هيئة قضايا الدولة تُنظم محاضرات للتوعية بمناهضة العنف ضد المرأة    محافظ الدقهلية يقرر المراجعة الدورية لإجراءات الحماية المدنية في كافة المنشآت    قائد القوات البحرية يكشف تفاصيل تصنيع قاطرتين بقوة شد 190 طنًا    رئيس جامعة المنوفية وأمين عام الأعلى للجامعات يطلقان فعاليات مؤتمر خدمة المجتمع    وزير الدولة للإنتاج الحربي يزور أجنحة عدد من الشركات المشاركة بالمعرض الدولى للصناعات الدفاعية EDEX 2025    مصر تعزي جمهورية إندونيسيا في ضحايا الفيضانات والانزلاقات الأرضية    نشرة الرياضة ½ الليل| صدمة للزمالك.. ساسي السبب.. استبعاد شريف.. فوز بيراميدز.. وموقف أفشة.. وهانوفر يطلب أهلاوي    نابولي يتخطى كالياري 9-8 بركلات الترجيح ويواصل مشواره في كأس إيطاليا    أسامة كمال عن حريق سوق الخواجات في المنصورة: مانبتعلمش من الماضي.. ولا يوجد إجراءات سلامة أو أمن صناعي    مصرع وإصابة 4 أشخاص فى حادثين منفصلين بالوادى الجديد    ياسمين الحصري ل معكم: والدي نموذج للرحمة والكرم والوسطية ووصيته كانت القرآن    «هل عندي وقت ؟»| أحمد فهمي يحسم جدل تورطه في فيديو يسيء لأسرة هنا الزاهد    حلمي عبد الباقي: لا أحد يستطيع هدم النقابة وكل ما يتم نشره ضدي كذب    أكرم القصاص ل إكسترا نيوز: ضمانات الانتخابات أعادت الثقة للناخبين    بعد الهجوم عليه| تفاصيل أزمة تصريحات مؤلف «الست»    بعد عدة نجاحات في مهرجان الجونة.. برنامج تسمحلى بالمشية دي في مهرجان البحر الأحمر    كأس إيطاليا.. نابولي يتخطى كالياري ويصعد للدور القادم    بدء تحصيل الزيادة الجديدة في قانون الإيجار القديم من ديسمبر... اعرف قيمتها    الاتحاد الأوروبي يدرس إضافة روسيا إلى القائمة السوداء لغسل الأموال وتمويل الإرهاب    مها محمد: كوليس ورد وشيكولاتة أجمل من التصوير    صحة الإسماعيلية تختتم دورة السلامة المهنية داخل معامل الرصد البيئي    قرارات جديدة تعزز جودة الرعاية الصحية.. اعتماد 19 منشأة صحية وفق معايير GAHAR المعتمدة دوليًا    «هربنا قبل أن نغرق».. شهادات مروّعة من قلب الفيضانات التي ضربت نصف القارة الآسيوية    انتهاء ترميم المبانى الأثرية بحديقتى الحيوان والأورمان    في حوار ل"البوابة نيوز".. رامي حمادة يكشف سر فوز فلسطين على قطر وطموحات المباريات المقبلة    تشكيل أرسنال - بن وايت أساسي.. وساكا وإيزي وتيمبر بدلاء أمام برينتفورد    هل يجوز التصدق من أرباح البنوك؟| أمين الفتوى يجيب    مجموعة مصر.. الأردن يضرب الإمارات بهدف على علوان في شوط أول نارى    لأول مرّة| حماية إرادة الناخبين بضمان رئاسى    أهالي السيدة نفيسة يوزعون الشربات على الزائرين في المولد.. صور    هل يعتبر مريض غازات البطن من أصحاب الأعذار ؟| أمين الفتوى يجيب    عون: لبنان تعب من المهاترات التي مزقته    ما حقيقة انتشار الدواجن السردة بالأسواق المحلية وتأثيرها على صحة المواطنين؟    الخامس في قنا.. القبض على " قرموش" لشراء اصوات الناخبين    حبس المتهمين باستغلال شيكات مزورة باسم الفنانة بوسي 3 سنوات    أوسكار رويز يعقد اجتماعًا فنيًا مع الحكام لمراجعة بعض الحالات    القبض على 4 أشخاص بحوزتهم مبالغ مالية بمحيط لجان انتخابية في جرجا    مياه الشرب بالجيزة: كسر مفاجئ بخط مياه قطر 1000 مم أمام مستشفى أم المصريين    الجيزة تنفّذ حملة مكبرة بعثمان محرم لإزالة الإشغالات وإعادة الانضباط إلى الشارع    «الري» تتعاقد على تنفيذ التغذية الكهربائية لمحطتي البستان ووادي الصعايدة    في يومهم العالمي.. 5 رسائل من الأزهر لكل أسرة ترعى طفلا من ذوي الإعاقة    فلسطين: تصويت 151 بلدا لإنهاء الاحتلال انتصار لحقوق شعبنا المشروعة    وكيل لجنة مراجعة المصحف ورئيس منطقة الغربية يتفقدان مسابقة الأزهر السنوية لحفظ القرآن الكريم    ما مصير امتحانات الثانوية العامة بعد بلوغ «عبد الحكم» سن المعاش؟.. تفاصيل    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 3ديسمبر 2025 فى المنيا.. اعرف مواقيت صلاتك    انعقاد الاجتماع الرابع للجنة الفنية المصرية – التونسية للتعاون الاستثماري    دونالد ترامب يحضر قرعة كأس العالم 2026    في اليوم العالمي لذوي الهمم.. انتصار السيسي: وجودكم يضيف قيمًا وإنسانية وجمالًا لا يُقدّر بثمن    الأرصاد: استمرار انخفاض درجات الحرارة الملحوظ على مختلف أنحاء البلاد.. فيديو    الصحة تعلن ضوابط حمل الأدوية أثناء السفر| قواعد إلزامية لتجنب أي مشكلات قانونية    أطعمة تعالج الأنيميا للنساء، بسرعة وفي وقت قياسي    لاول مرة فى مستشفي شبين الكوم بالمنوفية..استخراج ملعقة من بطن سيدة مسنة أنقذت حياتها    مجلس حكماء المسلمين يشارك بجناح خاصٍّ في معرض العراق الدولي للكتاب 2025    هالاند: الوصول ل200 هدف في الدوري الإنجليزي؟ ولم لا    توافد الناخبين للتصويت في جولة الإعادة بانتخابات النواب بالإسكندرية| صور    أسعار الفراخ والبيض اليوم الاربعاء 3-12-2025 في الأقصر    الأمم المتحدة تحتفل باليوم الدولي للأشخاص ذوي الإعاقة    «الوطنية للانتخابات»: إعادة 19 دائرة كانت قرارًا مسبقًا.. وتزايد وعي المواطن عزز مصداقية العملية الانتخابية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجزء الأخير من رواية "دموع ملونة على جناح النورس" ..الأديبة والإعلامية/ أميرة بهي الدين
نشر في الأهالي يوم 14 - 08 - 2021


(32)
إنه مستشفى صغير، ربما هنا، وربما هناك، موقعها على الخريطة لا يهمنا، إليها يأتي الأبطال في نضالهم الأخير مع الحياة؛ علّهم ينتصرون على الرحيل فيبقون ويحاربون، وينتصرون ثم يرحلون، وربما يرحلون فرِحين بمواكب الفخر التي تأتيهم لتحمِلهم بعيدًا نحو السماء، تاركين مواقعهم للأبطال الآتين مِن بعدهم حتمًا.
زيارةٌ قصيرة لأحد المعارف، الذي كان راقدًا على الفراش المعدني البارد في ذلك المستشفى، أفلحت في أن تعيد نبيل للطب بعد أن هجره ثلاث سنوات، تأثّر لحال المستشفى الذي يناضل أطباؤه لإنقاذ حياة مَرضاه. وسط الجدران الخضراء والغرفة الصغيرة التي يرقد فيها المريض داهَمه الشوق ليعود لعملِه الذي استقوى عليه وهجرَه، أحس المستشفى يحتاجه، ومرضاها يتمنون وجودَه ليعالجهم، زهدَ الرفاهية الباردة التي عاشها السنوات الثلاث الماضية يقرأ في الصحف والكتب، ويحتسي القهوة والشاي، ويتشاجر مع نادية، ويلعب مع نورة، وتجري الأيام كالرمال الخشِنة بين كفّه تمزق روحَه
"لم يكن العمل مشكلتك يا نبيل، ولم تسعد بتركِه، كنتَ تنقذ المَرضى وتساعدهم ليتحمّلوا آلامهم وأوجاعهم، كففتَ عن مساعدة الآخرين، وتسخيرِ علمِك ومعرفتك لصالحهم، فبارت روحك كالأرض الشراقي لا تجد مَن يرويها، ومِن عطشٍ لعطش تنام وتستيقظ".
في المستشفى الصغير، استيقظت روحه، رائحة المطهرات والأدوية والدماء الساخنة، كل ذلك أيقظ في روحِه معنى وقيمة تعمّد أن ينساهما، صوت التوجع المحزِن، والألم العنيف، وزغاريد الفرحة بالشفاء، وتمتمات الشكر، وأدعية الرجاء والتمني، كل هذا داهَمه فجأة وهو في المستشفى الصغير. أحَسه المكانَ الذي كان يبحث عنه، لن يعود لعيادته، ولن يتنقل بين المستشفيات الاستثمارية ينقذ المَرضى بأموالهم الكثيرة، سيمنح هؤلاء الأبطال وقتَه وروحه وحياته وعلمه؛ علّه ينقذهم من الموت الذي يحلّق دائمًا فوق رؤوسهم وهُم يحاربون ويقاتلون، ويقدّمون حياتهم رخيصةً للوطن. لماذا تذكّر أباه؟ هل لو عثر أبوه، وقت إصابتِه بالشظية القاتلة، على طبيبٍ مثله، هل كان سينقذه ويُبقيه في حياته، ويَقِيه من اليتم الموجع؟ ربما زاره هذا المريض ليعود للطب محاربًا في حياة الأبطال؛ علّه ينقذ أولادهم من اليتم والقهر.
"سأعود للعمل هنا، وليس في أي مكانٍ آخر، هذا المستشفى الصغير يتمناني بين أسرة أطبائه، حتى لو لم يبُح برغبته التي تبدو مستحيلة! لكني سمِعت صوت رجائه وقبِلته، أفسِح لي بين جدرانك حضنًا، وامنحني مِن مناضد عملياتك واحدة، وساعِدني لأعود لنفسي، ولأساعد الأبطال ليعودوا لأُسَرهم وأطفالهم ووطنهم، ساعِدني لأعود لنفسي".
همس للمستشفى وكأنه أمّه التي طال غيابه عن حضنها.
"ربما عملي هنا يمنح حياتي قيمة تسعِدني"
همس لنفسِه وتمنى لو يسأل زين
"تفتكر"؟
عرض الأمرَ على مدير المستشفى الذي رحّب به سعيدًا بانضمامِه لأسرة المستشفى وأطبائه المقاتلين وسط الظروف القاسية لإنقاذ حياة الأبطال. وبسرعةٍ ارتدى البالطو الأبيض وعاد للمَرضى ووجعِهم، وانغمس بأسرع في العمليات وإنقاذ الأبطال، والبكاء على حياة مَن رفض معاونته وأدويته وبراعته، ورحل للسماء.
"لماذا جئتَ لذلك المستشفى يا نبيل؟ هل كنتَ تعلم؟ هل كنت تعلم أن حظك العاثر سيأتي ب زين تحت مبضعِك وعلى طاولة عملياتك، لتحاول أن تنقذه بعد أن انهارت عليه الجدران، وأصابت الشظايا جسدَه فمزقته"؟
ارتدى الملابس المعقمة، وقبع في غرفة العمليات يسخّر علمَه لإنقاذ الأحباب الأبطال، ربما يفلح في أن يقي طفلة صغيرة جرحَ اليتم، ربما يفلح في أن ينقذ شابة من الترمّل ووجعِه، ربما يفلح في أن يقي كهلاً طاعنًا دموعَ القهر بينما ابنه الغالي يرحل ويتركه يتوجع بفقدِه.
كفَاك كل ما ضاع يا نبيل، كفاك ضياعًا، الآن صرخ النداء يستدعيك، فلبِّ أيها الرجل، وكفاك أنانية وغرقًا في تفاصيل الحياة اللعينة".
"ما أصعب الاختيار!".. همس نبيل لنفسِه
"للاختيار ثمن، وأنت يا نبيل دفعت الثمن في البداية دون اختيار، واليوم عليك أن تدفعه راضيًا صاغرًا سعيدًا، الآن الاختيار أن تكون بدلاً مما كنتَ بلا معنى ولا قيمة، الآن الاختيار أن تكون".
ابتسم نبيل، اختار وانتهى الأمر على صعوبة ما عاشه وما قرره، وها هو الآن في المستشفى الصغير يؤدي واجبه الذي طالما تقاعس عنه.
هل كان يعلم كل ما سيعيشه في ذلك المستشفى الذي اختارت الطائرة وهي تحمل زين وجسده الممزق لها؟ هل كان يعلم أن قلب الخالة فردوس، والعم وصفي سيكونان تحت سِن مبضعِه، وبين غرز إبرة خيطِه، وهو يرتّق جسد الحبيب الغالي؟ هل كان يعلم أن ذلك المستشفى بالذات سيعيده ل زين، وسيعيد زين له، بعد طول جفاء؟ لم يكن يعلم، ومَن يعلم ما الذي يخبّئه لنا القدر من مفاجآت؟!
(33)
خرج من غرفة العمليات، نَقلوه إلى غرفة العناية المركّزة، ثماني وأربعون ساعة هي الأصعب في حياتهما، حياة زين ونبيل. أخرجوه من غرفه العمليات، والإبر منغرسة في ذراعه ورقبته؛ توصل الأدويةَ والحياة لأوردتِه، نقلوه إلى فراشه وأوصلوا الشاشات بجسده تقرأ ما الذي يحدث وسط ذلك السكون المريب. الغرفة صامتة إلا من أنفاسِه البطيئة. نورٌ هادئ بعيد يرمي بظلال الجدران على جسده، بعض الضوء يأتي أخضرَ من الشاشات يلون ملامحه بغرابة وترقّب، يجلس نبيل على مقعدٍ بجواره، يعدّ أنفاسه، ويراقب اختلاجاتِ عضلات وجهه، وينتظر أي إشارةٍ تخبِره أن مريضه سيجتاز مرحلة الخطر، يراقب الشاشاتِ والنبضَ والضغط ودقات القلب، يراقب المحاليل تقطر شفاءها في أوردتِه، يراقب صدره يعلو، ينصِت لدقات قلبِه البطيئة، يخش أن تفِر واحدة منها فيفِر منه صديقه ومريضه وأخوه، وكل معنى للحياة عنده.
ساعات طويلة، خلع خلالها رداءه الأبيض وهدوء الأطباء، وارتدى نفسَه وخوفه على صديقه وأخيه، أغلق باب الحجرة عليهما، واحتجز نفسه معه في ساعات القلق المرعبة، تتناوب عليه الممرضات، يغيّرن قوارير المحاليل، ويقِسن الحرارة، ويتابعن النبض والضغط، ويكتبن للدكتور نبيل وقت أن يعود طبيبًا كل ملاحظاتهم على الحالة الصحية لمريضِه الذي يلتصق بفراشه الآن كصديقٍ وأخٍ وعِشرة عمر. يقترب بمقعده من فراشِه، يتمنى لو يفسِح له زين بجواره على الفراش، يتمنى لو يفسِح له مكانًا فيمدد جسده على ذات الفراش، ويحتويه بذراعيه، ويمنحه من أنفاسه أنفاسًا تمنحه بعض الحياة أو كثيرًا منها، يتمنى أن يأخذ رأسه المسيّج بالشاش والأشرطة اللاصقة في حضنه، وكأنه سيرمّمها ويلصّق عظامها المفتتة ببعضها.
"الآن لم أعد طبيبًا ولا أرغب، الآن لم أعد طبيبًا ولن أكون، إمّا أن تُشفَى وتعبر برزخ الموت المعَد لانتظارك، فتمنحني قوة أكمل بها طريقي، وإمّا أن نرحل معًا. أنت عن الحياة كلها، وأنا عن الحياة التي أعرفها ولم أعد أرغب في مزيدٍ منها. الآن لم أعد طبيبًا ولا أرغب، لو لم أفلِح في أن أنقذِك فلا معنى لردائي الأبيض، ولا معنى لبراعة مشرطي، ولا لكل ما أعرفه من علمٍ عجز عن أن ينقذك، مصيري كله في يديك، ومستقبلي وحياتي أيضًا، إما أن نعيش معًا، وإمّا أن نموت معًا، لكنك كالعادة أكثر مني حظًا؛ لأنك ستموت بطلاً، أمّا أنا فسأموت تواريًا وقهرًا وعبثًا".
يهمس نبيل ل زين وهو يراقبه، ويراقب الشاشات، ويراقب الأنفاس ودقات القلب، يتمتم بالأدعية. غدًا سيأتي عمّ وصفي لزيارة زين، ما أشقّها من لحظة! هذا الشيخ الجليل سيغادر مدينته ويأتي يدعو لصغيره بالحياة والشفاء
"عمّ وصفي جايلك بُكره يا زين".
يحدّثه ويتمنى أن يسمعه
"شِدّ حيلك بقى علشان تقابله ويتطمّن عليك، عمّ وصفي مش حِمل حرقة قلب يا زين، ما تعملش فينا كده"!
تنهمر دمعتان ثلاث، يخفيها عنه حتى لا يقلق على حالته ونفسِه، واثقٌ هو أن زين يسمعه ويشعر به، سينهره لو شاهد دموعَه، سينهره لأن فيضانات الحزن ما تزال تحتله وتغرقه في مِلحها كلما أرادت، سينهره ويطمئنه على حياته، وأن "عمر الشقِي بقي". يبتسم نبيل، يتذكر الساعة التي نهرَه فيها زين وردّد على أسماعه تلك العبارة، خائفًا عليه من مصيره، وقتَ أن قرر أن يلتحق بالكلية الحربية، خائفًا عليه من مصير أبيه ومصير آلاف مثلِه، قدّموا حياتهم للوطن ورحلوا، خائفًا عليه من مصيره، يومَها نهره زين لأنه أناني لا يفكر إلا في نفسه، لا يفكر إلا في حاله وحياته، اختصر أباه وبطولتَه واستشهاده في يتمٍ أوجعه طيلة العمر، لم يرَ في تلك البطولة إلا الوجع، لم يرَ في أبيه إلا الغياب، لم يرَه وسامَ فخرٍ على صدر الوطن وصدره، بل رآه لحظة وجعٍ امتدت وقهرته، اختصر أباه وبطولتَه في وجعه، واليوم يخاف عليه، على زين، يخاف على حياته، يخاف عليه من مصيره المشرّف الذي يتمنى أن يناله، بل يسعى إليه "أناني أنت يا نبيل، لا تفكر إلا في نفسك ورغباتك، صديقك أنا، لا تريد أن تفقدني، تتعامل مع حياتي وموتي باعتبارهما شأنًا يخصك، خُلِقت لأكون صديقك، وعلىّ أن أبقى صديقك حتى لا تتألم"!
يتذكر نبيل كلمات زين له غاضبًا
"انت خايف علىّ؟ طيّب مش خايف على البلد؟ على مصر؟ لو كل واحد فيها فكّر زيّك كده، مين يدافع عنها؟ ومين يحارب لها؟ ومين يموت علشانها"؟
يتذكر نبيل الإصرار والغضب اللذيْن غلّفا صوت زين، وهو ينهره ويتشاجر معه "أنا ابن المدينة الباسلة اللي ضحّت وبتضّحّي علشان مصر، ابن المدينه اللي دفعت تمن غالي برضا وسعادة، ومستعدة تدفع تاني، مرّة واتنين، عايزني أنسى تاريخي وابقى بمبوطي اهرّب سجاير من البلنصات في القنال؟ ولا اهرّب صابون وكمبوت وابيعهم في السوق التجاري"؟
يومَها خرس نبيل، ولم يجد ما يرد عليه به، تمنى لو قال له أحِب الوطن وأتمناه أعظم الأوطان، لكننا دفعنا الثمن وكفانا. تمنى لو قال له لا أريدك بمبوطيًا مهربًا في سوق البالة، لكني لا أريد محاربًا ينتظر الموت، بل يسعى إليه. تمنى لو قال له إن العم وصفي والخالة فردوس دفعا ثمنًا غاليًا، من تهجيرٍ وحربٍ ومقاومة، وحسْبهما ما دفعا. تمنى أن يقول له كلامًا كثيرًا، لكنه لم يقل، المصيبة أنه أحس رده تافهًا غثًا، وأن كل كلمة فيه ستفجّر لدى زين أعاصير غضبٍ سيكيل له بسببها ما هو أشد وأوجع من الكلمات، لكن زين يقرأ روحَه وأفكاره، يعرف مساراتِ وجعه، وأين استقرت في نفسه، زين يقرأ أفكاره، فردّ عليه قبل أن ينطق.
"أنا اخترت، وحادفع تمن اختياري، الدور والباقي على اللي ما بيختارش، ومش عارف يختار! خايف من كل حاجه، فعايش زي القشة على وِش المَيّه، الدنيا تشيله وتحطّه وهو مسلّم نفسه ليها لا حول ولا قوة"!
ييعنف عليه قائلا
"اسمع يا صديقي، لستَ وحدك مَن دفع الثمن، أطفال كثيرون حَرمهم الوطن من أهلهم، آباء كثر تركوا أطفالهم في حضن الوطن أمانة ومنحوا الوطن حياتهم برضا وفخر، لستَ وحدك مَن دفع الثمن، أُسَر كثيرة هجّرت من منازلها وتركت حياتها ومدنها وتاريخها، برضا وطيبٍ خاطر، زوجات كثيرات حرِمن من الحياة والرجلِ والسند، أمهات كثيرات فقدن أبناءهن وسندهن في الحياة، الجميع دفع الثمن، لكنك وحدَك مَن تضن على الوطن بوجعك، وكأنك الوحيد الذي توجعت، هذا الوطن يا نبيل يستحق، يستحق أن نموت من أجله، وأن نتوجع من أجله، هذا الوطن يا نبيل يستحق".
وصمت زين، ونبيل يتابع حديثه بأسى وحزن
"مصممٌ أنت على ما في رأسك"!
"انفجر زين ضاحكًا، وكأني أحدّث الحائط، لم يسمعني، ولم يردّ علىّ، يضحك ويضحك".
وكأن خوف نبيل على حياته نكتة فجّرت بداخله كل السخرية، يضحك ويضحك ويهمس له
"باقولك ايه، ما تشغلش بالك، وبعدين يا أخي عمر الشقي بقي".
ويضحك .. ويضحك.
تداهمه الذكريات الطويلة بينهما، فيزداد خوف نبيل على زين، صديقِه وأخيه وعمره الراقد أمامَه، قليل الحيلة بين يدي الله ينتظر مصيره وقدره، يرجو ربّه ألا يقهره ب زين، وألا يزيّن به قوائم الشهداء، وألا يحرق قلبَه عليه. يراقب الشاشاتِ، وقطرات المحاليل، ونبضات القلب، واختلاجات الوجه، وصوت النفَس الخافت، يراقبه ويدعو واثقًا أن الله سيستجيب لدعائه، وأنه سيرأف بحاله ويكرمه في صديقه ولا يحرمه منه.. يقترب أكثر من فراشه، يكاد يلتصق به، يتمنى لو فتح زين عينيه فشاهده بجواره، يتمنى لو فتح زين عينيه فأدرك وجوده واطمأن به، يهمس
"انت سامعني صح؟"
واثقًا أنه يسمعه
"فاكر لما كنت باقولك اوعى تموت، وانت تقولّي انت أناني خايف علىّ؟ فاكر؟ طيّب أنا بجد خايف عليك، وعايزك تعيش، حتقولّي تاني انت أناني؟ واللهِ العظيم، ورحمة أبويا، وغلاوتك عندي، النهارده بالذات مش خايف عليك علشاني، ولا أنا أناني، خايف عليك علشان مصر، مش انت قلت حتضحّي بحياتك علشانها؟ طيّب هي بقى يا زين عايزاك تعيش، تعيش علشان تحارب وتنتصر برضه علشانها، بذمّتك أنهِي أحسن لمصر، إنك تموت النهارده؟ ولا تخِف وتقوم وترجع وحدتك وتكمل الحرب مع كل زمايلك الأبطال وتنتصروا"؟
يصمت نبيل، كأنه ينتظر ردّ زين عليه، ورأيَه في كلامه
"الحق انا مش بافكر في نفسي ولا فيك بافكر في مصر، هي مش تستحق انك تعيش علشانها يا زين؟ انا عارف انك سامعني، ردّ علىّ طيّب قولّي انك لسّه حتحارب ومصمم تنتصر" !
ويلمح نبيل اختلاجةً على وجه زين، وكأنه يبتسم!
ويمر الوقت بطيئًا، وما يزالان، نبيل وزين، يتشاركان أخطر ثماني وأربعين ساعة على حياتهما معًا، وما تزال الساعات بطيئة، والطمأنينة بعيدة بعيدة.
(34)
دوّامات من الألوان الصاخبة تدور في عقله، في رأسه، بين عظام جمجمتِه. دوّامات من الألوان تدور وتدور، بقع الألوان تنتشر، تارةً خضراء صارخة، وتارةً صفراء شاحبة، وكثيرًا ما تطغى بقعٌ حمراء.
دوّامات من الألوان تدور وتأخذه وتصعد به بعيدًا وتهبط، يتعلق بخطوطٍ واهية تحمله بعيدًا، وكأنه في مدينة مَلاهٍ، وكأنه في بيت أشباح، وكأنه يقبع بين شَعر الريشة الكثيف، الريشة تخط رسمَها وهو متوارٍ بين شعرها الكثيف، يرسم معها وترسم به، لكنه لا يملك إرادة يوجّهها، ولا تملك رأفة تشفِق عليه. خطوط الألوان تتكاثف، تتشابك، تتقاطع، وهو بينها، كأن أحدَهم أسقطه في جب، ينظر لداخله، ولا يعرف كيف خارجَه، ينظر للخلف فيرى كل الأشياء معكوسة مقلوبة، يتمرد على اللحظة العابثة التي يعيشها، يتمرد ويتمنى أن يفيق، هل هذه هي الغيبوبة التي يصفونها؟ يقِظًا ومخدّرًا في آنٍ واحد، "يقِظًا تشعر بنفسك، ومخدًرًا لا تشعر بأي شيء آخر، تشعر بنفسك لكنك لا تملك في أمرها أمرًا، ولا تشعر بأي شيء آخر حتى تظنك كل الأشياء غائبًا، لكنك لست غائبًا بل يقِظ، عاجز، أسير الغيبوبة، هل هذه هي الغيبوبة؟ لا .. هذا هو الموت، أنت ميّتٌ بالفعل، حاضرٌ غائب، موجودٌ ولستَ موجودًا، الموت حصار أكبر، يبقيك في الدنيا ولا يبقيك فيها، يسرقك منها ويتركك فيها، ربما أنت ميّت، ربما دوّامات الألوان التي تحسها هي العالم الآخَر، ربما العالم الآخَر ليس إلا دوامات ألوان صاخبة تأخذك على أجنحتها لتحلّق وتهبط، ربما العالم الآخر هو خطوط الألوان التي تتنازعك وتنازع مشاعرك وأحاسيسك، فتتفاءل مع الأخضر، وتتيبّس مع الأصفر، وتتمرد مع الأحمر، ربما أنت ميّتٌ أيها الميت ولا تعرف"!
ما تزال دوّامات الألوان تأخذه وتعيده، يتمنى أن يحرك ذراعه ليكتشف أين هو، يتمنى أن يفتح عينيه المغلقَتين ليكتشف مكان وجودِه، لكن ذراعه مخدّرة لا تتحرك، وجفناه موصدان، والجسد الذي يسكنه متخشّب. فقط الروح تتقافز حيرى أسيرةَ الركام الغريب الذي تحاول الفرار منه".
الروح تتقافز حيّة، والجسد متخشّب، ودوّامات الألوان تأخذه وتعلو، وتأخذه وتهبط، لستَ ميتًا ولكني لست حي، هذا ما قرره زين وأسئلة كثيرة تداهمه في الكهف الذي يحتجزه ويأسره.
"أنت في لحظة جديدة يا زين، لحظة جديدة لم تعِشها من قبل، ربما لحظة الموت ذاته لم تَمُتها من قبل. ظلامٌ دامس يحيطك، وبعض بقع الألوان. ترى العالم أحمر، ثم يتغير للأصفر، وينتقل للأخضر، وبعض الأزرق يأتي ويذهب، هل ما تصِفه هو مشاعرك؟ هل تحولت المشاعر في تلك اللحظة الغريبة لألوانٍ صاخبة؟ حسْب حالتِك النفسية تتغير الألوان".
يتمنى أن يضحك على الجنون الذي يعيشه، لكنه عاجز عن الضحك، مثلما هو عاجز عن أي شيء آخر. يتمنى أن يضحك، فتدور الدوّامات به برتقالية، حزينًا يتمنى أن يفيق، فتحمله الدوّامات الحمراء على أجنحتها لأعلى، لكنه لا يفيق، فيسرقه الأصفر ويهبط.
"أين أنت يا زين؟ مَن أنت أساسًا؟ هل أنت زين"؟
أسئلةٌ بلا إجابات، أسئلةٌ تتحول داخل الجسد المسجّى على فراش المستشفى موصولا بالأجهزة والشاشات، تتحول لانتفاضاتٍ سريعة تلتقطها الشاشات وتتعجب وتعود لانتظامها، انتفاضات لا تسجلها الأجهزة في ملفِّه، فلا ينتبه الطبيب لحدوثها، ولا تنتبه الممرضة أيضًا. هذا الجسد الذي يبدو صامتًا أخرس يتكلم ويقول، ينتفض ويتمرد، يعبّر عن نفسه رغم الخرس والعجز، هذا الجسد ما يزال حيًا، والروح المحجوزة بداخله تناضِل لتبقى حية، وتحاول أن تساعده ليشفى ويعود حيًا، لكن الشاشات خرساء، والفراش أيضًا، ولا أحد يعاونه ليعبّر عن نفسه!
صوتٌ بعيد بعيد يقترب، صوتٌ يتحول لدوّامةٍ بنفسجية، صوتٌ يغزو صمتَه بباقات من البنفسجي الساطع، إرسالٌ يغزو صمتَه وخرسَه وعجزه.
"ها هي الحياة ترسل لك الرسالة التي كنتَ تنتظرها للتأكد انك ما تزال في تلك الحياة".
يضحك زين، أو ما تَبقى منه، أو بعضه، يضحك لأن الحياة تخدعه حتى وهو ميّت، ترسِل له رسائل وكأنه ما يزال حيًا رغم أنه ميت. دوّامات البنفسجي تأخذه وتعلو به وتهبط، وصوتٌ غريب، بل مألوف، يخترق صمتَه، ويأتيه من بعيد خفيضًا ممضوغًا"
"انت سامعني يا زين"؟
(35)
غربة.. هذا ما يشعر به نبيل دائمًا، إنه الغريب الحائر، الغريب التائه، قشة على وجه الماء، تتلاطمها الأمواج وتتقاذفها، شجرةٌ بلا جذور، ورقةٌ خشِنة من أوراق شجرة تَحكّم فيها الخريف، وأمر بسقوطها فتهاوت، وأمر ببعثرتها فتمزقت، وما تزال تتطاير وسط الضباب الكثيف.
يحدّق في زين نائمًا أمامَه على الفراش، موصولاً بالشاشات والأنابيب، أنفاسه بطيئة بطيئة، وكأن كل نفَسٍ يتمنى أن يكون الأخير مترددًا يَخرج ويعود.
يحدّق فيه ويتمنى أن يبكي، لكن البكاء لا يجدي، ولن يجدي، يسأل نفسَه عن الأيام التي باعدت بينهما حتى فوجئ به يعود إليه جريحًا ينازع الموت.
"لماذا سمحتَ يا نبيل للزمن أن يمزق آخر أوصال روحِك ويباعدك عن باقي الدفء الذي تمنيتَه، فمنحه الله، لكن عطفًا وكرما. المقعد الخشبي يمزق عظامه، والخوف على زين يمزق قلبَه، والأيام الموحشة تحيطه وكأنه ابن شرنقتِها وأسيرها، الدكتورة نادية.. يبتسم نبيل ساخرًا من حمقِه كيف تزوجها؟! سؤالٌ سأله لنفسه طويلا دون إجابات، بعد موت أمّه بأيام قليله قابَلها في المستشفى، لا يعرفها من قبل، منقولةٌ من مستشفى ناءٍ، ولا يعرف السبب، قدّمت له واجب العزاء، مثل كل زملائه، اقتربت منه بحكم وحدتها وغربتها في المدينة الكبيرة الصاخبة المخيفة التي لا تعرف فيها أحدًا، شكَت له من قسوة الزمان عليها، ومن طلاق أبيها وزواج أمّها، ووحدتها، باحت له بخوفها الدفين وهي نائمة في غرفه الاستراحة وحيدة، وأنها لا تنام أبدًا، ولا يغمض لها جفن، كل هذا لا يبرر له أن يتزوجها، ولا يبرر له أن يقرر أن ينتشلها، حسْب تصوراته الحمقاء، من ظروفها وظروف حياتها، فيفسد كل حياته وظروفه، لكنه فعل! في يومٍ موحِش بارد طلب الزواج منها، سبقَ ذلك اليومَ ليالٍ طويلة داهَمته فيها الكوابيس طيلة الليل، وحاصرته وأسَرَته، وقهرته وأخافته، كوابيس موحِشة متوحشة، ينازعها وتنازعه. "ستموت وحيدًا، ولن يشعر بك أحد، وستنساك الأيام قبل أن تتذكرك".
ويصرخ ويتشاجر، وينادي أباه فلا يأتيه، وينادي أمّه فتحدّق فيه بأسىً وترحل، وتحاصره انفجارات القنابل ودوِي الرصاص، ويري البيوت تنهار فوق قاطنيها، ويرى رعب الناس وهُم يجرون صوب الخنادق، ويرى المظلّيين يسقطون من السماء في صالة منزله يحتلونها، ويرى بدلة أبيه تخرج من خزانتها، وتطلِق رصاصها تهدم الجدران والمنزل وهو صغير مرعوب .. ويستيقظ وينام، وينام ويستيقظ … ولا بدّ من شيء يغيّر حياته، فلا يبقى وحيدًا يحادِث الوطاويط والأشباح، ويفِر من الكوابيس للكوابيس، فكانت نادية.. في المستشفى وبسرعةٍ عرض عليها الزواج، وكأنها كانت تنتظر عرضَه لتقبَله بسرعة، تحتاج مأوى وحضنًا، تحتاج منزلا وسندًا، تحتاج سقفًا تنام تحتَه آمنى .. وتحتاج رجلا يقتحم غاباتِ السافانا الاستوائية في روحِها، يحتويها ويحِبها، علّ الزهور الميتة تعود للحياة، فكان أن تزوجا!
الدكتورة نادية.. ما يزال نبيل يحدّق في جسد زين أمامَه يراقبه وأنفاسَه، في هذه اللحظة بالذات لا يطلِق لمخاوفه العنان، ولا يسمح لها أن تكسر ثقته في نجاة زين. "ستنجو يا زين مهما رواغتَني، ومهما رواغك الموت، ستنجو، اعبثْ كما تشاء، واخدع نفسك والعالم وكأنك سترحل، لكنك ستنجو وتبقى، وسنمد بيننا حبال الوصل التي سمحتُ أنا للحياة وللدكتورة نادية أن تمزقها". يبتسم ابتسامة زرقاء، الآن يبتسِمها، الحقّ أن كل شيء حوله يحاصره بالابتسامات الزرقاء، يبتسم ساخرًا من نفسِه
"لا تلُم نادية على ملامحها ولا على شكلها، كل شيء كان واضحًا أمامك، لكنك اخترتَها، نعم لم تحِبها أبدًا، لكنك اخترتَها دون كل النسوة والجميلات، وتزوجتَها، هذا ليس زواجًا، هذا انتحار.. الحياة كئيبة إلى درجةٍ لا يجدي معها أي أملٍ في الفرحة، نجوى ماتت وتركتك وحيدًا، أسيرَ البدلة العسكرية ودمائها المتجلطة على النسيج المهتريء، تركتك وحيدًا بين الجدران الصمّاء التي لم تسمع أبدًا صوت ضحكات الفرحة، تركتك وحيدًا مع الأثاث العتيق الذي وشِمَ بدموعها وقهرها ووحدتها، ماتت نجوى فانتابك الرعب من أن تموت وحيدًا لا يدرِك أحد بموتك، تتحلل جثتك وتتعفن وأنت راقد فوق دودِها لا يدري بك أحد! زين في وحدته العسكرية، والعمّ وصفي والخالة فردوس يجلسان في التراسينة يسترجعان أيام القهر والهزيمة، والفرحة والنصر، وينتظرانِك أن تزورهما، لكنك مللتَ من الزيارات، مللت من أن تتحول لحقيبةٍ يحملها صاحب النصيب لمكانِه، مللتَ الغربة التي لا نهاية لها ولا شطآن لبحرِها، تبحث عن أرضٍ تمد بها جذرك، لكن الأرض صخرية، وجذورك هشة كوجع الحزن الممتد في أرجاء روحك. نجوى ماتت فحاصرك الموت، وكأنه اختيارك الوحيد. ستموت وحيدًا وهذا قدرك، لا ابنٌ ينعاك، ولا أمّ ترثيك، ولا أخٌ يحزن عليك! أنت اليتيم، ابن الشهيد الذي منحك أوسمة الفخر والشرف وكل الوجع، ستموت وحيدًا وهذا قدرك، ستنام على الفراش وكأنك ستستيقظ غدًا، لكن غدك لن يأتي، ستتسلل روحك ببطء وصمت وهدوء من جسدك، وتتركه يتحلل على الفراش، سيترك دودك على فراش أمّك حزنًا فوق الحزن، حينما يكسرون الباب سيجدون بقاياك على الفراش دون وداعٍ أو حزن، سيلملِمونك في كفن مهترئ ويلقون بك في مقبرةٍ لا نعرف اسم صاحبها"!
ينتفض نبيل غاضبًا من كل التداعيات المجنونة التي حاصرته بعد أن ماتت أمّه، ينتفض غاضبًا، لولا هذا الجنون الأحمق ما انتحر مثلما انتحر، انتحر وبقي على قيد الحياة، خاف الموت فاشتراه وعاشه حيًا، لولا هذا الجنون الأحمق ما قبِل أن يتزوج الدكتورة نادية، ما عرضَ عليها أن ترافقه حياته فقبِلت وبسرعة! لولا هذا الجنون الأحمق لانتبَه للجبّ الذي انزلق إليه ففَر منه، لعَدلَ عن عرضه وفرّ منها، ولو تصورته نذلاً أو أحمقَ أو مجنونًا!
"أنا يا سيدتي نذل وأحمق ومجنون، لكني لن أقع في أسْر موتِك الذي سعيتُ إليه في لحظه جنونٍ وحُمق".
لكنه لم ينتبِه لِما يفعله في نفسه، أحَسّه خطيئة تستحق المداراة، فلم يَدعُ زين ليشهد على وثيقة زواجه، ولم يشترِ بدلة جديدة، ولم يحتفظ بصوره زفافها وهي ترتدي الفستان القبيح الذي استأجرتَه، خطيئة يلزم إخفاؤها فأخفاها!
"الله يخرب بيتك يا نبيل، بجد بجد، الله يخرب بيتك"
همس لنفسه وهو يراقب زين على الفراش أمامَه ينازع الموت، وبحثَ عن بيته الذي تمنى خرابه فوجده خربًا لا يستحق منه دعاء ولا يتحمل!
يحدّق في زين وجسده الواهن، يرجوه ألا يخذله
"تمالَك روحك يا رجل وابقَ معي، موتك لن يحقق انتصارًا، وانسحابك من الحياة لن يريحك؛ فالمعارك الكثيرة تنتظرك وتحتاجك". وكأنه سمع الجسدَ الواهن يهمس
"سأبقى وسأنتصر، ماذا عنك أنت أيها المهزوم الأكبر"؟!
وانقطع التيار الكهربائي ثانية بعد أن دوّت بعض الانفجارات البعيدة، وساد الظلام. وكأن نبيل وزين هرعا للمخبأ وسط غارةٍ جوية كبيرة طويلة.
(36)
وما تزال نسائم الليل الباردة تربّت على وجه زين ونبيل، وهُما جالسان على سطح العقار في ليلةٍ حارة طويلة. الفجر ما يزال بعيدًا، والشابان يتجاذبان أطراف الحديث والحلم، والمستقبل يبدو أمامهما مشرقا، ولِم لا يكون مشرقًا؟ فالبلد خرجت من الحرب منتصرة، وفتحت المدن المغلقة أبوابها لأهلها ومحبيها، وزغردت السفن وهي تبخر متباهية فوق سطح القناة التي حررها الأبطال، فعادت ممرًا مائيًا للخير بعد أن كسرت الإرادة المصرية هولَ الأكاذيب الإسرائيلية بتحويلها لمانع مائي أمامَه جدار منيع يبقي الهزيمةَ للأبد راسخةً على قلوب المصريين، كسرَ المصريون الخوف، واستقووا بالإرادة والعلم والتاريخ والرجال، وحطموا كل الأكاذيب والخدع والأهوال والساتر الترابي وعبروا القناة بمئات الألوف من الرجال في لحظةٍ واحدة فحرروا الأرض والقناة، وبدا وكأن الحياة تبتسم للوطن وأبنائه وكلِّ مَن دفع الثمن الغالي لنصل لِما وصلنا إليه. يتجاذبان أطراف الحديث، لكن خوفًا يخلع قلبيهما معًا، هل سيعود العم وصفي لبيتِه في المدينة الباسلة، ويخلع زين من إخوّة نبيل، ويقهر نبيل بيتمٍ جديد، وتعود نجوى وحيدة تبكي؟ هل سيعود العم وصفي لبيتِه ويترك الشقة المؤجرة وقت الهزيمة، ويرحل عنها وقت الانتصار؟ خوف يمزق قلبيهما بأسئلة مخيفة، لا يحاولان أن يعثرا لها على أية إجابات، هل سنعيش الهزيمة وجعًا، والانتصارَ أيضًا؟
خمس سنوات عاشها العم وصفي وعائلته مع السيدة حرَم المقدّم الشهيد وابنها فصارا عائلة واحدة تتشاركان الحزن والفرحة، هل حان وقت الرحيل؟
يسأله نبيل
* انت ناوي على ايه يا زين؟
انتبَه زين وتعجّب من سؤال صديقه
* ازاي يعني؟ قصدك ايه؟
* حتخُش كليّة ايه؟
* ما انا فهمت سؤالك، بس مستغرب منه، أنا ضابط يا نبيل، أي ضابط، دي أمنية عمري اللي حاحققها، لما كنت باشوفهم زمان في عربياتهم الجيب على شط القنال، وابويا يشاور ليهم ويضحك فيضحكوا، تمنيت أكون واحد منهم، ولمّا مشينا وقفلنا البيت ولقيتهم بيودّعونا ويوعِدونا نرجع ومنتصرين، تمنيت أكون واحد منهم، ولمّا سمعت من ابويا عنهم وعن بطولاتهم وعن تضحياتهم علشان كلنا نعيش، تمنيت أكون واحد منهم.
وانبرى زين يحكي ويحكي
* أنا ضابط يا نبيل، ضابط معرفش اعمل حاجه تانيه
يسمع نبيل ل زين والألم يغزو قلبَه
* تاني ضابط؟ تاني وجع؟ تاني رحيل؟؟ تاني استشهاد؟؟ تاني أطفال يتامى وحزن وقهر وزوجة تبكي؟
فطن زين لرأس نبيل وتداعيات أفكاره
* بُص أنا زيّك بالضبط، باحِب الحياة، ونفسي نعيش ونفرح، وزيك بالضبط دفعت الثمن، جايز كل واحد بطريقته، لكن كلنا دفعنا الثمن، لكن ده خلّاني مصمّم أكتر أكمّل في الطريق، علشان الحرب الجايّه ما اسبش بيتي ومدينتي وامشي، الحرب الجايّه كلهم يمشوا وافضل أنا مكاني أحارب وانتصر وارجّعهم لبيتهم مطمنين.
أدرك نبيل أن الهجرة التي عاشها زين حرمانًا من بيته وشوارعه ومدينته الباسلة، حفرت في روحه تحديًا وإرادة وتصميمًا ليعود للمدينة التي هجّر منها طفلا صغيرًا، ليعود لها ضابطًا محاربًا يدافع عنها وعن أهلها ويحقق لها الانتصارات.
واستراح نبيل قليلا، لأن زين سيبقى معه في القاهرة، حتى لو عاد العم وصفي لبيتِه ومدينته الباسلة وشط القنال، فالكلية الحربية التي ستمنح زين بدلته العسكرية وتحقق أمنيته القديمة، بجوار منزلهما، زين سيبقى، والأخوّة ستبقى، وجرح فراق العم وصفي وعائلته سيندمل قليلا ببقاء زين في حياته وبيته والحي العتيق الذي يعيشان فيه.
* وانت يا بلبل؟
ابتسم زين..
* غاوي شقا ومذاكره؟
يشاكسه..
* لا.. أنا عايز أكون الدكتور اللي يستقبلك وانت متصاب، ويعالجك ويمنحك فرصه تانيه وعاشره علشان تحارب وتنتصر
وضحكا معًا ساخريْن من أمنياتهما الغربية، ولم يتصورا أنها يتحدثان عن نبوءةٍ سيعيشانها معًا في تلك الليلة الصعبة التي يعيشها نبيل الآن.
(37)
كأنه نائم، وكأنه غائب، وكأنه بعيد. على فراشِه في غرفة العناية المركّزة يصارع زين الساعاتِ الحرجة وبطشها، كأنه طفل قليل الحيلة في رحِم أمّه ينتظر المخاض ليعيش ويولَد من جديد، يصارع الرحيل الذي يوصد نبيل أمامَه كل الأبواب والنوافذ، ويصارعه تشبثًا ب زين الذي تحوّل في تلك اللحظة لابنِه وأبيه وكل ما له في الحياة.
لن ترحل يا زين.. لن ترحل، إلا أنت يا زين"
حدّق نبيل في وجه زين، لم ترحل روحه بعد عن جسده، ربما تستعد للرحيل، ربما يفلح في أن يقنعها كي تبقى معه ولا تتركه يتيمًا، ربما يهوّن أوجاع الجسد فتسكن الروح وتبقى حتى يتعافى الجسد وتتعافى معه، ربما يفلح نبيل في أن يغيّر مصيره لآخر يتصوره لن يحدث وهو مصيره الحقيقي، ربما مكتوب ل زين ألا يموت في تلك الليلة الموحشة ويرحل للسماء، ربما مكتوب له يبقي حيًا على يد صديق عمره، فيمتنّ له أنه أنقذ أمّه من أحزان تكوي القلب، ربما وألف ربما، نبيل لا يعرف، ولا زين أيضًا، والساعات القادمة حرِجة، وستحمل إجاباتٍ حاسمة لألف سؤال يدور في أذهان الجميع.
ويلتصق نبيل بجسده المرتعش على المقعد الخشبي، وظهرُه للحائط يراقب جسد زين، ومؤشراتُه الحيوية ترتسم على الشاشات أرقامًا وعلاماتٍ ومنحيات تصعد وتهبط، ويتمتم نبيل بكل الأدعية التي حفظها والتي ابتكرها، ويدعو مِن أعماق قلبه لربّه الرحيم ألا يقسو عليه برحيل زين
"إلا أنت يا زين"
وما تزال الغرفة صامتة، وأنفاس نبيل بطيئة مثل أنفاس زين، وكأن روحًا واحدة تسكن جسديهما الذي يصارع الموت والذي يصارع الهزيمة … ومازال الليل في أولِه.
"لن ترحل يا زين، لن ترحل".
يتسلل صوت همسِه لتجاويف رأس زين، يتسلل صوت همسِه لدفقات دفءٍ لا يعرف النائم الغائب معناها، كل الكلمات لا معنى لها، كل الكلمات تتحول لصورٍ وأحاسيسَ ومشاعر يعجز الجسد، والروح أيضًا، عن تفسيرها. يتسلل صوت صدقِه لروح زين المحبوسة داخل جسد يصارع الموت ليحيا، ويصارع الحياة ليبقى، يتسلل صوت نبيل لروح زين تمنحه بعض الطمأنينة وكأنه شفِي وسيفيق، يسكن الجسد للأصوات التي لا يفهمها وكأنه يفهمها، يسمع أصواتًا ممضوغة تحاصره، أصواتًا غريبة لا يعرف كيف يفسرها. صوت خرير مياهٍ ينساب داخل روحه، كأنه عطشَ في الصحراء وعثر تائهًا على عين ماءٍ عذب، يهبط على ركبتيه ويغرف من مائها بكفيه، يتسرب الماء من بين أصابعه يروي الرمال ولا يصل جوفه، يتململ، يشعر ألمًا في ركبتيه، رمال الصحراء توخزه بسنونها الموجعة، يتأوه، يتوجع، يتألم، يتمنى أن يقف، يحاول، يتعثر فوق الرمال الساخنة، يسند بكفيه على الأرض، الأرض ساخنة تحرق أصابعه، يتعثر، كأنه سيسقط على وجهه، الرمال ستملأ عينيه وأنفَه، وتلتصق بشفتيه تخنقه، يختنق، هذا ما يشعر به، يختنق.
الجسد النائم على الفراش موصولا بالشاشات والمحاليل ينتفض، يختنق، وتظلل الزرقة ملامحه ولون جلدِه، يختنق، نعم يختنق، الهواء لا يصل رئتيه فيسعل، وضربات قلبِه تتباطأ وتتباطأ، ما يزال الجسد يتعثر فوق رمال الصحراء الساخنة، وما تزال الرمال تخنقه وتكتم أنفاسه، وما يزال الوجع ينفذ لمراكز أعصابه، يحترق بسخونة الرمال. أصوات ممضوغة تحاصره، نداءات لا يفهمها، وطاقه نورٍ تكاد تنفتح أمامَه تنتشله من كل العذاب الذي يعيشه منذ انهارت الجدران فوقَه في الليلة البعيدة التي لا يعرف متى كانت، ولا ما الذي يمر فيه مِن بعدها، يرى نفسه تائهًا في الصحراء، والشمس تثقب رأسه وتُخرِج مخّه تلقي به للنواهش الجوعى، يرى الرمال تقفز من تحت قدميه لرأسه تكسوه كله، تكفّنه ببلوراتها المسنونة بالوجع، يَكره الصحراء، ويحِب البحر، لكن البحر بعيد، والصحراء تحيطه من كل جانب! ينفض جسدَه من كفن الرمال، ويحاول أن ينقذ نفسه، ينتفض وينتفض، الزرقة ما تزال تكسوه وتزيد من قتامتها، شمس الصحراء تحرق جسده، وتخرق رأسه ومخّه أمام عينيه، ينهشه الجوعى، والماء يجري بين يديه لا يرويه، عطِش مخنوق، يبحث عن ظلٍ يحتويه ولو لبرهة، ظِل يسكن وجعه ويبعد عن روحه سكاكين الحريق التي تمزقه، لكنه تائهٌ محاصَر لا يجد إلا سرابًا يقبض عليه فلا ينتقل إلا من وجعٍ لوجع، وكأن فيضانًا أحمرَ سيأتيه قريبًا، يرى أمواجًا حمراء عالية تخرج من جوف الصحراء تكاد تغرقه، كأن أعاصير من لهبٍ تحاصره وستغرقه بحمرة وجعها وألمِها. تائهٌ محاصَر في مكانه لا يجد مَخرجًا ولا فرارًا، يختنق ويختنق، وتتباطأ أنفاسه، ويكاد يستسلم للموت في رمال الصحراء محترقًا أزرق، وتكاد النواهش تستعد لتمزيق جسده، وتكاد طاقة النور البعيدة تقترب وترحل به بعيدًا عن كل هذا الوجع، يختنق .. ويختنق!
تصرخ الشاشات بأرقام تشير لحالتِه المضطربة، يقفز نبيل من مقعده، يقترب من الجسد المتألم، ضربات قلبِه بطيئة بطيئة وكأنها ستصمت، يعرف نبيل ما يحدث
"لن ترحل يا زين..لن ترحل"!
يصرخ في الممرضة يناديها لتأتيه بحقنة تنظّم ضرباتِ القلب المتعثر، يراقب أنفاسه تشحب وتشحب، وكأنها ستخفت وتصمت، يرتبِك نبيل، يراقب الشاشات وهو يصرخ، تأتيه الممرضة بالحقنة، يفرغها في الأنابيب الموصولة بأوردتِه، يسري الدواء قطرةً قطرة في جسد زين، تنتظم ضربات قلبِه التي كادت تتلاشى، وترسم خطًا مستقيمًا على الشاشة، يعلو الصدر ويهبط بطيئًا بطيئًا، لكنه يتحرك، والأنفاس التي كادت تخفت تعود وتعيد زين للحياة، يتوارى الشحوب ببطء، والزرقة أيضًا، وتعود الملامح التي كان يعتصرها الألم لبعض السكون، وكأنها استراحت من هجومٍ موجِع.
صوتُ خرير المياه ما يزال ينساب لروحه، بعض الماء العذب يروي عطشَه قطرةً قطرة، الماء الحلو يغسل المِلح المتكلس على شفتيه وجوفه وبلعومه، يندفع ببطء يزيل أمامَه بلورات المِلح المسنونة في طريقها، الرمال التي كانت ساخنة تبرد، والوجع الذي يحاصره من سخونتها وسنونها يقِل ويقِل. يبتسم التائه في بحار الرمال ابتسامة صغيرة، وكأنه سيقبض على السراب الذي طالما خايله في رحلته الغريبة وسط تلال الرمال وهضابها وتبتعد عنه الأعاصير الحمراء المخيفة.. وتنتظم أنفاسه، وتشير الشاشات لانتظام ضربات قلبِه .. وما تزال الساعات الحرِجة تحاصر زين لتحمِله لموكب الفخر في رحلتِه الأخيرة صوب نهر الكوثر. ما تزال الساعات الحرجة تحاصر زين وما يزال نبيل يغلِق أمام صديق عمره وأخيه بواباتِ الرحيل، ويتشبث بثوبه ليبقى مثلما فعل طيلة حياتهما معًا .. وما يزال الليل طويلا.
(38)
يبكي في غرفته الصغيرة، في استراحة المستشفى يبكي وينتحب.
تطرق ليلى الباب وتدخل، بمنتهى القوة والحسم تهمس
* أنا ماشيه بُكره، وقلت آجي أودّعك يا دكتور
تلمح دموعه التي يواريها، تلمع دموعها في مقلتيها تشاركه الوجع والحزن
* بتعيّط ليه يا دكتور؟
تضع الحواجز بينهما متعمدة
* ما انت الحمد لله اتطمنت على المقدّم زين
* ده عياط سنين كتيره قوي يا ليلي، عياط مكبوت، بس النهارده من كتر الفرحة أعصابي باظت وافتكرت القديم والجديد.
تناوِله كوب ماء بارد
* مبروك يا دكتور، انت عملت الأسبوع ده عمل عظيم، الحقّ عملت اللي عليك وزياده، ألف مبروك.
يتمنى أن تقترب منه، يتمنى أن تحتويه في حضنها، يتمنى أن تمسح دموعه بقبلاتها، يتمنى أن تتوحد معه تمامًا في تلك اللحظة، وأن يبكيا معًا بدموع الفرح، يتمنى أشياء كثيرة، لكنها بعيدة، بعيدة، وتبتعد أكثر وأكثر.
* المقدّم زين حيروح بُكره وانت بقى تاخد أجازه، تريّح أعصابك وجسمك وروحك من الأسبوع اللي فات وكل اللي حصل فيه.
يتمنى لو تأتي معه إلى بورسعيد، يتمنى لو تجلس معه على مقهى الجيانولا ويتقاسمان قطعة الكاساتا، يتمنى لو تركب معه المعدّية إلى بور توفيق، ويتطاير شعرها على سطح المركب، وتبلل فقاعات الماء وجهها وشعرها، يتمنى لو جلست معه في تراسينة الخالة فردوس، يتمنى لو العمّ وصفي يبارك زواجهما، يتمنى .. ويتمنى. ويتمنى.
تلوّح له مودّعة وتخرج من الغرفة، وتتركه وحيدًا يحدّق في المِرآة يبحث عن نفسه.
يتردد صوت زين في أذنيه
"بطّل تستخبّى يا نبيل، وشوف ايه اللي بيسعدك واعمله".
ويقرر أن يعود مع زين إلى بورسعيد، علّه يجد نفسه هناك، علّه يجد إجاباتٍ للأسئلة الموجعة التي تطارده وتفسِد عليه حياته، علّه يستطيع أن يقرر ما الذي سيفعله مع نادية، ومع نورة، ومع ليلى، علّ أدعية الخالة فردوس تهوّن عليه الصعب وتساعده ليجد ما يسعده، ويمنح حياتَه قيمة.
يقرر أن يعود مع زين إلى بورسعيد، علّ المدينة الباسلة تبوح له بأسرارها وتحتويه، تبرئ جروحَ روحه ونفسِه، علّها تقص عليه تاريخ أبيه، فتزرع في روحه فخرًا ينسِيه اليتم ووجعه وأيامَه الموحشة، علّها تهديه بفنارها القديم لسبيلِه التائه، يصالِح نادية، ويصالح نفسه، يمنحها حريتَها، ويقتنص منها حريته، يفسح في حياته مكانًا ل ليلى ويطاردها بحبه، ويبدأ معها حياة جديدة تمحو ببهجتها قسوةَ الحياة الأولى وإخفاقاتِها المخزية.
وفجأة يتذكر مايا، "أنا ابنة الشهيد محمد المبروك"، يتذكرها وصوتها الغاضب، يتذكرها ووجعها ويتمها، ويقرر أن يصحب نورة لزيارتها فور عودته للقاهرة، ربما يفلح في أن يحتويها، مثلما أفلح العمّ وصفي في أن يحتويه، ربما تصبح هي ونورة، مثلما صار هو وزين، أختين شقيقتين، تتساندان على بعضهما البعض في الأيام الصعبة الموحِشة، وما أكثرها! ربما هذا ما سيمنح حياته قيمة ويسعِده، مايا ونورة، ربما.
(39)
في هذه اللحظة، على ضفة القناة، يتابع السفنَ المارة، وينصِت للأصوات الصاخبة، ويستنشق الهواء النقي، ويبتسم بلا سببٍ مفهوم. ترك زين في فراشه، وبجواره الخالة فردوس تدعو له وتطعِمه، مستكينًا كان في حضنها كفرخ النورس الصغير، تلقمه أمّه بالحياة والحماية، سارَ مع العمّ وصفي حتى المقهى العتيق، وتركه فيه وأكمل سيره صوب القناة، يحدّق في النوارس المحلقة في السماء، يتابعها وهي ترسم دوائر في السماء الصحوة، تهبط صوب الماء وتصعد، وما بين الصعود والهبوط، والشقاء والتحليق، حياتها. يتابع السرب ويتمنى أن يلحق به في السماء، بل يتمنى أن يأتي بالسماء كلها ل زين تحتفي بشفائه. انتصر المقاتل على الغدر والإرهاب، وسيكمل حربَه لينتصر لوطنِه مرة أخيرة وحاسمة، سيأتي له بالسماء، بل سيطلِق جناحيه للسماء يحلّق فيها وسط سِرب النوارس. الأجنحة البيضاء تلون السماء بالبهجة، يلمح دموعًا ملونة تتساقط من النوارس على رأسه، دموع الفرحة التي ادّخرها لتلك اللحظة، لحظة شفاء زين وانتصارهما معًا. قابعٌ على ضفة القناة يتابع السفن المارة وحده
"سأغيّر حياتي وأبحث عن معناها وقيمتها".
يلمح ابتسامة زين نائمًا يتعافى في حضن الخالة فردوس
"سأطرق باب مايا، ونورة في يدي، سأحمل لها علبة شوكولاته، سأمنحها حضني الدافئ، سأقص لها عن أبيها وبطولاته، سأقص لها عن أبي وتضحياته، سأتركها تلعب مع نورة وأعود بعد ساعتين لأصطحب ابنتي وأعِدها بتكرار الزيارة، سأكبّر لها صورة أبيها وأزيّنها بإطارٍ ملوّن وأحملها لها لتضعها في حجرة نومها، سأوصي أمّها ألا تكون مثل أمي، تبكي فقدان زوجها ليلَ نهار، سأقول لها إن الشهداء يشعرون بالفرحة مثلما يشعرون بالحزن، سأوصيها أن تمنح زوجها من جميل مشاعرها، وأن تدعو له بالرحمة، وأن تعيش حياتها ببعض السعادة، وأن تمنح ابنتها الفرحة. لقد استشهِد زوجها ليمنحنا جميعًا الفرحة، فليس أقل من أن نمنح نحن جميعًا ابنتَه الفرحة".
وتحلّق النوارس أعلى وأعلى، وترسم بأجنحتها البيضاء بعض الفرحة في السماء.
وحَلّقت النوارس وحَلّقت
وطارت وارتفعت بعيدًا عن الأرض
وعادت بسرعة، وقذفت ببدنها وسط الماء
وبكت وكأن أحدًا لن يراها
وبالفعل.. لم يرَها أحد!
31 ديسمبر 2013


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.