يمر النيل أمام مسكني، أعيش معه معظم الوقت الذي أقضيه في بيتي، بيننا عشرة، أحرص علي أن أمتع نظري بمياه النهر الخالد قدر ما أستطيع، الخوف من فقدان العزيز يجعلنا متمسكين بقضاء أطول وقت ممكن معه، والنيل أغلي عزيز، النيل ليس مجرد مجري مائي، النيل هو حياتنا، مصر ذاتها . أزمة مصر مع دول منبع النيل مؤخرا جعلتنا نشعر بقيمة ما نملكه، أو قيمة نبع الحياة الذي نعيش من خيره، وإن كنا نسئ إليه كثيرا . لا أعرف لماذا تهاونت الحكومة وأهملت في علاقتنا مع دول أفريقية صديقة لدرجة جعلت هذه الدول تتجرأ وتتطاول علينا، انتشرت تصريحات قادة هذه الدول في العديد من الصحف ووسائل الإعلام ضد مصر في مفارقة ليست إيجابية وليست مرضية لنا، في وقت مضي كانت كل الدول الأفريقية تقريبا في علاقات جيدة معنا، لكننا انكفأنا علي أنفسنا في الداخل مهملين مصالحنا في الدوائر المحيطة بنا . كانت مصر حريصة علي ثلاث دوائر لها فيها مصالح حيوية، الدوائر العربية والإسلامية والأفريقية . كانت مصر تحتل فعلا مكانتها اللائقة، فالاتحادات والنقابات والتجمعات، كلها كانت ترأسها مصر، كانت ريادة حقيقية، ليس الأمر مجرد ترديد شعارات أو التباهي بتاريخ مضي، الأمر كان حقيقيا. كان الطلبة الأفارقة يتعلمون في جامعاتنا، وجاء زمن كان عدد كبير ممن تخرجوا في جامعاتنا من قادة الدول الأفريقية، أين نحن الآن من ذلك ؟ . كان لدينا جاليات مصرية في كل الدول الأفريقية، كان لهذه الجاليات دور في دعم العلاقات وللأسف احتل غيرنا مكاننا. ساعدناهم كثيرا في تحررهم من الاستعمار، لذلك كانوا يساندوننا في قضايانا السياسية في كل المحافل . لكن جاء زمن علي مصر أهملت فيه ما كان رصيدا لها في تلك الدول، بل أهملت دوائرها التي تحرص عليها، وعلت أصوات بغيضة تدفعنا إلي الانكفاء علي أنفسنا وإلي التقوقع داخل أنفسنا بحجة أن مصر دفعت الكثير وأنها تعبت وكفاية ما فعلته للآخرين. أي آخرين ! إن الدول عندما تساند دولا أخري، لا تساندها لمجرد العاطفة أو كما يقول العامة، لوجه الله، الدول تساند مصالحها في الأساس، الدول تحمي أمنها القومي بالدرجة الأولي، وهل تساندنا أمريكا بمعوناتها لوجه الله ! إنها تساندنا لأن لها معنا مصالح وهي تحرص علي هذه المصالح، كذلك مصر، عندما تساند دولة شقيقة أو صديقة فإنها تفعل ذلك من منطلق الحرص والحفاظ علي مصالحها. البعض يقول : مالنا والعرب، مالنا وأفريقيا ! هؤلاء هم جهلة في السياسة بدرجة امتياز، هؤلاء لا ينظرون إلا تحت أقدامهم ولا يعرفون إلا مصالحهم الخاصة، فمصلحة دولة كبيرة مثل مصر تحتاج إلي رؤية وعمق في التعامل مع مصالحها . لقد فقدنا الكثير في الوطن العربي، لدرجة أوصلتنا أحيانا إلي الصدام المباشر كما حدث بعد مباراة كروية المفترض أنها تدعم الروح الرياضية بين شباب بلدين شقيقين، فقدنا الكثير في التجمعات الإقليمية وصار الأمر وكأن هناك تربصا بمصر ورجالها داخل هذه التجمعات، وصار هناك تشف عندما تفقد مصر مكانا قياديا في هذه التجمعات . ما الذي أوصلنا إلي هذه الحالة؟!. الحكومة المصرية تتصرف وتتعامل وكأنها مصدومة غير مدركة ما يحدث، وكأنها كانت تتوقع استمرار النفوذ المصري إلي الأبد بدون أن نقدم مقابل ذلك . البعض من أصحاب الخبرات السطحية في السياسة يعتقدون أن بعض المشروعات الاستثمارية قد تسد رمق هذه الدول التي ينظرون إليها علي أنها دول ساذجة تعيش في الغابات ويمكن أن " نأكل بعقولهم حلاوة ". المؤسف أن الحكومة لا تدرك مدي التغيرات الحادثة في هذه القارة البكر التي تركناها بكامل إرادتنا لكي تمرح فيها الصين وإسرائيل وحتي بعض دول الخليج العربي التي تري فيها منجما استثماريا لا يجب أن يترك بدون الاستفادة منه. كل الدول سارعت للاغتراف من هذا المنجم إلا مصر، دول تستزرع الأراضي، دول تستغل مياه المحيط للصيد، دول تستثمر في الماس، إلخ، ولا نعرف في مصر إلا أن نلوم الغير، نلوم إسرائيل، ولا أعرف لماذا نلوم دولة تبحث عن مصالحها بينما نبحث نحن عن الانكفاء والتقوقع الداخلي، لماذا نبيع عمارات شركة النصر في أفريقيا والتي مهما كان ثمنها، لن تغني من جوع، هل هو قصر نظر، مثلما كان البعض يفكر في بيع منافذ المجمعات الاستهلاكية !. ليس من الوارد أن تقطع دول منبع النيل المياه عنا أو تحجز مياه النهر حتي لا تصل إلينا، لكن الحكومة وضعت دولة بحجم مصر في خانة غير لائقة بمكانتها وتاريخها وحضارتها، جعلت بعض قادة الدول الأفريقية يتجرأون علي مصر ويصفونها بصفات محزنة، جعلتهم يقولون ذلك في وسائل إعلام عربية ( المصيبة دوبل ) ! أمور كثيرة ورطتنا فيها الحكومة، ولم يجد الرئيس مبارك مفرا من التحرك بنفسه لإصلاح أخطاء حكومية وصلت بالأمور إلي موقف لا تحسد مصر عليه . الحديث يدور عن قمة عربية أفريقية، الحديث عن تعاون وعن تآخ، لكن، أين كنا من القارة السوداء التي لم تعد القارة الساذجة التي استعمرها الأوربيون ونهبوا ثرواتها مقابل قطع من الزجاج اللامع. صرت أخاف أن أعود إلي بيتي متأخرا، أخشي ألا ألحق بنور النهار الذي أري من خلاله النيل، أصبحت أمضي وقتا أطول ناظرا من شرفة منزلي علي النهر الخالد . هل كان لابد أن نشعر بالخطر علي نيلنا حتي نحبه ونحرص عليه وندافع عنه بكل ما نملك؟.