كان محيط بيتنا في العباسية بين شارع بين الجناين وشارع الصبان هو العالم الكبير الذي أعيش فيه في سنوات العمر الأولي.. لكن العالم الصغير الأكثر قربا إلي قلبي هو في داخل البيت كانت كلمات أبي منذ نعومة الأظفار كلماته عن اللغة العربية وأهمية أن نتكلمها بطلاقة لها قيمة عظيمة تسانده مكتبة أعظم صحيح أنها كانت في حجرة الصالون »أوضة المسافرين« كما كنا نطلق عليها إلا أنني غالبا ماكنت أتسحّب بتشديد الحاء داخلا إليها بحيث لايراني أحد.. نعم كنت أسترق الدخول إليها وأفتح بعض أبواب المكتبة الزجاجية الجميلة دون أن يراني أحد لألمس الكتب أو لآخذ منها كتابا أجلس علي الأرض لكي أقرأ فيه.. وكانت سعادتي غامرة عندما وقعت في يدي بعض كتب »المنفلوطي« وبعض روايات شوقي: مجنون ليلي وعلي بك الكبير وقمبيز وغيرها وغيرها. أتصور أن بعض الكتب في مكتبة أبي هي التي شكلت وجداني الرومانسي رغم ماكان في هذه المكتبة من أمهات الكتب »البيان والتبيين« ولسان العرب ودواوين المتنبي وأبو العلاء المعري وغيرها كثير. إذ راحت الصبغة الرومانسية تغلب علي نفسي حتي إنني بدأت أخط بعض الأسطر في أيامي الأولي. إلا أن قنابل الحرب العالمية الثانية أيقظتني أو أضجّت »بتشديد الجيم« مضجعي فاستيقظت علي واقع أليم أليم لم أكد أحتمله ولكن كان عليّ أن أعيشه. فكانت عملية الاستيقاظ بناء علي نداء أمي في كل ليلة قوموا ياعيال.. حننزل البدروم الغارة شغالة وهتلر عمال يرمي قنابل.. وكان أبشع من هذه القنابل: التوربيدات عندما كان يتصادف أن ننام في بيت جدتي لأمي في 3 ميدان قشتمر البيت الواقع فوق قهوة قشتمر مباشرة في ميدان قشتمر محطة واحدة من ميدان فاروق إلي هناك (في اتجاه العتبة) وفي مواجهة جنينة الضاهر أو حديقة الظاهر بيبرس والتي كان الجنود الانجليز يستخدمونها مذبحا يذبحون فيها أبقارهم التي يأكلها الجيش الانجليزي إبان الحرب العالمية الأولي 4191 8191 وكان هتلر يتصور أنهم باقون هناك وبالتالي فهي الهدف الأول في تصور قادة الجيش الألماني ليقتل أكبر عدد من جنود الأعداء.. المهم كانت تركيبة غريبة تلك التي نشأت بها وعليها في سنوات العمر الأولي ولم أكن قد بلغت بعد أولي سنوات الدراسة في مدرسة خليل أغا.. نعم بين قراءات رومانسية جميلة وناعمة وبين قنابل وتوربيدات النازي تدق رؤوسنا في ميدان قشتمر!.. وأيام جميلة لاتنسي!..