لعل أخطر ما يواجه الثورات من تحديات هي الثورات المضادة وخاصة تلك التي تندلع من بين صفوف الثوار أنفسهم لتضرب الثورة في مقتل وتحول دون تحقيق أهدافها النبيلة من خلال تحويل مسارها. أقول هذا بمناسبة الوقفات والاحتجاجات الفئوية التي يقوم بها بعض شرائح المجتمع من مختلف طبقاته لتحقيق مطالب لهم بعضها منطقي ومسئول والبعض الآخر غير مقبول لأسباب عدة أولا: عدم مناسبة الوقت الحالي لتنفيذ مثل هذه الطلبات التي تحتاج لإمكانيات مادية ضخمة لاتسمح بها قدرات البلاد في هذه الأوقات الحرجة والظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها الاقتصاد المصري.. ناهيك عن أن تلبية أي طلب لأي فئة من الفئات سيؤدي إلي إصرار باقي الفئات علي تلبية طلباتها وسندخل بذلك في دوامة الطلبات الفئوية التي لاتنتهي والتي يصعب تحقيقها بالفعل في هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها اقتصادنا. صحيح أن الاعتصام والتظاهر حق من حقوق الإنسان كفله الدستور وتقره قوانين البلاد الديمقراطية حماية لمصالح شعوبها.. غير أننا لابد أن نفرق بين حق الاعتصام والتظاهر وبين وقف عجلة الإنتاج في مختلف المواقع الإنتاجية وما يمثله ذلك من أضرار بالغة السوء علي الاقتصاد القومي المصري. ولابد أن يعلم ويعي الجميع أنه بدون زيادة في الإنتاج. ورفع لمعدلات الإنتاجية فإنه بالتأكيد لن يمكن تحقيق الأهداف التي تصبو إليها ثورة الخامس والعشرين من يناير والآمال التي يسعي إليها شعبنا من أجل حياة أكثر إشراقا ورفاهية.. حياة كريمة تلبي كافة احتياجات المواطن المصري في أجواء تسودها الحرية والديمقراطية والمساواة. إن المرحلة القادمة هي بلاشك مرحلة بناء الدولة العصرية التي نسعي إليها جميعا مواطنون بسطاء ومفكرون وعلماء أجلاء في مختلف مناحي الحياة ودولة القانون والعدالة الاجتماعية.. دولة تحقق الاستقرار والرخاء والأمن لشعبها وستساهم بقدر ملموس في تقدم الإنسانية. ربما يتصور البعض أن حالة الفوران هذه لابد أن تستمر حتي يمكن تحقيق كل الأهداف وفورا وإلا ضاع كل شيء ولن يتحقق أي شيء إذا ما خمدت الثورة وانطفأت شعلتها وينسي هؤلاء أن ثورة شعب مصر التي فجرها يوم الخامس والعشرين من يناير نفر من خيرة شبابه وأرقاهم فكريا وأكثرهم وطنية قد حققت العديد من أهدافها النبيلة والقيمة وأولها إسقاط دولة القهر والظلم والخوف وأصبح كافة أبناء الشعب يشعرون فعلا بالحرية والكرامة وبحقهم في تقرير مصيرهم.. ولأن هناك فرقا كبيرا بين الحرية وبين الفوضي التي يمكن أن تقوض أركان أعتي الدول وأقواها فإنه ينبغي علينا الآن أن نبذل قصاري جهدنا ونركز كل إمكانياتنا وقدراتنا لإقامة أسس هذه الدولة العصرية وبداية عصر النهضة الحديثة للدولة المصرية. والحقيقة أن الظاهرة المشرقة التي شهدها يوم السبت 19 مارس 2011 عندما خرجت الملايين من أبناء شعب مصر للإدلاء بأصواتها في الاستفتاء علي تعديل مواد الدستور قد أكدت بما لايدع مجالا للشك أن الشعب المصري يريد أن يعيش في حرية وديمقراطية وعدالة اجتماعية مثله مثل باقي الدول المتقدمة.. وبقدر ما تمثله الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية من قيم إنسانية عظيمة بقدر ما تتطلب منا الوعي والمثابرة واليقظة لتحقيقها والحفاظ عليها ومواجهة التحديات الكبيرة التي تفرضها علينا. إن إعادة بناء صرح الديمقراطية الذي غاب عنا أكثر من ستين عاما لن يتم بين ليلة وضحاها وإنما سيحتاج منا إلي مزيد من الجهد والتضحية والوقت الذي قد يمتد إلي عام أو عامين علي الأقل والديمقراطية تعني حكم الأغلبية واحترام حقوق الأقلية وتبادل السلطة بالطرق السلمية. وربما يكون تقنين هذه الأفكار العظيمة في دساتير وقوانين ولوائح أمرا سهلا خاصة أن لدينا الكثير من فقهاء القانون وأساطين علوم الدستور إلا أن ممارسة هذه الأمور علي أرض الواقع لن يكون أمرا سهلا فنحن نحتاج إلي ضرورة وجود أحزاب قوية ينعكس تأثيرها علي الشارع المصري.. أحزاب لها برامج ديمقراطية متطورة تتفق ومتطلبات العصر الذي نعيش فيه .. أحزاب قادرة علي المنافسة الشرعية وطبقا للدستور والقانون في مناخ من الحرية والديمقراطية. إن إعداد المواطن المصري ذهنيا وفكريا وتأهيله للمشاركة الفعالة في الحياة الديمقراطية يحتاج إلي كثير من الجهد والفاعلية من جميع الأطراف المعنية وفي مقدمتها الدولة ومؤسساتها المختلفة القانونية والإعلامية والتربوية والثقافية وكذلك الأحزاب بمختلف توجهاتها وكافة أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة التي يجب أن تنزل بأسلوب مخاطبتها وتوعيتها إلي فكر المواطن البسيط حتي يمكن إقناعه بمدي أهمية الديمقراطية لحياته المستقبلية وما تتطلبه هذه الديمقراطية من أمن واستقرار وبعد نظر وحتي يمكن وضع متطلباته واحتياجاته موضع التنفيذ وحتي يترسخ لديه فكر تفضيل المصلحة العامة علي المصالح الشخصية. نعم لقد عاني أبناء هذا الشعب كثيرا علي مدي عقود وسنين طويلة من قهر وظلم في غياب الحرية والديمقراطية كما عاني كثيرا من تدني وتدهور أوضاعه المعيشية نتيجة سوء توزيع الثروة واحتكار مجموعة قليلة لثروات هذا البلد وهي عظيمة وكثيرة ولكني علي يقين أن المرحلة القادمة ستشهد ازدهارا كبيرا في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والفكرية.. فقط ينبغي علينا جميعا أن نعي ونتبصر جيدا بمتطلبات والتزامات هذه المرحلة حتي نجني ثمارها لنا جميعا. ولبلدنا الذي نأمل أن يتصدر قائمة الدول المتقدمة قريبا في مختلف المحالات السياسية والاقتصادية والفكرية.