اعتراف إسرائيل بما يسمى بإقليم أرض الصومال يهدد دول الشرق الأوسط.. التفاصيل    ترتيب مجموعة المغرب بعد التعادل مع مالى فى بطولة أمم أفريقيا    فلافيو: الفراعنة مرشحون للقب أفريقيا وشيكوبانزا يحتاج ثقة جمهور الزمالك    السكك الحديدية تدفع بفرق الطوارئ لموقع حادث دهس قطار منوف لميكروباص    البنك المركزى يخفض أسعار الفائدة 1% |خبراء: يعيد السياسة النقدية لمسار التيسير ودعم النمو.. وتوقعات بتخفيضات جديدة العام المقبل    في احتفالية جامعة القاهرة.. التحالف الوطني يُطلق مسابقة «إنسان لأفضل متطوع»    إدارة المواقف بالبحيرة تحظر جلوس السيدات بجوار السائق في سيارات الأجرة والسرفيس    ريابكوف: لا مواعيد نهائية لحل الأزمة الأوكرانية والحسم يتطلب معالجة الأسباب الجذرية    منظمة التعاون الإسلامي تدين بشدة اعتراف إسرائيل بإقليم "أرض الصومال"    الأمم المتحدة: أكثر من مليون شخص بحاجة للمساعدات في سريلانكا بعد إعصار "ديتواه"    لم يحدث الطوفان واشترى بأموال التبرعات سيارة مرسيدس.. مدعى النبوة الغانى يستغل أتباعه    بعد حركة تنقلات موسعة.. رئيس "كهرباء الأقصر" الجديد يعقد اجتماعًا مع قيادات القطاع    الفضة ترتفع 9 % لتسجل مستوى قياسيا جديدا    المغرب يسقط في فخ التعادل أمام مالي بكأس الأمم الإفريقية    أمم إفريقيا - هاني يعتذر بعد تعرضه للطرد ضد جنوب إفريقيا    طارق سليمان: شخصية محمد الشناوى الحقيقية ظهرت أمام جنوب أفريقيا    دورجو يقود يونايتد لفوز ثمين على نيوكاسل في الدوري الإنجليزي    منتخب مالي يكسر سلسلة انتصارات المغرب التاريخية    يايسله: إهدار الفرص وقلة التركيز كلفتنا خسارة مباراة الفتح    إخماد حريق داخل أكشاك فى منطقة رمسيس دون إصابات.. صور    قطار يدهس "ميكروباص" قرب محطة سرس الليان في المنوفية    خبيرة تكشف أبرز الأبراج المحظوظة عاطفيًا في 2026    زاهي حواس يعلق على مناظرته مع وسيم السيسي: "لم يحترمني".. فيديو    بعد واقعة ريهام عبدالغفور.. عمرو أديب يحذر: هتحصل كارثة لو هنسيب المجتمع كده    زاهي حواس يحسم الجدل حول وجود "وادي الملوك" الثاني.. فيديو    والده أثار قلق محبيه بشأن حالته الصحية، سر تصدر "محمد القلاجي" مواقع التواصل الاجتماعي    لماذا تحتاج النساء بعد الخمسين أوميجا 3؟    الإسكان تجدد تحذيراتها لمستفيدي شقق الإسكان الاجتماعي    الإسكندرية ترفع درجة الاستعداد لإعادة انتخابات مجلس النواب بدائرة الرمل    د. خالد قنديل: انتخابات رئاسة الوفد لحظة مراجعة.. وليس صراع على مقعد| حوار    الأمم المتحدة: الحرب تضع النظام الصحي في السودان على حافة الانهيار    ترامب: غارات أمريكية في نيجيريا دمرت معسكرات لإرهابيين بالكامل    صلاح حليمة يدين خطوة إسرائيل بالاعتراف بإقليم أرض الصومال    محمد خميس يحتفل بزفافه ب «الجلباب الصعيدي» | صور    لفتة إنسانية.. وزير الأوقاف يستضيف نجوم «دولة التلاوة» ويؤكد: جميعهم أهل للفوز    أخبار × 24 ساعة.. موعد استطلاع هلال شعبان 1447 هجريا وأول أيامه فلكيا    الإعلامي محمد سعيد محفوظ يغيب عن برنامج "العاشرة" لهذا السبب    غدا.. محاكمة أحد التكفيرين بتهمة تأسيس وتولي قيادة جماعة إرهابية    بدون حرمان، نظام غذائي مثالي لفقدان دائم للوزن    بإجمالي 36 قافلة.. الجيزة تستعد لإطلاق القوافل الطبية العلاجية بالمراكز والمدن    الشدة تكشف الرجال    أخبار مصر اليوم: رسالة عاجلة من الأزهر بعد اقتحام 2500 مستوطن للأقصى.. قرار وزاري بتحديد أعمال يجوز فيها تشغيل العامل 10ساعات يوميا..التعليم تكشف حقيقة الاعتداء على طالب بمدرسة للتربية السمعية    جامعة قناة السويس تستكمل استعداداتها لامتحانات الفصل الدراسي الأول    لميس الحديدى ووزير التعليم    لماذا لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة خديجة طيلة 25 عامًا؟.. أحمد كريمة يُجيب    أحدث تصوير ل مترو الخط الرابع يكشف آخر مستجدات الموقف التنفيذي للمشروع (صور)    غرامة كبيرة| مخالفة القيادة بدون رخصة.. إحذر قانون المرور الجديد    وزير التعليم العالي يفتتح استوديو جامعة بورسعيد بتكلفة 21 مليون جنيه.. صور    رئيس جامعة كفر الشيخ يفتتح المؤتمر السنوي السادس لقسم القلب بكلية الطب    وزارة العدل الأمريكية تكشف عن أكثر من مليون وثيقة مرتبطة بقضية جيفري إبستين وتأجيل الإفراج الكامل يثير جدلاً    أوقاف الفيوم تفتتح مسجد الرحمة ضمن خطة وزارة الأوقاف لإعمار بيوت الله    الداخلية تنفي ادعاءات مرشحة بالجيزة    إصابة مواطنين إثر انقلاب سيارة ربع نقل على صحراوى جنوب الأقصر    خشوع وسكينه..... ابرز أذكار الصباح والمساء يوم الجمعه    خطوات هامة لسلامة المرضى وحقوق الأطباء.. تفاصيل اجتماع اللجنة العليا للمسئولية الطبية    خناقة في استوديو "خط أحمر" بسبب كتابة الذهب في قائمة المنقولات الزوجية    دعاء أول جمعة في شهر رجب.. فرصة لفتح أبواب الرحمة والمغفرة    وزارة الخارجية ووزارة الاتصالات تطلقان خدمة التصديق علي المستندات والوثائق عبر البريد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جنازة جديدة لعماد حمدي..رواية ..وحيد الطويلة
نشر في الأهالي يوم 28 - 08 - 2021


رواية
وحيد الطويلة
الجزء الأول
الشر قاسٍ، عليك بالتطعيم ضده.
روحي أكثر صلابة من جسدي… نعم، إنه الحب.
لا يوجد شرفاء هنا، إنما قديسون.
* سفيتلانا أليكسييفيتتش.
* " صلاة تشرنوبل"
كم مرة استعمل الناس القلم أو الفرشاة لأنهم لم يستطيعوا ضغط الزناد؟
فرجينيا وولف.
إهداء.
إلى المسجلين خطراً:
تصحبكم السلامة.
وحيد
1
إلى أين أنت ذاهب؟
عِشْتَ أيامًا خطرة في حياتك، لكنك الآن أمام خطر من نوع جديد.
انظر إلى قدميك.
يمشى بقدمين مُتردِّدَتَيْن إلى سيارته، يُقدِّم واحدة ويؤخِّر أخرى.
لا يعرف بالضبط ماذا يجب عليه أن يفعل؟ هل يذهب؟ يعتبره مشوار جَبْر خواطر والسلام، أم يمسح الموضوع تماماً من رأسه، يمحوه بسكين؟ لا أحد حوله يستشيره، عارياً بلا عائلة قديمة أو جديدة، ولا يستطيع أن يخبر أحدًا من زملائه القدامى بالموضوع.
الموضوع ليس سهلاً، عقله يدقُّ كجرس صدئ، يسمع صوته بوضوح: لا تَعُد إلى الماضي، اقطع صفحته، قلبه يَزِنُّ عليه: "عِشرة الأيام لا تهون إلا على أولاد الحرام".
أنت كبير، ويجب أن تظل كبيراً للنهاية.
بقدمَيْن متوترتَيْن، تفصله خمسمائة متر فقط عن سيارته، يفكر أن يعود من حيث أتى، أو يدخل أقرب مقهى وينسى الموضوع.
سؤال وحيد يكاد يشرخ دماغه: إلى أين أنت ذاهب؟ إلى مُسَجَّل خطر! إلى أخطر الخَطِرَين، ملك الإجرام الذي تُطبَخ المصائب في دهاليزه.
ما الذي يدعوك لذلك، أو يُجبِرك؟ يكفي أن تُكلِّمه في التليفون، وتُطَيِّب خاطره، أو لا تُطَيِّبه، مجرد اتصال وكلمتين وينتهي الأمر.
العزاء الآن صار على صفحات الفيسبوك والواتس آب، ولكن هل يعرف المجرمون المُسَجَّلون خطراً استعمال التليفونات الذكية؟
بالطبع يعرفونها، ولو أنهم ظلوا جاهلين بالتكنولوجيا لاستطعتَ أنت ومَنْ معك أنْ تقبضوا على كل مجرمي العالم في يوم واحد.
بائعات الحب، اللواتي كُنَّ يتسكَّعْنَ على النواصي، اختفَيْنَ من الشوارع تقريباً، في البداية كانت مرحلة الهواتف ثم نَطُّوا على الفيسبوك والواتس آب والانستجرام أحياناً، اختفين ولم يَعُدْن… فما بالك بالمجرمين!
وصل إلى سيارته، اتكأ على مُقدمتها، الأفكار تأكل رأسه.
أنت الآن تتحدث إلى نفسك كأنك تركتَ العمل بالبوليس منذ قرن! يا مولانا لم يمض على خروجك سوى شهور، أَثَر كلبش الوظيفة ما زال في يديك، والحوادث التي وقعَتْ لك تَطِنُّ في رأسك، تراها تمشي أمامك كأنها وقَعَتْ بالأمس، رأسك محشوة بوجوه المجرمين، ملابسهم، أصواتهم، تشعر بهم تحت ملابسك، مراوغاتهم في التحقيق، الأمواس التي يحشرونها تحت ألسنتهم، الرصاصات التي أخطأتك، الليالي السوداء التي قضيتها تتمرَّغ في جريمة قتل، وليس بيدك دليل واحد، أو حتى قرينة.
إلى أين أنت ذاهب؟
التردُّد على وجهه يكاد يراه العابرون.
لا يجب أن تفكر مرتين، الحكاية ليست واجباً، بل أنت بالتحديد مَنْ يجب عليه الذهاب، لم يكن الرجل مُسَجَّلاً خطرًا على طول الخط، بل كان المرشد الكبير لك، المُصنَّف رقم واحد، مخبر الحكومة، بيضة النعامة التي وجدْتَها أسفل مكتبك، أهداك مفتاح الحل في قضايا كثيرة، أنقذكَ من الموت مرة، وكاد يودي بك مرات، كان سندك حتى لو كان بالأساس سَندًا لنفسه.
نعم، يجب أن تذهب إليه، أنت الآن وحيد بلا عائلة، وفي لحظة قد لا تخطر على قلب أحد تشعر أن هذا المُسَجَّل هو عائلتك، ليس لقربه منك في وقت ما، أو لأنك زُرْتَه في بيته، أو زارك، بل لأنك حين تفرد حقيبة أيامك كل ليلة قبل أن تنام، حين تقلب كل صفحة فيها تجده واقفًا هناك، أحياناً في طرف الصفحة، أحياناً في ذيلها، وفي معظم المرات تجده في قلبها.
العائلة ليست الأم والأب والأخوة، بل الأصدقاء ومشاركة الحلوة والمرة، تقاسُم الألم، هذا ليس صديقك فقط، هذا شخص كان محور حياتك لنصف عمرك، عَشَّشَ وداس في كل اللحظات.
عندما تستعرض حياتك، بالقطع سوف تستعيد حياته.
أنت كنت ضابطاً صغيراً دخَلْتَ البوليس رغماً عن أنفك.
لا، هذه ليست الجملة المناسبة.
دخلْتَ البوليس والجزمة فوق رقبتك، نعم، هذه هي الجملة المطلوبة.
أبوك ضابط كبير، خلع ملابسه ودَلَّى لسانه حين رأى امتناعك، حَطَّ الجزمة فعليًّا فوق رقبتك، أخوك الأكبر استطاع الفرار من الجزمة، سافر إلى أوروبا بحجة الفُسْحة، حتى يعود رائقًا ويدخل كلية الشرطة بانشراح، خَدَع أباك، ما إن وطئَتْ قدمه أرض "هولندا" الواطئة حتى قال إنه وجدها أعلى من أرضنا بكثير، ظَلَّ أبوك يطارد مكالماته ليل نهار، قابعاً بجوار الهاتف، كان يُعَنِّفُه في البداية، يُهدِّده بأنه سيسافر إليه، سيرسل الانتربول ليقبض عليه، و في الأخير راحَ يُهدهده، يترجَّاه، لكن المحروس الكبير لم يترك خلفه معشوقة في أرضنا يري دموعها في الهاتف، بل قطع علاقته بابنة خالته عامدًا، حتى لا يُجرجره أحد من قلبه.
الماكر يُكَلِّمُ أمه صباح مساء حتى تكُفّ عن طلب عودته، وتتعوَّد أن ابنها صار مجرد مكالمات هاتفية، وبدلَ أن تمسك يد ابنها راحت تتشبَّثُ بسماعة الهاتف، في لحظات كثيرة تضبط نفسها وهي تضع يدها على الهاتف الصامت لدقائق، تضغط بقوة كأنها تحضنه.. تحضنه بالفعل.
في داخلها كانت مرتاحة لأنه أفلتَ من أبيك، لا تعرف بسبب البوليس أم بسبب أبيك، وتعيسة لأنها لا تشُمُّ رائحته قبل النوم.
الابن سِرُّ أبيه.
كان أبوك يصرخ، اسمه كبير في الشرطة، لا يطمع أن يكون له ولدان ضابطان وفقط، بل تزوَّجَ على هذا الشرط، الذي بدا كمُزحة، أو لعب أيام الخطوبة.
قرأ يومًا في صحيفة، وهو الذي لا يقرأ ورقة خارج العمل إلا صحيفة الحكومة، أن والد سيرينا وڤينوس ويليامز، بَطَلتا التنس، حين رأى أبناءه الثلاثة الكبار، وقد فشل أن يصنع من أحدهم لاعب تنس كبيراً، قرَّرَ في لحظة أن يُنجب بنتين، تصبحان أهم لاعبتين في العالم في وقت ما.
وقد كان.
ينظر إليكَ وإلى أخيكَ بقرف واضح ويقول: "هذه الفكرة سرقها مني هذا الأحمق ونجح فيها".
كانت أياماً سوداء، تضحك منها أحياناً، كل ملابس الأعياد هي ملابس الضباط، الألعاب هي المسدس أولاً، وبعده أيّ شيء، إن كان هناك شيء.
الابن سِرُّ أبيه.
لم نكن نحتاج لمدرسة ولا كلية عسكرية، البيت وحده ثكنة، حاضر يا أفندم، انضباط تام، كأن الحرب ستقوم بعد دقائق.
كان أحد أبطال موقعة النكسة الشهيرة، في ليلة الخامس من يونية، المذيع يصرخ: "لقد أوقعنا الطائرات، دخلنا يافا".
كان ساهرًا في عمله:
"دخلنا حيفا".
حينها تَمَطَّى بعد أن اطمئن إلى اقتراب النصر، نَفَحَ الجندي المُرافق له كل ما في جيبه، قال له: "سأدخل الآن لأنام، ولا توقظني إلا بعد أن ندخل تل أبيب".
أنت الآن على يقين أنه كان مهزوماً من داخله، ويريد أن يُعوِّض هزيمته بأبنائه.
زاغ أخوك من الحرب، هرب من الساحة على حَدّ تعبير أبيك، ولم يَبْقَ سواك.
لم يَعُد هناك جندي غيرك.
جندي وحيد ومدفع منتصب، وأب صارم، وارم، سيموت قهراً لو تركتَ أرض المعركة ورحلْت.
كنتَ تخشاه، وفي المرة الوحيدة التي واجَهْتَه فيها قلت: "الزمن تغيَّر والعالم اتسع، وأنا خريج المدارس الفرنسية، أكتب مقطوعات، وموهوب بالرسم، ويمكن أن أصبح مذيعاً بالفرنسية ورساماً أيضًا".
كان يقطع عليك الطريق، ويُخرِج لك السِرَّ الأبدي من جوفه، يقول: "لو ترك أبناء الضباط المهنة للرعاع سيتسلل الأوباش إلى حياتنا ولن نستطيع أن نعيش، ثم إنَّ الزمن القادم زمن الضباط، وأنا أعرف أكثر منك".
تتذكَّرْ أنك شعرتَ وقتها وكأنك في قاع قبر أو قبو مُعتِم، لُذْتَ بفُرشاتِك ولوحاتك.
مقهورًا كنتَ ترسم، لا تعرف كيف ترسم القهر والرضوخ في لوحة، كنتَ تخربش بقلم أسود جافٍ دون دموع، الحزن يُطلِق الدموع، القهر يُحوِّلها حجارة.
ترسم، ترسم بسرعة، تضرب سِنّ القلم بقوة، كأنك تطعن إحساسك بالقهر.
في النهاية رسمَ حذاءً عسكرياً "بيادة" برقبة طويلة، وفي قلب الرقبة كان وجه أبيه مخنوقاً، بعينَيْن من حجارة، وكل فَرْدَة من شاربه مُعَلَّقَة بطرف خيط من خيطي الحذاء.
لم يتنازل عن قراره، وأنت بالكاد وضعْتَ حلمك في رَسْمَة.
يقول عنك "الفردة الحالمة"، ينظر إليك بغيظ ويقول بألم واضح: "يا بني، أنا طلبت من ربنا ولدًا بعيني صقر لا عيني حمامة".
أنت متهم بإقامة علاقة.
سؤال يَطِنُّ داخل رأسك، وأنت في طريقك إلى المُسَجَّل الخطر.
إلى أين أنت ذاهب!
أنت الآن ذاهب للرجل الذي تَسبَّبَ في خروجك من المباحث، بل وخروجك على المعاش، المُسَجَّل خطر، الذي قطع علاقتك بحياة وظيفية لم تحبها يومًا، لكنك غُصْتَ فيها، وقضَيْتَ ما يزيد على نصف عمرك.
لو حدث هذا الأمر في بداية حياتك لقضيْتَ عمرك الباقي تشكره على فِعْلَتِه.
انتظرْتَ سنين طويلة أن تأتيك لحظة شجاعة، ولو لمرة واحدة وتتقدَّم باستقالتك.
نعم حاولْتَ الاستقالة مرات عديدة، لكنهم رفضوا، كان عليك أن تدفع ثمناً لاستقالتك، ما أنفقوه عليك أثناء الدراسة، وثمناً للأسرار التي ستحملها معك حين تغادر.
كنتَ في كل مرة تجمع المبلغ وتتقدَّم، يفاجئونك أن الثمن ازداد للضِّعْف، وحين جمَعْتَ الضِّعْف وجدْتَه صار أضعافًا، ومع الوقت رُحْتَ تنسى أو تتناسى، لم تجد بقية من روح وعزيمة لتتابع وتخرج.
دخلتَ البوليس بروح مُغتصبَة، لم تأخذ عملك به على محمل الجد أبداً، مثلما لم يأخذك أحد فيه أيضاً، كانوا يقولون في وجهك: "يا فنان، تعال يا فنان لعمل محضر، اذهب يا فنان إلى جنازة فنان مثلك، واترك العمل الثقيل لنا".
يقولون هذا في غيابك، ويضحكون.
حين كنتَ تتحدث عن الألوان، أو تُحَلِّل خبراً، أو نفسيَّة متهم، أو تحكي حكاية من التاريخ الذي علَّمتكَ إيَّاه أمك، أو تسمع موسيقى الفصول الأربعة لفيفالدي في نوبتجية الليل، حين تشير لمرافقيك إلى صوت الريح أو رقص الشجر، كانوا يتقوَّلون عليك: "مجنون، ملسوع في دماغه، عنده ربع ضارب، عنده لمسة أرضية، مركوب من عفاريت الفن".
شيئاً فشيئاً ظهر لك لقب جديد، عرفتَه بالصدفة من فم جندي لا تعرفه: "اسم سعادتك فجنون باشا".
لَقَب لم تَخْتَرْه، ووظيفة لم تَخْتَرْها.
فن وجنون.
تكاد تشدُّ شَعرك، تقول لنفسك: "أنت السبب".
لو أنك اخترْتَ طريقك وأَصْرَرْتَ عليه، لعِشْتَ باسمك الحقيقي، أو لاخْتَرْتَ اسماً جديداً، وحياة على مقاس روحك، وأَطَلْتَ شعرك كما يفعل الفنانون بدلاً من هذه الحياة التعسة.
لم تكن مشغولاً بما ينشغل به الضباط، تستمع إلى حكايات تافهة، وبطولات زاعقة يخترعونها، أو يُلصقونها بمَن هم أعلى منهم رتبة، تُشاهد كيف تتحوَّل الواقعة إلى أسطورة، والضباط الكبار إلى أبطال.
كنت تراهم أبطالاً من وَهْم.
أبطالك الحقيقيون هم المُسَجَّلون خطراً.
في عُرْف المباحث أن المُسَجَّل خطر، هو الذي يُكرِّر جرائمه مهما نال من عقاب.
لكأنك اكتشفْتَ أبطالك، وجدْتَهم، هؤلاء الذين يُصِرُّون على اقتراف فِعْلٍ ما، مهما كان ثمنه، ومهما كان سيئًا في عرف القانون والمجتمع.
كنتَ مُعجَباً بهذا الإصرار على اقتراف الفِعْل نفسه لمرات، لا، ليس هذا على وجه الدقة، فبعض هذه الأفعال كان مشينًا، ولا يليق بإنسانية.
ربما كنتَ في الحقيقة مُعجَباً بروح المخاطرة، والشراسة في تحدِّي القانون مهما كانت النتائج، أن يصطاد الواحد فريسته، يلتهمها بتلذُّذ دون أن يفكر لحظة في المصائر، أن تحلم وتنفِّذ دون أن يعنيك أحد.
تقول إن المُسَجَّلين خطراً يفعلون أشياء مُشينة دوماً؟ صحيح، لكنهم اختاروا طريقهم بالشغف والرغبة، حتى لو كانت الظروف قد ساقَتْهم إليه، هم اختاروه في النهاية، اختاروا الصراط المستقيم الذي يخصُّهم وأصرُّوا عليه، تحدُّوا به دولة المباحث وسُلطتها، وأنت؟ أنت لم تستطع أن تتحدَّى سلطة أبيك لتدخل كلية اللغات، أو الفنون الجميلة، مثلما تمنَّيْتْ.
أبطالك الحقيقيون هم المُسَجِّلون خطراً.
لذا رُحتَ تخلق أبطالك داخلك على شاكلتهم، بل على شاكلة مُسَجَّل واحد كبير، تابَ توبة غير نصوح، وعمل مرشداً للحكومة.
أنت متهم بأنك لست سِرّ أبيك.
نعم، هذا صحيح، أنت سِرّ نفسك.
يتحسس دملاً لم يشعر به من قبل.
الدمامل تطلع في الجسد، لكنك تشعر بها في روحك، صادفتْكَ كثيراً في حياتك، لكن الدمل الكبير في مواجهتك على بُعْد ساعتين أو أقل.
2
احترس.
احترس أيها القارئ.
قف مكانك.
ثبِّتْ قدميك في الأرض جيداً، اِسحَب نفساً عميقاً، املأ رئتيك عن آخرهما كما يفعل الهنود حين يأخذون أنفاساً طويلة كي تعمل المناطق النائمة غير المستعملة في رئاتهم.
الأمر يستحق، أنت مُقدِم على تجربة تستحق المخاطرة، لن تتكرر في حياتك.
قلت لك قف مكانك، إذا فكرت ألا تدخل وتعود من حيث أتيت لن ألومك، لن يلومك أحد، لن يسخر منك بنظرة أو يهزأ بصوت، ولا يجرؤ.
حذرتك، حتى لا تأتي يوماً وتقول إنني لم أفعلها، غررت بك أو دهنت لك الأرض صابوناً.
لا يعنيك أن تعرف من يتحدث معك، الراوي أم الضابط، أنت في شأن آخر.
أنت الآن أمام باب سرادق لعزاء موجع، عزاء نجل كبير المرشدين والبصاصين والمخبرين على مستوى القطر كله.
لا تدخل معي إلى هذا العالم، في لحظة لا أعرفها ستتخيل أنك خارج الكرة الأرضية، وأن آلة الزمن قد حملتك إلى زمن آخر، أجسام قد يبدو لأول وهلة أنها تشبه أجسادنا أنا وأنت، آدميون، لكنهم ليسوا كذلك كما سترى وإن تشابهنا في تفاصيل.
سوف ترى وجوهاً خليطاً من وجوه ذئاب وبشر، قد يغلب أحدها الآخر للحظات، لكنه يعود إلى أصله وأنت أمام هول المفاجأة ثم يتبدل الوضع، وهكذا…
ناس غادروا إنسانيتهم، قشروها ونفدوا، لا تخدعنك أجسادهم كما أخبرتك، ستقفز منها الذئاب وربما الثعابين.
قلتها لك وأعيدها ثانية وثالثة: إذا كنت تريد أن تعود من حيث أتيت فلا ملامة عليك، عذرك معك ولا يجب أن تنتظر رحمة من أحد.
اسمع، ما رأيك أن تدخل لتجرب، التجربة أم المعرفة، ولكن خذ حذرك على أكمل وجه، كن خائفاً مرعوباً، الخوف الشديد هو ما يمكنك هزيمته، ولن يحسبه عليك أحد، الخوف العادي يورث القلق والتوتر ويضيع لذة المغامرة.
إذا كانت معك نقود تخلص منها على الفور، أفرغ كل جيوبك، يبدو أنك مجنون، ما الذي جعلك تحملها أساساً، لن ينقذك أن تضعها في تكة لباسك الداخلي.
طهر روحك من أدران المحبة والطيبة قبل أن تدخل، بل يجب أن تعالجها بالكي إن استطعت، طهر أصابعك من أي خاتم، ذهبياً كان أم فضياً، يمكن لك أن تترك السلاسل على عنقك، بل اجعلها تتأرجح.
إن كان معك هاتف أغلقه، ما الذي جرى لي!! أنا أسرب لك الوصايا ببرود وعلى دفعات، كأنني نسيت واجبي نحوك، تخلص منه قبل أن تدخل، لن تعود به، وإن وجدت هاتفاً معك وأنت خارج فهو هاتف آخر ليس لك. لا يخصك.
اسمعني جيداً، وحتى لا تقول إن هذا الرجل دلس عليّ ورماني في سوق جهنم فرع اللصوص، ولا تقل لي إنني من أغويتك- ولا لأحد-، فالغواية بالخطر لا يخوضها إلا واحد بقلب ميت أو أحمق.
الفضول يقتلك، أعرف، وجهك مرآة روحك، منذ دقيقة واحدة كانت ابتسامتك ساخرة تلعب على وجهك، الآن بدأ القلق الحقيقي، الآن بدأت تشد سروالك لأعلى، وأتمنى أن تستطيع معي صبراً.
ركِّز عينيك، اخطف نظرة سريعة، الشاحنة التي ظهرت أمامك فجأة هي أم خنوفه، مات زوجها النشال العظيم أفضل ميتة وهو مسطول، ميتة يتمناها كل المجرمين، لم يترك لها بطولات تذكر، قصص النشالين إن لم تكن تعرف يتلاشى طعمها في اليوم نفسه، لكنها كانت على موعد مع التاريخ حين قتل والدها خنوفه باشا بغزة سيف في جبهته ورحل مجللاً بالعار والفجيعة، فقررت أن تحمل الراية حتى لا يسقط اسمه من صفحات المجد، ورثت ثأره واسمه وصارت أم خنوفه.
في عرف المسجلين من يسقط في ساحة المعركة ترث ابنته الكبرى اسمه حتى لو كان له ولد ذكر.
وبدأت رحلتها.
هجامة محترفة، اخطف نظرة أخرى دون أن تلمحك، هذه ليست سمنة زائدة كما قد تظن لأول وهلة، كلها عضلات، طبقات اللحم تحميها من غز السكاكين إن حدث كما حمت معاوية ابن أبي سفيان.
وظيفتها الحالية مدير عام الخناقات، كل من يحتاج امرأة في خناقة يدق بابها، جاهدت وكافحت وفي لحظة لم تخطر ببالها صار اسمها على قمة اللائحة.
تخرج من بيتها ببساطة كأنها ستشتري صحن فول، وتعود أيضاً ببساطة، ليست وظيفة مؤقتة أو عارضة، جذورها ضاربة في العائلة، ورثت الموضوع أباً عن جد وسمعتهم عريقة.
تم تدريبها من صغرها مثل أي شبل من أشبال كرة القدم، تذهب معهم، ومع أن الصغار يتفرجون في البدايات ثم يندمجون في مرحلة لاحقة، إلا أنها لم تنتظر مرحلة التكوين ثم التأهيل، دخلت بدماغها من أول يوم وأظهرت موهبة كبيرة، ساعدتها جثتها الضخمة ونفسها التواقة للجهاد على حفر اسمها على لائحة الهجامين الخالدين خلال أقصر فترة ممكنة، بالفعل حققت رقماً قياسياً من المتوقع أن يظل صامداً لفترة طويلة.
لم تتوقف إلا أثناء زواجها، عادت إلى دكة الاحتياطي حتى سقط والدها شهيداً فعادت إلى الملاعب مرة أخرى، وأقوى.
"قلبي جمد بعد أول خناقة".
بَنَتْ سمعتها سريعاً، ورغم أنها تعرف أن الغجرية ست جيرانها، إلا أنها لم تلعب هذا الدور وسطهن، لكنها لم تسمح لواحدة أن ترفع صوتها في حضورها، عاشت بينهن بالمعروف مهابة الجانب بعين حمراء مختبئة تحت طرحتها، تكشف عنها وقت اللزوم.
وذاع صيتها وجملتها: الفلوس قبل التيوس.
تتفق على عرقها قبل أن تخرج من عتبة بابها، تقبض أولاً كي تقبض بقلب جامد على خصمها، تترك النقود لأولادها ليدبروا حالهم ريثما تعود من غزوتها.
قبل أن تسألها أو تفكر في لومها تقول لك بعفوية غريبة كأنها تلقم ثديها لطفلها في قلب الحارة:
"العيشة عاوزه كده".
لا تستخدم شيئاً غير ذراعين متينتين تليقان بمصارع مندفع، جاهزة دوماً، يكفيها أن تشمر كميها، ولا تلجأ لاستخدام العصا إلا حين تكون هنالك سكين أو سيف في يد غريمها.
رأسها مثل رأس ضبع، تنظر في اتجاه واحد.
لا تهاب الأسلحة البيضاء ولا الحمراء، تقول جملة واحدة:
"يعني السكينة هتعمل إيه، خربوش! خربوش صغير وخلاص".
تعرف الأصيل من الخسيس، كثرة المعارك جعلتها تزن الرجال بنظرة واحدة، لذا وضعت نفسها رهن دولة الخطر، رهن رئيس جمهورية المسجلين، اقتربت منه حتى صارت ظله، ستراها دائماُ خلفه مثل نبوت سمين أو لبؤة منتظرة على قدمين وساقين عظيمتين، لا يحتاج أكثر من نظرة أو التفاتة ليجدها بين يديه، تبدو كأنها ملاكه الحارس، كأنها بنته من صلبه.
وهو لا يأمن لأحد غيرها بسهولة أو بصعوبة، خاصة أنه يؤمن إيماناً عميقاً بعمل المرأة في المشاجرات، وأن تأخذ حقوقها وحقوق الآخرين حتى لو كان بيديها، في الحقيقة هو يُفَضِّل أن تفعل هذا بيديها من البداية.
دعك منها الآن واسمعني جيداً، إن مددتَ قدمك قليلاً ستلقط أذنك صوت المقرئ يرتل: إن الله غفور رحيم، سيضعك ذلك في طقس آخر، سيدفعك أن تنتشل قدمك الأخرى التي غاصت في الرمل، وترغب في الاندفاع داخل السرادق.
لا تكن طائشاً، وتندفع مرة واحدة بعد أن تغير الجو، ولا تعتقد أن اللقمة صارت لينة.
لا تتهور.
احترس.
سأسدي إليك معروفاً حتى ترتاح وحتى لا تغير اتجاهك فجأة وتطلق ساقيك للريح، أفكر بشدة أن أدخل معك حتى لا أتركك تواجه مصيرك وحدك كأعمى وسط قافلة من الجوعى.
تنهد الآن وخذ نفساً عميقاً كما علمتك، تراجع خطوتين واسمعني جيداً، علينا أن نعترف أن كل إنسان في هذا البلد يعيش بقلبين، قلب عاشق وقلب ذئب، إذا أردت أن تدخل معي- أنا قررت أن أدخل- اترك قلب العاشق جانباً، لا، لا، اخلعه من صدرك، اسحقه بقدمك اليمنى، واستحضر قلب الذئب.
ستتأكد أنك فعلت ذلك بالفعل حين ترى نفسك دون مراوغة أو خشية أو تردد تفرغ كل جيوبك، لا تخش شيئاً، لن يمسسها أحد في الخارج، للسرادق حرمة أكبر من حرمة الجامع، الأخير يسرقون حذاءك فيه، وهنا يسرقون روحك فقط.
الآن تقدم بعد أن تأكدت من نفسك، احمرت عيناك وضربت بقوة على صدرك، تفحص كل سنتيمتر وأنت على فوهة الباب، بعين راغبة وروح مشتاقة.
لا تتلفت يميناً أو يساراً، لا تستجب لنظرة أحد، لا تضع عينيك في مرمى عيونه مهما حدث، خشية أن يلمح فيها ضعفاً يصطادك منه، انظر في الهواء العام كزعيم يخاطب شعبه، يرونه ولا يراهم، وحتى إن نظر أحدهم وأطال، دعه حتى ترتخي عيناه لأنه لم يجد ثقباً عندك.
لا تستجب لنظرة أم حواء الواقفة في مواجهة باب السرادق ترقب الداخلين بعين شرطي ميتة، هذه المرأة تحبل من عينيها، تصبح حاملاً من نظرة، وإن لقطَت يدك، شدتها ووضعتها على بطنها، اسحبها بخفة دون أن تطرف عينك.
الساحرات الشريرات يجلسن أمامها كتلميذات مطيعات.
لكن بعد أن تدخل، أنا غير مسئول عنك بعد كل ما قلته لك، البحر خلفك، ثمة شروط أخرى خفيفة ربما نسيتها أو اعتبرتها بديهية، لكنها حاسمة بل قاتلة: أولها أن تكون سكراناً، أو كما يقال على واحد "سكران طينة"، شربت من منقوع البراطيش ما يكفي عائلة، عائلة صغيرة حتى لا تستهول الموضوع.
في هذه اللحظة ستبدو بهيئة لص أو قاتل، ليس في قلبك رائحة ذرة من العشق، لا ترتكب أدنى حماقة يستشف منها أنك يمكن أن تكون عاشقاً، إلا إذا استطعت أن تبرز عشق الإجرام وهذه حكاية أخرى.
بقيَت خطوة سهلة ويسيرة، خذ هذا البرشام، اسمه أبو صليبه، معروف، صحيح أنه دقة قديمة لكنه سيجعل من قلبك قطعة حجر، سيدلّك لك غدة العنف حتى لا تبدو لقمة سائغة لأحد، باختصار سيساعدك على الانتقال بسهولة من عالم العشاق لدنيا الذئاب.
ولكن بما أنها أول مرة، وأنا أخشى أن تقع في المحظور وتتلجلج في أداء الدور ومن ثم قد تسقط على المسرح فيأكلونك، خذ هذه الحبة من البرشام الفاخر، اسمه حضّر كفنك، سوف تطير من على الأرض بارتفاع نصف متر، وبخفة.
لم أشأ أن أعطيك برشام استروكس فهو مخصص للشباب الجدد في الكار، أما نحن فما زلنا نستعمل البضاعة القديمة الثقيلة، فخر الصناعة الوطنية.
كنت أخشى أن أعطيه لك في البداية، خشيت أن تسقط مني، مغامرة لا يجب أن تخسر فيها وإلا داسك الحصان الذي راهنت عليه، المسألة لا تحتمل أدنى قدر من المزاح أو الاستهانة، ربما تظهر لك أنياب، ستستطيل أظافرك ولن تخشى أحداً وربما لن ترى أحداً.
سيخرج لك ذلك الوحش من أعماقك وحده، سيكشط ملامحك الطيبة، سيمحوها ويبدلها إلى ما يجب أن تكون عليه الآن، الآن لا يمكن لك أن تعود.
حافظ إن استطعت وأنت في بداية حالتك الجديدة على ألا تنظر تجاه أحد بعينه، لا تتفحص الوجوه، ومن الآخر يجب ألا تنظر في عيني أحد- يمكن أن تنظر إن استطعت إلى الأنوف فهي أكثر دلالة في وجوه المسجلين-، بالذات في عيني الجالس إلى اليسار الذي يلبس بالطو أسود.
لا تستغرب أن بشرته حمراء وسط كل هذه الوجوه، داكنة كانت أو فاتحة.
هو- بكل الفخر- لاعب أجنبي في دنيا المجرمين، بل ربما يكون اللاعب الأجنبي الوحيد في السرادق حتى الآن.
أنت لا تصدق-عندك حق- أن سوق المجرمين يمكن أن تكون كسوق اللاعبين، يتم استقدامهم وشراؤهم، لكن غير مسموح بإعارتهم.
لا تستبعد على الإطلاق ولا تستغرب أنه عقب انتهاء المقرئ من الربع الأخير، سيقف فجأة، يسند الكمان أسفل ذقنه بأناقة، ويقوم بأداء وصلة من العزف على روح المرحوم، أنت تعرف بالطبع أن الأجانب يودعون أحبابهم بالموسيقى.
اسمع، إن فعلها وصفق الحاضرون يجب أن تصفق معهم، صفق بحزن واضح يتناسب مع المناسبة الجليلة والصوت الحزين للكمان.
هذا الروسي مسجل خطر قارح ابن لبوة، يستحقها بجدارة، كان عازفاً ماهراً في الأوبرا، يستحوذ على التصفيق كل حفلة وينحني بسعادة، حين قدم من روسيا كان يحمل معه كمانه وزوجته ومؤونته من الكوكاكين، وقبل أن تنفد المؤونة راح يشمشم ككلب سعران عن مواقعها في مصر حتى وصل إلى مركزها الرئيسي بمساعدة مسجل خطر صغير، لا تسألني كيف تعرف عليه، لا لزوم للسؤال من أصله، لا تعرف من منهما وجد الآخر، أولاد الكار يشمون بعضهم بعضا على بعد كيلو، بالذات عاشقو الكوكايين، ما بالك إن كانوا يشتركون في شم البودرة، يعرف الأصلية من المخلوطة وهو من علم الولد كيف يشم، كان يشم كالكلاب فعلمه أن يستنشق كالبشر.
كان لا بد من نقود تكفي لشراء هذا الهباب، نقود كثيرة، ولأن الأقربين أولى بالمعروف تقدم الروسي وسرق زوجته السوبرانو صاحبة الصوت البارع والصيت الذائع، أقنعها أنها فقدت ذهبها ونقودها إثر سكرة، وربما رمتها وهي نشوانة داخل بالوعة الحمام ولا يجب أن تبلَّغ حتى لا تضيع سمعتها.
اشترى بندقية آلية، لم يهتز له وتر وهو يضعها مكان الكمان في حقيبة الكمان.
ودون أن يرتعش حدد هدفه بدقة، ينزل مع نديمه الجربوع إلى الصيدليات، لا يدخلان سوى الكبيرة منها، ينتظران أن تفرغ صيدلية من روادها، وبسرعة ومهارة تعودا عليها يلبسان ماسكات على وجهيهما، الماسك التقليدي لعصابة القناع، تظهر منه فقط عيونهما التي تلعب بجرأة وغموض.
بقلب ميت يتقدم الروسي، قبيلة من نمل في دماغه، تكاد تأكله لنفاد الشمة السابقة، لابساً البالطو الذي تراه الآن فوق ثيابه، يلبسه مفتوحاً، حين يدخل بالحقيبة لا يفعل شيئاً سوى أن يمد يده ليفتح البالطو على آخره ناحية اليسار، بلمحة يشير للصيدلي غير المنتبه دوماً إلى البندقية الرابضة تحت إبطه، لا يقول كلمة واحدة ولا يصدر صوتاً لأنه لا يتقن غير الروسية، لغته العربية الضائعة مكسورة الحروف وستفضحه.
ولأن الطبخة حارة وسريعة، يتقدم المساعد ويستولي بشجاعة على إيراد الصيدلية، يشير له ألا ينسى شرائط الترامادول والتامول، يرمقان الصيدلي بنظرة من المؤكد أنه رآها في أحد الأفلام، ويرحلان معاُ.
ربع الغنيمة للمساعد، والثلاثة أرباع للروسي يشتري به الكوكاكين ليعمر دماغه، ليعزف جيداً، وحين ينفد يبحثان عن صيد آخر.
صدقني، لو أنه يوم عادى في حياة صاحب السرادق، وليس عزاء ابنه، ما استطاع ذلك الوغد الروسي أن يقترب من مرابضه وإلا قتله، يكره أصحاب البودرة لكن للظروف أحكام.
يستنشق البودرة على مهل كما يليق بعازف، يعزف أفضل من سابقيه ومن نفسه، ردة فعله على الموسيقى المصاحبة أسرع من رد فعل ضابط مباحث متمرس يتعرض غيلة لإطلاق نار من مجرم غدَّار، وحين يسمع تصفيق الجمهور ينحني بنصف رأس، يود لو يقول لهم: اعطوني ما في جيوبكم لأمتعكم أكثر.
قبل صعوده للمسرح بأربع ساعات حين يأخذ جرعة "تسقيطة" البودرة يهبط هبوطاً مريعاً يستمر لساعة، أحياناً ساعتين، بعدها يبدأ في الاستيقاظ، يشرب الكوكاكولا حتى يفيق، حين تراه كأنه خارج من جيمانيزيم بعد أن أدى مرانه ولعب على كل الآلات، ضغطه مرتفع، الأوردة التي بجانب عينيه تنتفض، ووريد في منتصف جبهته يرتعش بقوة، خصيتاه أيضاً، يبحث عن زوجته بجوع اللقاء الأول.
عازف ماهر، مسجل خطر فاجر ومدمن أصيل، سقط في المرة التي طارت فيها دماغه حين نفدت الجرعة ووضع الكمان في البالطو بدل البندقية الآلية.
لم تعرف زوجته بحكايته إلا حين دخل البوليس بيتها بحثاً عن البندقية، لم يجدوا لها أثراً، فتشوا كل شق، كادوا أن يخلعوا بلاط الشقة وحين حاروا سألوا أين يتمرن، أشارت إلى كنبة من القش مسنودة من أسفلها بشرائح من الخشب الخفيف، وجدوا فيها فتحة صغيرة بالكاد تكفي لنوم ثعبان، يمرر من خلالها البندقية لتنام مطمئنة فوق الألواح.
لا تظن أن زوجته ستكون معه رغم أن السيدات حاضرات بكثافة في السرادق، ورغم أن الروسية كما تعلم تعامل زوجها كحبيبة وخادمة لا كزوجة ورفيقة.
غنت بصوت حزين مكسور لسنوات، حرصت على زيارته كل شهر في سجنه، وعندما أوشكت مدته على الانتهاء تطلقت منه وعادت إلى بلادها.
كانت صدمتها كبيرة، لكن كما ترى صدمة صاحب العزاء والمسجلين أكبر بكثير.
لا تنتبه كثيراً لحركة يديه ورجليه، هذا يعني أن ميعاد الجريمة على وشك، انظر: خدوده حمراء، عروق عينيه تنتفخ، يتكلم مع مساعده بسرعة، معظم كلامه غير مفهوم، يُعوِّض هذا بإشارات من يديه، شيئاً فشيئاً سيفقد طاقته.
يبدو أنني مَن فقدتُ طاقتي وذاكرتي، لم يسقط في يد البوليس كما أخبرتك، بل صعد على المسرح وبعد أن فتح الحقيبة وضع البندقية بدل الكمان أسفل ذقنه، وبدأ في العزف عليها.
الآن لا يمكن لك أن تعود، لا لأنك تريد أو لا تريد، لم تعد عندك إرادة أصلاً، أصبحت واحداً آخر، وطالما تقبلت هذه الشروط ونفذتها فادخل إذاً إلى السرادق بكبد ذئب قاس، الذين يريدون أن يطردوا خوفهم من الحياة يصطادون ذئباً ويأكلون كبده، ومن ساعتها يصولون ويجولون كأنهم ابتلعوا حبوب الشجاعة مرة واحدة وإلى الأبد.
ادخل الآن مرفوع الرأس، هذا سرادق أقامه الدكتور ناجح كبير مسجلي خطر البلاد، وربما البلاد العربية، الذي اعتزل وتحوَّل إلى كبير مرشدي البر كله، أقامه لنجله ووريثه – الله يرحمه- والذي كان يعده لخلافته وتسليمه الراية في الشهور القليلة القادمة.
الدكتور هو لقبه الذي يقدم نفسه به، المسجلون أطلقوا عليه لقب الفيلسوف رغم أنهم لا ينطقونها صحيحة في أغلب الأحيان، لكنهم سمعوا أنه أعظم لقب في الدولة، ولا أحد يستحقه سواه، وهو والحمد لله جدير به، إذ أنه لم يعد يدخل بيده في أيه عملية، بل يكتفي بوضع الخطة السنوية ويراقب التنفيذ، ولا يتدخل إلا في الحالات المتعسرة فقط.
خسر وريثه في لحظة طائشة لم تخطر على باله ولو في كابوس ذكر، لكنه وجد نفسه فجأة تحت أقدام الكابوس.
هذا الوريث كان صاحب أسماء متعددة أيضاً، أولها كلابش، اسمه وهو صغير، كل مولود جديد في عالم المسجلين خطراً اسمه كلابش حتى يجدوا له اسماً آخر.
منذ نعومته إن كانت له نعومة وهو يلعب بالقيود الحديدية، يفكها ويربط بها أيدي غرمائه ولا أجدع ضابط، لكنه مع الزمن ومع تغير الجريمة ووصول برامج المصارعة وإذاعتها في التليفزيون الوطني بدأ اسم كلابش يتلاشى، لم يعد يليق بالمرحلة الجديدة، أطلقوا عليه هوجان تيمناً بالمصارع الشهير الذي يقضي على كل خصومه، ويرمي بالحكم خارج الحلبة في النهاية.
والحمد لله، رغم المأساة، فأقل ما يقال عن هوجان هذا أنه قتال قتلة، مسجل خطر أصيل ابن مسجل خطر وصولاً إلى جده الرابع، من الفئة النقية والنطفة الخالصة، وسجل العائلة في هذه المسألة أنصع من قطعة ذهب تحت شمس يوليو.
مواهبه تفتحت في وقت مبكر، يقولون سارق النوم من العين، وتقول جدته: سارق العين من النوم، وهم للأمانة لم يقصروا في تعليمه، علموه كيف ينخر ويسب الدين في أول جملة على لسانه، وضعوه أمام المعارف بطريقة عملية، كانت أولى الكلمات التي تسربت إليه: خام، مغشوش، حشيش المعلمين، حشيش الأفندية وصولاً إلى حشيش الأناقة.
تركه الفيلسوف ناجح ينهل من حديقة العائلة وحنانها في البداية، وحين جاءت اللحظة الموعودة لفطامه تقدم بنفسه وفطمه على البيرة، نقطة أو نقطتين تدريجياً حتى نسي لبن أمه، وفي لحظة تاريخية حاسمة قبض على الزجاجة بشفتيه ثم بأسنانه ولم يتركها إلا فارغة وصوت صراخه يصل بيوت الجيران.
قالت جدته: "نسخة من أبيك، أصيل يا بني، إن شاء الله أعيش لما أشوفك مسجل كبير ملو هدومك".
دعك منه الآن، اقترب بخفة من الرجل اللامع الجالس هناك أسفل عمود الخشب الرئيسي، الذي يتوسط السرادق، ستعرفه وحدك، طاقيته تلمع، جلبابه، كوفيته، حتى شاربه يلمع، سيذُكِّركَ على الفور بذيل الثعلب، ليس بسبب الحجم، فصاحبنا شاربه رفيع، وإنما لتلك الانثناءة الخفيفة الماكرة في طرفيه.
يمكنك أن تقول إنه الرجل الأصفر، كل ملابسه صفراء، أظن قلبه أيضاً، يقولون إن اسمه الأصفراوي بسبب لون بشرته، وربما يفعل ذلك لأنه يحب الظهور، والأرجح أنه يريد أن يدلك على نفسه ووظيفته سريعاً.
شاهد زور جنايات، وهي أعلى المراتب في لائحة شهود الزور، إنها تعادل بالقطع رتبة لواء، هناك شهود بألف أو بخمسة، لكنه بلونه الأصفر يحصل على عشرين في القضية الواحدة.
أمير، لكنه يستيقظ مبكراً، أول الداخلين إلى مقهى شهود الزور بالقرب من المحكمة، لا تسألني إن كانت هناك لافتة على واجهة المقهى بهذا الاسم، أو أنه اسم يتداوله الناس خفية أو سخرية، هو الاسم الرائج والمعتمد.
الروايات رهينة ما يشاع عنها مهما كانت الحقيقة.
في الركن البعيد الأصفر يجلس، بعيداً عن شهود الزور الأدنى، إفطاره يأتيه، قهوته وسجائره دون أن يطلب، طلبه معروف، يتوسطه طبق البيض بالبسطرمة، البسطرمة أيضاً من بقايا اللحم لكن لحقتها الشائعة فازدهرت.
انتبه معي، ليس شاهداً أعمى، هو شاهد بدبلوم صناعة حصل عليه بتفوق، لم يجد عملاً، أبوه يحتل سلالم المحكمة منذ سنوات فاحتلها معه، يكتب العرائض والشكاوى، شرب منه الصنعة، كتب آلاف الشكاوى، عرف الخبايا، تفوَّقَ على الأب، واحتلَّ مساحات شاسعة على الأرض، وفى الهواء.
لا تعتقد أنني ألعب بدماغك أو أسرح بك، يدرس القضية مثله مثل المحامي تماماً، ومع الخبرة والأيام يشير على المحامي بما غاب عنه.
يقلبها بعناية لأنه يعرف بخبرته أن هناك محامياً للخصم قد يصطاده في التفاصيل، ولو في تفصيله واحدة ويفوز بالقضية.
لكن بَخَّة سُمّ واحدة من الأصفراوي ستكون قاضية.
هو رجل وسيم، ولأول مرة في حياتك ستصادف كائنًا يحمل السُّم في جوفه ويكون وسيمًا، له بريق ووسامةَ نجم سينما لا يتكَرَّر، غير أنه، وحده، مليء بالنجوم.. الصفراء.
أعرف أنك ستسألني عما إذا كان القاضي يعرفه بحكم العشرة والحضور المستمر؟ القاضي يعمل من خلال أوراق بين يديه، ثم إن الداهية يُغَيِّر شكله وملابسه كل مرة، جلباب، بدلة، عباءة، عمامة، بدون عمامة، طاقية، بدون طاقية، مسبحة في اليد، بدون مسبحة، مرة بعصا، ومرة بدون عصا، حتى إنه يُغيِّر لكَنْتَه، نبرة صوته، طريقة كلامه، وحتى مشيته، يفعل هذا بإقناع كامل، دون خطأ واحد، بداخله استوديو ممثلين موهوبين، وأفلام، لا تستبعد أن يُغيِّرَ جنسه في إحدى القضايا، ثم يستعيده في القضية التالية، الأمر بالنسبة له لا يتوقف عند جمع المال، طبعاً المال مهم له جداً، لكنه يستمتع بما يفعله، بكل شخصية يظهر بها، وإن احتفظ باللون الأصفر في قطعة منها، لا تنسْ، إنه "الأصفراوى"، لو غاب منه اللون لن يستطيع أن يُقدِّم شهادته الزور، المحبوكة، سينعقد لسانه، يَجِفُّ سُمُّه ويخسر القضية.
حاول أن تقف على أطراف أصابعك، تحيَن فرصة للجلوس بجواره والتعرف عليه، فقد تحتاجه في جناية يوماً ما.
لديه بيت ملك وسيارة كبيرة وخواتم ذهبية ذكورية ضخمة تلمع في أصابعه، وكل أصدقائه من المحامين.
بنى جامعاً يصلي فيه والده معظم الوقت وينام فيه شهود الزور من الدرجة الثانية والثالثة.
لست في حاجة بالطبع لأن أدلك على علاقته بناجح، ومن يحتاج من؟
ناجح يحمي ويطلب، يحميه ممّن شهد ضدهم زوراً، والرجل الأصفر ينفذ ويقبض.
محفظته منتفخة، والشائعة الأخيرة أنه اشترى مقهى شهود الزور، ويقوم الآن بتجهيز اللافتة ليعلقها بنفسه بعد مرور سنوات الحداد.
اسمع، مثلما طلبْتُ منك أن تحرص على الجلوس بجوار "الأصفراوى"، أطلب منك الآن ألا تجلس بجوار الرجل صاحب الوجه الكئيب، الذي لم يبتسم مرة واحدة في حياته، أمين شرطة على المعاش، عمل في الدورية ثم في المباحث، ليست له سوى مهمة واحدة وجملة يتيمة، يراقب عين الضابط، ينتظر أن تقع على واحد، صدقني أي واحد، فيندفع إليه ويقول بصوت كئيب: اركب.
صار اسمه: خالد اركب، في ماضٍ بعيد كانوا ينادونه الأمين خالد.
لا تجلس بجواره، لا تجلس بمواجهته، سيأكل دماغك ببطولاته القديمة، ودعمه الشديد للمعلم ناجح أثناء خدمته وخارجها، وأنه كان يخدمه لأنه يعرف بحاسته التاسعة أنه غير قابل للهزيمة، إنه الباقي، والداخلية إلى زوال، وأنه رأى مستقبل ناجح من البداية ورسم مستقبله على هذا التوقع.
كان عينه اليمنى في الماضي، والآن هو عينه اليسرى.
سيقول لك إنه كان يريد أن يكون مسجلاً خطراً لكنه ضل الطريق ودخل الشرطة، حالته ميسورة، لديه سيارة ميكروباص مكتوب على زجاجها من الخلف: يا بنيَ اركب معنا ولا تكن من الكافرين.
لا تقف حين يقف ولا تنتبه لجلوسه حتى لو زحف على بطنه، كن حذراً فحين يضرب الحشيش خياشيمه سوف يقف ويفرد يديه في الهواء، يمشي مسطولاً، سوف يصيح فجأة في قلب السرادق: اركب، اركب.
اسمع نصيحتي الأخيرة:
لا تركب معه.
واحد ابن حرام، قاعد جوَّه نافوخي.
واحد كله إجرام، آه منه آه يا خوفي.
نطَّتْ لك الأغنية لحظةَ أنْ شغَّلْتَ جهاز التسجيل، كأنها تُتَرْجِم قلقك، وتردُّدَك في الذهاب لذلك الرجل، المسجل خطر، رغم أنك فقط تريد أن تُعَزِّيه.
هل هي إشارة؟
العقلاء يستقبلون الإشارات بحكمة، يصدقِّونها، وأنت فنان وضابط مباحث، جزء منك يأخذ العلامات ويمشي خلفها، وجزء آخر يركن إلى حدْسِه وخبرته.
كَمْ من قضايا استغلَقَتْ، كان حلها مستحيلاً، ولولا أنك مشيت وراء حدْس غريب لما وصلْت لأىّ شيء.
ما بالك بالعوام والمهووسين، يستقبلون العلامات كأنها إشارة من السماء، أو أوليائهم الصالحين والطالحين معًا.
يفكر أن يعود من حيث أتى، تعاود الأسئلة الظهور، لم يسمع طنين الأذنين مذ غادر وظيفته، ارتاح تمامًا من التوقُّعات والتخمينات والجري وراء خيط واه قد يوصله- يا للعجب- إلى حل لغز الجريمة.
" واحد كله إجرام، آه منه، آه يا خوفي".
تذهب بقدميك الآن لواحد مجرم بعد أن خرَجْتَ على المعاش.
وسؤال مربك: ألم تفكر لحظة أن هذا المجرم قد يعتقد أنك جئت للانتقام منه، تتشفَّى فيه بعد مقتل ابنه الذي كان يُعِدُّه لوراثة العرش، والجلوس على كرسيه، وقد يومئ لأحدهم ليقتلك في قلب السرادق، ستدفن بلا رحمة ولا عزاء.
التشفي أكبر وسائل الانتقام، يلسع الروح لا البدن.
آه منه، آه يا خوفي.
لا، دعْكَ من هذه الهواجس، يجب أن تذهب إليه، لا تتردَّد، هو الآن في مصابه الأكبر، ودولته ستنهار بعد غياب الوريث الأوحد، وقد يستأسد عليه بقية المسجلين الطامحين، ذهابك سوف يُقوِّي قلبه، ويجعله يثق أنه مازال ابن الحكومة وواحد من كبار مرشديها.
نعم، يجب أن تذهب إليه، رغم أنه لم يفكر أن يهاتفك ولو لمرة واحدة بعد خروجك على المعاش.
اِسمع، المرشد ليس ابن خالتك، كلهم نسخة واحدة رديئة، ينفضُ يده من يد الضابط الذي رحل، ليضع مؤخرته في يد الضابط الجديد، مات الملك عاش الملك.
كان غليظًا حين سلَّمَكَ لباس الضابط الذي سبقك، والذي نزعه عنه مسجل خطر حقير، قتَلَتْه الحكومة فيما بعد، بعد أن علَّقَ كيلوت الضابط على باب داره، لكنه سلَّمَكَ الكيلوت، وترك لك أن تفهم الباقي وحدك.
لا، لن يعتقد أبدًا أنك أتيتَ للتشفِّي فيه، أو الانتقام منه، بينكما فدان محبة وفدانان من اللعب، تحفظ له الجميل أكثر من مرة، ويحفظ لك الجميل مائة مرة.
في بداية عملك أَشْعلَ المسجلون خطراً النار في شقة واحد اختلفوا معه، راحوا يُشعلون سجائر ملفوفة من النار الصاحية، بعضهم يلقطها ليضعها فوق المعسل، فجأة تجمَّعوا بالقرب منك، فريق كامل من المسجلين، كأنهم ذاهبون لتشجيع المنتخب، جاءت سيارات الإطفاء، راحوا يقطعون خراطيم المياه بالسنج والمطاوي كأنهم يقطعون فاكهة، والتفوا حولك، صرْتَ في قلب الدائرة.
كِدْتَ تبول على نفسك، سكاكين من جميع الاتجاهات، لا تعرف ماذا تفعل، ولا كيف؟ ستنسحب، الانسحاب قرار حكيم، كيف ستفعله دون أن يستصغرك هؤلاء المسطولون على الأرجح، أنت لا تستطيع أن تستعمل مسدسك، وحكاية فضيحة تعرفها عن كيلوت ما تتلألأ الآن في عقلك، ولا تريدها أن تحدث معك، كنت تُحاذر فقط أن يخطفوا منك المسدس، هم لن يقتلوك على أيَّة حال، سيعلقونك فقط في الهواء، وهذا قتل من نوع آخر.
صمتك ووجهك الجامد وعينك التي لا ترمش كان نذيرًا لهم، لذا كنت تحسب حساب كل رعشة في ملامحك.
في غمرة التوهان، فوجئتَ بصوت من خلفك أرعبك للحظة لكنك تماسكتَ، واضح الخشونة، نظرة واحدة منه كانت كفيلة أن يختفوا، كأنهم كابوس وانزاح، قال كلمة واحدة: البيوت بأبوابها يا سعادة الباشا.
وبدأتْ علاقتكما.
تتذكر أنك في الليل، وأنت جالس إلى مكتبك في القسم، رُحْتَ ترسمه من ذاكرتك، رسمته في ورقة كأنها صورة فوتوغرافية له، وحين طلب منك ضابط المباحث أن يراها أَدخلْتَ عليها تعديلاً سريعًا، كَشْطَة واحدة في عينيه كانت كفيلة أن تُغيِّر الصورة في أعينهم، ومع ذلك كنت تخشى أن يعرفوه، تتخيَّل أنك لم ترسم ملامحه، بل رسمْتَ روحه داخل عينيه، لذا صنَعْتَ دوائر حول بؤبؤ العين، فانتقلَتْ روحه إلى روح مسجل خطر آخر.
لكنه عرف، رغم أنك لم تخبر أحدًا، أمناء الشرطة لعنة الله عليهم، لا بد أن أحدهم لمحكَ وأنت تلعب في صورته وأخبره، ربما كان هذا في صالحك، أقصد في صالح الفنان بداخلك.
عرفَ أنك ردَدْتَ له الجميل، ما اعتبره هو جميلاً واجبَ الرد.
تفكر الآن في لوحة الجرنيكا لبيكاسو، لوحة الحرب الأهلية في إسبانيا، تتخيل أنك تستطيع أن ترسم أفضل منها، تضع فيها أمناء شرطة يتواطؤون على إبلاغ المجرمين بموعد الهجوم عليهم، وضباطًا يطاردونهم بمسدساتهم… مجرمون يقهقهون في جنبات اللوحة، غبار يتطاير من الأقدام، دخان يُظلِّل فضاء اللوحة من كل الجهات، ويصعد لأعلى، يكاد يخرج من الإطار، يكاد كل مَنْ يشاهدها أن يشم رائحة المخدرات، ورائحة الخيانة، ويسمع قهقهات المجرمين.
رسمْتَ ساعتها هاتفًا قديمًا يخرج من سماعته كل شيء، الصوت والحشيش والأمناء، والدخان يحوم حول الجميع.
أنت فعلت ذلك أيضاً، وإن اختلفت أسبابك أو تفسيراتك التي تسولها لنفسك، بدلت في ملامح صورته سريعاً، جعلته واحداً آخر دون أن تنتظر شيئاً كأنك ترد جميله.
في هذه اللحظة لم يكن مجرد مسجل، بل ظهر في ثوب كبير أو رئيس المسجلين.
اِسّمع، قولاً واحداً، ضابط المباحث الناجح يقاس نجاحه بتعدد مصادره، بالمسجلين خطراً الذين يتمشون داخل عباءته، ويربطهم من شواربهم في سلسلة مفاتيحه.
هذه عقيدة، ليست فكرة أو أسلوباً فقط للعمل.
نعم، يجب أن تذهب إليه.
أنت لست عدوًا له، وهو ليس عدوك، حتى لو كان كذلك في فترات سابقة، إلا أنه قدَّمَ مئات الخدمات لك، ودلَّكَ- ولو من بعيد- على مخبأ الطرائد، الصيد الثمين، حتى لو كان الأمر في صالحه أحيانًا، كأن يدلُّكَ على غرماء له، أو لاعبين جدد دخلوا إلى الساحة لإزاحته، عيال مسرتنة، أعطاك نعم، وإنْ ظَلَّ يحمي ويخفى عشرات الأوباش الذين قد يهدمون مهنة المسجل خطر من أساسها، ويشوِّهون مسيرتها الخالدة.
كما أنه ليس عدوًا للدولة، بل لعب اللعبة الكبيرة التي ساعدْتَه أنت فيها، وهي أن يكون مخبرًا ومرشدًا للحكومة، بمكافأة رسمية من وزارة الداخلية رأسًا.
أصبح مخبرًا معتمدًا، كان عليك فقط ضبط العلاقة، وألا تسمح له أن يتغوَّل.
تعترف الآن بينك وبين نفسك أنك كنتَ دومًا معجبًا به بعيدًا عن طبيعة العمل بينكما، تذكر أن من مآثره الكبيرة أنه كان ضد الاتجار في البودرة، الكوكايين والهيروين، مقاتل شرس ضد مَنْ يبيعها أو يستخدمها:
"البضاعة النظيفة هي الحشيش يا سعادة الباشا".
يعلو صوته ويلعلع، وحين تأخذه الجلالة وينقح عليه عرق الوطنية يصرخ:
إسرائيل هي من ترسل البودرة لأبنائنا، تريد القضاء على شباب البلد، الشباب الحلو والمزاح الحلو.
ورغم هذا الحِسّ الوطني العارم، إلا أن ذلك لم يؤثر على مجال عمله في المخدرات.
وله تسعيرة معروفة في الأعمال الأخرى:
خمسون ألف جنيه لهدم فرح، خمسون ألفًا لحماية فرح آخر، لا يفعل شيئًا بيده، ولا ينغرز في أرض موحلة، تحت يده جيشه الذي صنَعَه بكَدِّه وعَرَقِه على مدى سنوات.
هو لا يأخذ إتاوة، إنما مقاول يُنفق على عمل يُنجزه بقلب، وينام بضمير مرتاح بعد أن ساهم في تدعيم بيوت جنده.
كما أنه ليس وحده مَنْ يقوم بهذه الأعمال، الميدان واسع، سعداوي ضابط المباحث في قسم الفجالة قال إن أمه سوف تُجرى لها جراحة، وبعدها ستطوف البيت الحرام شكرًا، فطافت في حجر سعداوي الآلاف في ليلة واحدة.
نعم، يجب أن تذهب إليه.
لا تتراجع، تتذكر الآن جيدًا ذاك المجرم الذي دخل لملعبه، ليبيع البودرة في حارة السقايين، دلَّكَ عليه ناجح، وحين أمسكته متلبسًا وقدَّمْتَه للنيابة، خلع الولد قميصه أمام المُحَقِّق، وبان جسده كأنه خارج من قلب معركة، قال إنه وقع تحت التعذيب، واتهمكَ بتعذيبه.
كان الملعون يعرف أن السجن الطويل في انتظاره، وربما الإعدام، يريد أن ينتقم منك، والأهم أن يُفسد القضية، أخرج بريزة من خاتم مؤخرته، عشرة قروش فضية، كانت هذه العملة قد اختفتْ من السوق منذ مدة طويلة، وأصدرَتْ الحكومة عملة ورقية بدلاً منها.
البريزة الفضية، تعويذة النجاة في جيب كل متهم، وخزائن المعلمين الكبار، آلاف البرائز؟
أخرجها تاجر البودرة، وبحافتها المشرشرة راحَ يكحتُ جسمه من جبهته حتى قدمه، ومن الظهر حتى الكعب، كأنما تمَّ جلده وسط صحراء.
لعبة لا يُتقنها غير المسجلين، ولا يعرفها غيرهم، سر الأسرار في مواجهة ضابط المباحث الذي لا باب له.
وجدْتَ نفسك متهمًا بالاستعمال المُفرِط للقسوة، بجريمة تعذيب لا تسقط بالتقادم.
كنتَ في أقصى حالات الحزن، رغم أن الضباط كانوا يقولون من وراء ظهرك، باستغراب وحسد: الضابط المجنون جاب القضية.
هنا تقدَّمَ السيد رئيس جمهورية المسجلين والمجرمين، وشهدَ أمام النيابة مع أشباله أنهم شاهدوا المجرم وهو يكحَت نفسه، حتى بانت طبقة ثالثة من جلده.
معلِّم كبير، هَندَسَ اللعبة كأنه كان يعرف تفاصيل ما سيحدث، قدَّمَ لك اثنين من لاعبيه لتحبسهما مع المتهم، يلازمانه في الحبس كي يشْهَدا عند اللزوم.
حين خرجْتَ معه من غرفة المُحقِّق، كان قد بدأ رحلة اختصار المسافات بينكما، كان يمشي خلفك، مد يده اليمنى على طولها بعد أن تقدَّمَ إلى جانبك، وعانقَ بها يدكَ اليسرى.
شبكَهما، ومضيتما معًا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.