تعاني القنوات الفضائية المصرية الخاصة من غياب البرامج الثقافية المتخصصة في السنوات الأخيرة وهذا في الأساس يرجع إلى عدة أسباب : أولها: تحول الإعلام من مجال خدمي غرضه تثقيف الجماهير إلى مجال تجاري ، ذي منحي استهلاكي ، مما أدى إلى غياب البرامج التوعوية من شاشات الفضائيات ومنها البرامج التعليمية والثقافية ، وأيضاً برامج الأطفال . ثانيا : البرامج المتخصصة ومنها ” البرامج الثقافية ” ، ذات الطابع الجاد تحتاج إلى ميزانيات ضخمة ، بعكس ما يقدم الان على الفضائيات المتنوعة من برامج سطحية ، والتي تقدم بميزانيات أقل وتتخللها حملات إعلانية كبيرة . وفي معظم الأحيان يكون المتحكم الأول فيما يعرض فيها من محتوى برامجي هم المعلنون وليست إدارة القناة . ثالثا : تغير ذائقة الجمهور ، نتيجة تراكمات متعددة وبفعل سياسات إعلامية خاطئة أدت إلى تهميش البرامج الثقافية ، من خلال تحويلها للإعلام من رسالته الأساسية وهي تقديم خدمة للمشاهد إلى سلعة تجارية لا يسعي القائمون عليها إلا من أجل الربح المادي فقط . وكانت من نتيجة ذلك ترك مساحة هائلة من الفراغ الإعلامي الذي ملئ بالأفكار المتطرفة ، والأغاني الهابطة ، وبرامج الدجل والأحلام والسحر والشعوذة ، بعيدا عن أي محتوى ثقافي أو فكري . رابعا: غياب الهوية الإعلامية ، فلا توجد هوية إعلامية حقيقية لمعظم القنوات الفضائية الخاصة ، فمواقفها تتغير وفق تغير الأحداث اليومية السياسية تحديداً ، فكل قناة مرتبطة بفكرة المصالح وعلاقة أصحابها بالسلطة الموجودة. لذا لا يوجد في الفضائيات الخاصة دور لترسيخ الثقافة والقيم الأدبية لدى المجتمع ، أو حتى الدعوة إلى التعريف بالحضارة المصرية . البعد العربي والمسألة ليست فقط في القنوات الفضائية المصرية بل ينطبق ذلك على القنوات الفضائية العربية ، فلا توجد قناة واحدة تهتم بالبعد الثقافي العربي أو حتى الشأن الثقافي للبلد التي تبث منها ، وإن وجدت بعض القنوات التي بها برامج ثقافية لكنها قليلة وتكاد تكون نادرة ، مثل قناة ” on” والتي يقدم بها برنامج ” المساء مع قصواء” والذي تقدمه الإعلامية ” قصواء الخلالي ” وتستضيف من خلاله عدد من الأدباء والشعراء والمفكرين الذين يتحدثون عن تجاربهم الإبداعية ، مثل إبراهيم عبد المجيد ، وأحمد عبد المعطي حجازي ، وعبد الستار سليم ، وسمير عبد الباقي ، ورفعت سلام والشاعر الفلسطيني موسى حوامدة ، والروائي اليمني محمد الغرب عمران وغيرهم . كما تقدم قناة ” ten” برنامج ” وصفولي الصبر عن الكتابة وأصولها ” من إعداد وتقديم الشاعر عمر طاهر ويقدم في الساعة الخامسة مساء يوم الجمعة ، ويستضيف من خلاله عدداً من المبدعين والمفكرين ، الذين يتحدثون عن رأيهم في الثقافة والفكر والتاريخ وأهم قراءاتهم ، وقد شاهدت عدداً من الحلقات ، من أهمها حلقة مسجلة مع المفكر الراحل د. جلال أمين صاحب كتاب ” ماذا حدث للمصريين ” تحدث فيه عن التغييرات التي حدثت في الثقافة المصرية والعربية منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى الآن ، وما استتبعه ذلك من تغير النمط الحياتي والأخلاقي ، وكذلك ما حدث من تغير في الفنون والآداب المختلفة . أما الحلقة التي تم فيها استضافة الروائي إبراهيم عبد المجيد فتحدث فيها عن أهم المكونات والمؤثرات التي أثرت في تكوينه الإبداعي ، ورحلته من الإسكندرية إلى القاهرة ، وكتاباته الروائية ، وأهم المواقف الإنسانية التي مر بها . الهوية المفقودة ومع ذلك نجد شبه غياب للبرامج الثقافية في معظم الفضائيات بالمقارنة بالبرامج المخصصة للغناء والمسابقات المتنوعة ، والأفلام التركية والمسلسلات الهندية والمكسيكية وغيرها . وكل ذلك له تأثير سلبي على المشاهد العربي ، وإن احتوت هذه المسلسلات على ثقافات وعادات شعوب مختلفة ، كما أنها ذات جودة فنية عالية في معظم الأحيان . إلا أن الجانب السلبي لها يكمن في تركيز المشاهد فيها ، بحيث أنه يبتعد عن واقعة الذي يعيش فيه ، وعن القيم التي تربي عليها . وبالتالي ينتج عن ذلك مشاهد فاقد للهوية . الفضائيات العربية تمثل حالة صارخة للانفصال عن الكتاب والثقافة وكل ما يمت إليهما بصلة ، فلا نرى الواقع الثقافي في أي من البرامج ، بخلاف الماضي ، قديما كان المثقف والمبدع نجماً في المجتمع ، يحقق نفس الشهرة التي يحققها نجوم السينما والدراما التليفزيونية ، لأنه كانت هناك برامج ثقافية متخصصة مثل برنامج ” أمسية ثقافية ” والذي كان يقدمه الإعلامي الراحل الشاعر فاروق شوشة ، على مدار أكثر من ثلاثين عاماً ، وكان يشاهده ملايين المشاهدين ، كما كان الإعلامي المصري عبد الوهاب قتاية يقدم عدداً من البرامج الثقافية على قناة أبوظبي ” لأكثر من عشرين عاماً ، استضاف خلالها رموز الأدب والفكر في العالم العربي أمثال الشاعر محمود درويش ، والشاعر أمل دنقل ، والروائي نجيب محفوظ صاحب نوبل والشاعر السوري أدونيس وغيرهم . إلا أنه مع ظهور القنوات الفضائية الخاصة والتي يملكها رجال أعمال ، تحولت الدفة كاملة إلى الإعلام التسويقي الذي يمجد الفكرة الرأسمالية ويخدم بالتالي ” الرأسماليين الجدد ” ومصالحهم فقط . أما الدول الأوروبية فنجد أن للبرامج الثقافية أهمية واضحة في قنواتها الفضائية ، لأنها تعتبرها جزءاً من التعريف بالهوية ، بتعطيها نفس المساحة المخصصة للبرامج الرياضية والفنية ، فالقنوات الفضائية الفرنسية على سبيل المثال تبث عدداً من البرامج الثقافية المهمة ، تتناول الشأن الثقافي الفرنسي ، والأوروبي والعالمي أيضاً ، ومنها ما يهتم بالمسرح والسينما الإفريقية ، وحياة الأدباء والمبدعين وغيرها