لهذه القدم الصغيرة أن تحمل كل هذه الغنيمة.
ابتسمتْ ابتسامة العارف، كانت تعزف جيداً.
الآن تتذكر لوحتها التي رسمتها لها، خف في الهواء يحمل غيمة كبيرة، تمطر عسلاً يشعل حرائق في نباتات القلب.
.. اسمع، أنا راقصة أعيش في دار السلام مع أمي، لا أستطيع أن أخبر أحداً عن عملي وإلا قطّعوا لحمي نتفاً، واحتفظ كل واحد منهم بقطعة، هم أولى بلحم بنت حتتهم.
لا يهمني أحدٌ لكنني أحسب العواقب، أدخل بالعباءة وأخرج بها.
عندما ظهرتُ في أحد الإعلانات تركتُ المنطقة لكنني أعود لأمي التي تحب بيتها وناسها،
وتقول: بنتي ترقص في حالها بعيداً عن هنا.
كسر هذا اللص زجاج سيارتي، كان يريد أن يكسر قلبي، أقسم أن يسرق ألف جهاز كاسيت مهراً لي، لم يخبرني أحد، حذرتني أمي من انتقام بقية اللصوص، كلهم يدارون على بعضهم بعضا، لم أستطع أن أجيء إليك، لذا كلمتك في التليفون وأنا مترددة.
والآن؟
.. طار في الهوا شاشي وأنت ما تدراشي.
السنارة غمزت.
مررتُ معها على النوبتجية لإثبات المحضر، لأقطع الطريق على من يفكر أن يأخذ عنوانها ليلعب، في هذه اللحظة ظهر الشاويش عبد العزيز عامل سنترال القسم، تجاوز الستين بخمس، يجددون له كل عام بعد أن تخطى سن المعاش، مخزن أسرار القسم كله، يتنصت على المكالمات، ورغم أن سبعة مآمير حذروه من قبل إلا أنه لم يستطع أن يكبح غواية التصنت، وإن اكتفى في السنوات الأخيرة بالتصنت فقط عندما يكون المتصل امرأة.
ورغم أنه رجل كبير إلا أنك أمسكته ذات مرة بعنف من أذنه وقلت له: لو فعلتها ثانية سأقطع خرطومك، ومن يومها يغالب طبعه حين تكون المكالمة لك، وإن لم يخل الأمر من حركات مفقوسة حين يدخل عليك في المكالمة ليقول لك: الباشا المأمور سأل على سعادتك أمس.. ولا يقفل الخط سريعاً.
حين رآك مع قمر تراجع للخلف ودخل غرفته، لكن ذلك لم يمنعه أن يتلو مزاميره، يقول بصوت خفيض:
"بكرا تفرج، وفرجها يبان"
ليست مترددة ولا أنت.
طرت وراءها، لم تفعلها بهذا الاندفاع من قبل، كانت قد أجرت شقة في شارع الهرم، ورحت تزور الهرم، تعرف أسرار خوفو وحدك، تدخل إلى خبيئته دون أن تخشى أن تحني ظهرك، تدخل إلى عمق الهرم حيث لا يدخل أحد، تفتش عن الأسرار، تفتش في ملابسات القضية،
عرق الراقصات له رائحة أخرى وطعم آخر، وسيرتهن غير سيرة، وأصواتهن أصوات بخلاخيل، بصاجات، زفة كاملة.
أحياناً تتساءل عن السر في غرام الضباط وأصحاب السلطة، أية سلطة، بالراقصات وبائعات الحب، ولا تجد جواباً، تبحث عن السر في الأمر والخيط الذي يسحب الرقاب إليهن.
قال واحد: تتفرج عليها الدنيا كلها، يحلمون بها، وهي تحلم بك وحدك.
قال آخر: أنت تأخذ كل العيون التي نهشتها، تغمضها، وتفتح عينيك وحدك.
قال الأخير: تغني للجميع بالصمت وتصيح عندك وحدك.
تتعرى أمام الناس وتتغطى بحضنك.
ثم أنك لم تنس أبداً أن من غيرت مسار حياتك كانت راقصة.
صاحب العمارة التي تسكنها عينه منها، ملهوف عليها، حاول معها مرة قبل أن تظهر أنت، وحين ردته بقسوة تراجع، لكن حين ظهرت استغل اللعبة، لاعبها وناغشها على المكشوف، ضيَّق عليها الخناق، تعاركت معه:
قلت له اسمك، قلت إنك خطيبي.. وإنك هتطلع دين أمه.
هددته دون أن تخبرني.
وجدت في انتظاري شكوى: يتردد على امرأة سيئة السمعة لا تليق بالوظيفة، في بيتها، يقيم معها علاقة ويعيش معها.
الضابط المحترم هو الذي لا يفتح يده ولا سوستة بنطلونه.
وأمها تقول: "بنتي رقاصة في حالها".
وشريط ناجح ينساب:
يا مضيع لي حقي
يا ملخبط لي عقلي
عمري ما سبت قلبي
لعبة أنا بين ايديك.
أنت متهم بإقامة علاقة مع راقصة..
هنا كان لا بد لباسل أن يظهر مرة أخرى.
أخرجتُ المحضر الذي شكوت فيه الأستاذ باسل، المحضر الذي كنت أرفض أن أشكوه فيه من أجل العيش والملح والطلقات التي أطلقت علينا.
.. هناك دائماً من ينتحلون اسمي وصفتي، ويفعلون بها الأفاعيل.
قدمتُ واقعة باسل دليلاً على براءتي.
ونجوت.
خد عليّ شيك، خد علي وصل
أنا ممكن أشتكيك لو قليل الأصل.
نجوت في اللحظة التي رن فيها هاتف من الخارج وسط الزحام:
أنا باسل يا سعادة الباشا، أعيش في الإمارات، دخت على تليفونك، إذا كنت تحتاج أي شيء أنا تحت أمرك، سأنزل من باب الطائرة، وأكون عندك في ساعتها.
"غداً تفرج، وفرجها يبان".
لا، لا، قمر كانت مغنية، كذبت عليك، أنا أهذي معظم الوقت، ذاكرتي خربت، السلوك دخلت في بعضها، حين واجهتها قالت إنها كانت تحتاج حبيباً، يحبها بصدق حتى لو كانت راقصة، كأنها لا تعرف أن الناس لا يهربون من الراقصات إلا ساعة الزواج فقط.
الهروب من راقصة ترف غير محتمل.
وأياً ما كان الأمر فهي كانت راقصة تغني الآهات في حضنك، عندما تكون في إجازتها تشعر أنها لك وحدك، تتأوه بدل السهارى، لليل كله، كأن الله حين خلق الظلام خلق معه تأوهات النساء.
ربما كانت تحسب أنها علاقة عابرة.
"خفت منك في البداية".
خافت مني فادعت أنها راقصة، ماذا لو لم تخف؟ هل كانت ستدعي أنها الأم تريزا.
حمارة.
دموعها تسح لكن دون بكاء:
كنت راقصة درجة ثانية، ولما سمعوا صوتي وأعجبهم غيرت النشاط رغم أن السوق كانت عطشانة للخلاخيل، المشكلة إن الذين قاوموا اعتزالي لم يؤمنوا يوماً بموهبتي في الرقص، فقط آمنوا بلحمي.
هات لي بدلة ضابط وأرقص لك وحدك.
لا ينسى الناس عملك الأول أو وظيفتك الأولى خاصة إذا كانت وظيفة حراقة.
أنت أيضاً مهما أقمت من معارض، وأعجب من أعجب بلوحاتك سوف تسمع دائماً جملة يتيمة:
نعم، شغله جميل، هذا الذي كان ضابطاً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.