في الصباح خلع ملابس النوم ونطر الشبشب من قدميه بسرعة ليلحق بموعده، وهو يترك الغرفة وقع نظره علي فرد شبشب مقلوبة علي وجهها. حدث هذا مرات من قبل. لكنه انتبه اليوم. توقف وعاد ليعدل وضع الفردة المقلوبة وخرج. كان عنده قضية. وحكمت المحكمة لصالحه ونسي أمر الشبشب. بعد شهور رأي فردة الشبشب مقلوبة فوق الأخري. كاد يعدلها. لكنه انشغل بتلبية بعض تعليمات زوجته. خرج فتعثرت قدمه في نتوء صغير بالأرض. اختل توازنه وسقط. التوي كاحله، لكنه نهض وذهب إلي عمله فهو جراح ماهر يجري بعض العمليات الدقيقة ثلاث مرات أسبوعيا ويدعو له المرضي بالستر والصحة. عاد يومها ومازال يشعر ببعض الألم في قدمه. دخل غرفته فشاهد فردة الشبشب التي نسي أن يعدلها. صاح هاتف داخله: إذن هذا هو سبب تعثره. بعدها ظل يحرص علي ألا يترك فرد شبشبه مقلوبة. في جلسة سمر مع بعض أصحابه من المهندسين والقضاة والمسئولين حكي أحدهم شيئا يشبه ما حدث له. ترك فردة شبشبه مقلوبة فحصل له ما ضايقه. علق آخر بأن هذه خرافة. فلا يوجد أي رابطة بين وضع الشبشب مقلوبا وما يحدث للمرء من خير أو شر. دار نقاش سريع وانتهي ولم يشاركهم الكلام فيه بل سرح مع أفكاره. سأل نفسه عن أصل الموضوع معه. تذكر أنه وهو طفل سمع جدته مرة تحذر من ترك فردة شبشب مقلوبة لأن هذا يجلب النحس. لم يفهم الأمر تماما بحكم سنه ثم نسيه. يتذكر الآن أنه سمع ما يشبه هذا المعني من شخص آخر أو أكثر ولكنه لا يتذكرهم. سأل نفسه لماذا صحح وضع فردة الشبشب لأول مرة! تذكر أنه كان يعاني القلق بسبب انتظاره لحكم المحكمة رغم تأكده من عدالة موقفه، لكنه قال وقتها: من يدري؟ وأجاب: بالطبع لا أحد يعرف المستخبي إلا الله. ولا علاقة بين حكم المحكمة أو تعثر قدمه بفردة الشبشب. فضلا عن إيمانه بأن كل شيء بيد الله وأن المرء يجب أن يحمد الله مهما حدث له. إذن لماذا ربط بين فردة الشبشب المقلوبة وهذا التوجس وتوقع حدوث الشر؟ تداعت أفكاره فقال لنفسه: تلقي البذور في الأرض. وتسقي بالماء من وقت لآخر وسرعان ما تظهر نبتة. ثم تستوي لتصبح شجرة. وكانت نفسه عندما سمع نصيحة جدته مثل أرض ألقيت فيها هذه البذرة والآن أصبحت شجرة. صحا يوما في حالة نفسية رائعة. لاحظ فردة الشبشب المقلوبة. ودون أدني تردد مد قدمه وصحح وضعها وانطلق. لكن يومه لم يكن جميلا بأي حال. مرة أخري يتأكد أنه لا علاقة بين الشبشب وأي شيء. ولكنه رغم ذلك لم يتوقف عن عدل فردة الشبشب بعد ذلك أبدا وبلا أي تفكير. كان يعلم أنه لا منطق ولا علم يقف خلف فعله. مرة واحدة فكر وأجاب علي نفسه فورا بأن تكراره لهذا الفعل لن يجعله يخسر شيئا. بل اكتشف أن له فائدة وهي راحة باله من أي تفكير. ثم إن هذا لا يتعارض مع كونه مؤمنا. فلا دخل لإيمانه بعدل فردة الشبشب. وربما كان فيه رمز لعدم الرضا عن أي أوضاع مقلوبة! ما حكيته لك هو قصة تافهة - أو هكذا تبدو- لكنها تحدث لكثرة من الناس عندنا وفي بلاد مجاورة وفي بلا بعيدة عنا أيضا. هناك من يعد أعمدة النور أو الأشجار وهو سائر يوميا بلا سبب يعلمه هو نفسه. وهناك من يحرصون علي وضع الأدوات والأشياء في منازلهم بترتيب ونظام محدد ويقلقهم مجرد الشك أنها أزيحت ولو أقل من سنتيمتر عن مكانها. وهناك من يغسلون أياديهم عشرات المرات يوميا بلا سبب. وهؤلاء جميعا أعضاء في جمعية مرضي الوسواس القهري. وهو المرض الذي بدأ الأطباء تصنيفه منذ عام 1838 حسب ما يقوله بعضهم. عندما أقرأ الصحف وأشاهد التليفزيون وأسمع مناقشات الناس في الجلسات أو في الشوارع أشعر أن الوسواس القهري لا يصيب الأفراد فقط، ولكنه يصيب المجتمعات أيضا وبخاصة في منطقتنا. ولا عجب فبما أنه من الأمراض المعترف بها فهو ينتقل بين الناس بحكم العدوي. العدوي الفكرية إذا صح التعبير. ولا يعنيني المصابون بالمرض بقدر ما تعنيني الحالات المخففة منه كحالة فردة الشبشب و ما يشابهها. معظمنا يجد راحة باله في عدل الشبشب . يشعر في داخله أنه بهذا يعدل موازين الكون لا مجرد فردة شبشبه فقط. لماذا يشغل باله ويفكر وفي هذا قلة الراحة. راحة البال. فليقل مثل ما يسمع ويخرج من بيته سالما من عناء التفكير. فليكرر الكلام كأنه يعد أعمدة النور أو فليغسل يديه عشرات المرات بلا سبب وسواء كانت صحته أفضل أو أسوأ من غيره. فهو يغسل يديه من كل الأمور التي قد تقلق باله. ولا يحب أن يربط بين كلامه وبين المنطق أو العلم أو الواقع. ثم هو لا يري في هذا أي خروج عن الدين. بل هو يقول بين كل كلمة وأخري جملة كاملة هي (إن شاء الله). كأن محدثه يقول له العكس. وكأن هذا ليس بديهيا ويحتاج إلي أثبات منه هو شخصيا. والغريب أنه أحيانا ما يقولها وهو في داخله يضمر عدم الفعل الذي يقول إنه ينوي فعله أو المشاركة فيه. ستزول إسرائيل مثلا إن شاء الله. واسمي فلان إن شاء الله. وهذا الشارع اسمه كذا إن شاء الله. ونعم بالله. نحن سكان هذه المنطقة في العالم مصابون بمرض الوساوس الفكرية القهرية. وهذا هو ما شاءه الله فعلا وعملا ومنذ قرون وحتي الآن! فردة شبشب تعمل أزمة من غير لازمة!