علي عكس قانون الطبيعة.. علي عكس ما اعتاد الناس.. فضوء النار وحياتنا فيه وسعينا بدءا من الذهاب إلي المدرسة أو الجامعة أو الجري وراء العمل.. أو محاولاتنا لقضاء حاجات ما.. كل هذا يحدث في ضوء النهار.. أما الليل فهو للنوم أو للأحلام أو لكي نهدأ قليلا ونسترجع ربما ماحدث في ضوء النار. كان العكس هو الصحيح.. أو هكذا في أيام حياتي الأولي.. النهار كله كان في نظرتي إلي المكان الذي أعيش فيه في حارة كبيرة مابين شارعي الصبان وبين الجناين.. جلوس أمام مكتبة أبي رحمه الله وقراءاتي إما في روايات أحمد شوقي بك (مجنون ليلي وكليوباترا وعلي بك الكبير وقمبيز . أو كتب مصطفي لطفي المنفلوطي وصادق الرافعي (أوراق الورد) وغيرها وغيرها هذا كان محاولة لقراءة بعض المجلات التي بالمصادفة كانت تحمل دائما عناوين لأولاد وبنات من دول العالم جميعا يريدون المراسلة دفعني فضولي إلي أن أستخرج بعضها أو أضعها علي جانب مني وأبدأ المراسلة بإنجليزية بسيطة أحاول عن طريقها استكشاف مايحدث في أنحاء الدنيا وكما كانت سعادتي وأنا في السابعة من العمر و(البوسطجي) (ساعي البريد) عند قمة الحارة ينادي باسمي جواب لحضرتك من بلاد برة! وكان المشي خارجا من الحارة يمينا إلي شارع بين الجناين أو يسارا إلي شارع الصبان في محاولة لاستكشاف ماوراءهما إلي دنيا العالم الخارجي.. كان هذا كله من قبيل الرومانسية التي كانت تسألني: من أنا؟ وفي أي عالم أعيش ما هي آفاق معلوماتي وإلي أي نقطة أريد أن أصل؟.. كل هذا من قبيل الدبلوماسية. أما ليلا.. فالليل كان مختلفا جدا.. الليل المفترض فيه أن يكون هادئا.. ربما هكذا كان يبدأ.. لكن هذا الهدوء لم يكن يستمر لفترة أطول من أن نذهب في نوم عميق سرعان ما توقظنا قنابل هتلر علي البيوت المحيطة بنا في حارتنا أو التوربيدات التي كانت تدق كل أنحاء ميدان قشتمر عندما تقرر أمي رحمها الله أن ننام جميعا عند جدتي في بيتها المطل علي الميدان من ناحية والمطلة علي قهوة قشتمر في جانبه الأيمن. مازلت أذكر حادثة لا أنساها مدي حياتي أذكرها وكأنما أراها أمامي تحدث في هذه اللحظات التي أكتب عنها فيها.. وتحمل هذه الحادثة أيضا ذكري أطول مشوار مشيته في حياتي. وللحديث بقية..