جاءت أزمة نزيف الجنيه أمام الدولار لتكشف خطورة الأوضاع التي يمر بها الاقتصاد القومي، وهي الأزمة التي تزداد فداحتها بتراجع الإنتاج المحلي وتراكم المشكلات التي تعصف بالمنظومة الصناعية. الأمر الذي يتجلي في تفاقم أعداد المصانع المتعثرة التي لم تصمد أمام التحديات التي تواجهها لتُشهر إفلاسها أو تخفّض من طاقتها الإنتاجية، ما سبب عجزاً شديداً في الميزان التجاري بسبب التوسع في الاستيراد، وتضاعف فاتورة الواردات لتصل إلي 500 مليار جنيه سنوياً حسب تقارير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. هي المعاناة التي تعيشها أغلب مصانع القطاع العام والخاص. تقاعس الجهاز المصرفي عن تمويل المصانع المتعثرة وتسوية ديونها، وعدم وجود آليات واضحة لإعادة تشغيل هذه المصانع، هو ما أعجز الحكومات المتعاقبة عن وضع حل للملف الذي مازال عالقاً. تفاوتٌ كبير في حصر أعداد المصانع المُغلقة بين الأرقام الرسمية وغير الرسمية، حيث أعلنت وزارة الصناعة والتجارة أن المصانع المتوقفة عن التشغيل منذ العام 2011 لا تتجاوز 950 مصنعاً، بينما تؤكد العديد من النقابات العمّالية وجمعيات المستثمرين أن العدد الفعلي يتجاوز خمسة آلاف مصنع تتوزع علي 70 منطقة صناعية، أغلبها في مدن العاشر و6 أكتوبر والعبور بخلاف مدينتي بدر والسادات. الأزمة الاقتصادية التي تواجه مصر الآن التي أثرت بالتبعية علي كثير من القطاعات لم تكن السبب الأوحد في انهيار مصانع القطاع العام، بل كانت وظلت علي هذه الحال منذ نحو عشر سنوات، والأمر الآن أصبح أكثر سوءاً. لم يكن سهلاً علي العاملين بقطاع التصنيع تقبل ما آلت إليه أحوال مصانعهم، فبعد أن كانت قلاعاً صناعيةً ضخمة باتت الآن أطلالاً يبكيها العاملون بها. فما يعانيه مصنع الحديد والصلب بحلوان جنوبي القاهرة ومجمع الألومنيوم في نجع حمادي، وكيما بأسوان والمراجل البخارية الآن لا يبشر بالخير، وقضي علي بادرة الأمل التي بُثت في نفوس العاملين في المصانع بعد أن تم الإعلان عن تطويرها مؤخراً، الأمر الذي كان ضربة قاصمة لمن يرغبون في استمرار نزيف الخسائر، فهؤلاء لا يهمهم الصالح العام وكل ما يشغل بالهم هو سرقة المال العام من صروح غابت وولي زمانها. الحديث عن تطوير مصانع الحكومة ليس وليد اللحظة، ويفترض أن يكون موضوعاً علي طاولة الرؤساء السابقين، نظراً لأهميته القصوي التي تجعل المصريين هم المتحكمون في إنتاجهم. حيث أكد المحامي المتخصص في شركات القطاع العام عبدالغفار مغاوري أن تلك المصانع لن تري النور مجددا في ظل وجود رؤساء شركات قابضة شاركوا في عمليات هدم تلك المصانع، ويجب إنشاء شركة ترأس القطاع العام كله تعمل علي تحقيق الشراكة بين المستثمرين المصريين وخطوط الإنتاج الصينية. متابعاً: يجب سحب القطاع العام من تحت وطأة وزارة الاستثمار، لأن الوزارة لديها رؤية استثمارية عقارية فتأخذ أراضي المصانع وتعيد بيعها كعقارات. فمصنع الحديد والصلب يعمل فقط ب 30% من قدرته، رغم قدرته علي المساهمة في خطوط السكك الحديدية وإنشاء عربات القطارات. ولفت إلي أن مصانع الألومنيوم تم نهبها خلال الأربع سنوات التي أعقبت الثورة وقام رؤساؤها بتحميل البضائع وسرقتها ومن ثم تحرير محاضر بأن البلطجية سرقوها. والكارثة أن رؤساء مجالس إدارات هذه المصانع يبقون في الخدمة حتي سن 80 عاماً، بينما خرج معظم عمال المصانع بنظام المعاش المبكر، وحصلوا علي مكافآت نهاية الخدمة للفرد حوالي 100 ألف جنيه حتي لا يطالب بالعودة للعمل. وأطالب القوات المسلحة بإسناد هذا الأمر لها لتقوم بهيكلة الإدارات ومن ثم توقيع عقد شراكات مع المستثمرين. المهندس ممدوح حمزة، حمل علي عاتقه العديد من المسئوليات أبرزها توجيه الدولة لاستثمار القوة البشرية لديها، فضلا عن استخدام الكفاءات والمختصين مثل ما فعل الرئيس الراحل جمال عبدالناصر حين أنشأ مادة الإنتاج القومي وأتي بوزير صناعة متخصص في مجاله وحاصل علي دكتوراه من أمريكا . حيث أكد أنه لا يوجد لدينا عمالة مدربة، مشيراً إلي أنه قدم مشروعين الأول للفريق مهاب مميش ورئيس الجمهورية ورئيس الوزراء السابق محلب ومشروع آخر لوزير التعليم الفني قبل إلغاء الوزارة، وتلك المشروعات خاصة بتدريب المصريين علي العمل بالمصانع، مشيراً إلي أن تلك المشروعات ستنقذ مصر، وتابع: "لدي خبرة اكثر من 40 عاما في هذا المجال وحديثي عن أنهم ينقذون مصر أمر جدي. ولابد من توفير عمالة مدربة قادرة علي التصنيع والإنتاج، كون التصنيع هو الضمانة الوحيدة للتقدم ولن نحقق مكسبا واحدا دون صناعة، ولنأخذ من الصين التي غزت العالم بصناعتها قدوة لنا، ونحن وفرنا للمستثمر الأجنبي ما يحتاجه من مرافق وأماكن لبدء المشروعات وأغفلنا العنصر البشري والعمالة المدربة. وانتقد حمزة توقيع عقد شراكة الكهرباء مع الصين، لافتاً إلي أننا لسنا بحاجة لها الآن لأن مصنع الحديد والصلب بحلوان به أكثر من 12 ألف طن بضاعة راكدة لا تجد من يصنعها، ومن الممكن أن ينفذ بها محطات كهربائية. إلا أن مصانع القطاع العام لم تكن وحدها التي تضررت من الأوضاع الاقتصادية غير المستقرة، فمصانع القطاع الخاص كانت الأكثر تضرراً، ويأتي قطاع الصناعات النسجية علي رأس القطاعات التي انهارت خلال الفترة الأخيرة، حيث تُشكل مصانع الغزل والنسيج والملابس الجاهزة التي أغلقت أبوابها 40% من إجمالي المصانع المُتعثرة. ويؤكد محمد المرشدي رئيس غرفة الصناعات النسيجية باتحاد الغرف الصناعية، أن الأزمات التي تعرض لها قطاع الغزل والنسيج بكافة مستوياته علي مدار السنوات الماضية أدت إلي إغلاق 2200 مصنع للمنسوجات والملابس الجاهزة من أصل 5400 مصنع تتوزع بين قطاع الأعمال العام والخاص والقطاع الاستثماري في المحلة الكبري وشبرا الخيمة والعبور ومدينة السلام والعاشر من رمضان ومنطقة برج العرب ماترتب عليه تسريح آلاف العمال، فأكبر المصانع التي تم إغلاقها مصنع القاضي ومصنع أبوالسباع الذي يصنف ثالث مصنع وبريات علي مستوي العالم والأول علي مستوي الشرق الأوسط، غير أن المصانع القائمة تعمل بأقل من نصف طاقتها الإنتاجية. قطاع الصناعات البتروكيماوية كان له أيضاً نصيب كبير من الخسائر التي مُنيت بها المصانع المحلية، الأمر الذي يتجلي في إغلاق العديد من المصانع ذات الطاقة الإنتاجية الكبيرة، ويأتي علي رأسها مصنع الشركة المصرية الهندية لإنتاج البولي إستر، وهو المصنع الأول من نوعه في مصر وشمال أفريقيا الذي يُنتج هذه المادة من البلاستيك الآمن. الدكتور عمرو فايد رئيس مجلس إدارة الشركة يحكي بألمٍ عما واجه المصنع من تحديات عرضته للإفلاس وأدت إلي إغلاقه بشكلٍ تام، متابعاً: خسرنا 60 مليون جنيه خلال عامٍ واحد ما دفعنا إلي تخفيض الطاقة الإنتاجية حتي توقفنا بالفعل عن الإنتاج في مايو 2015 بعدما أنفقنا علي المصنع ما يزيد عن 300 مليون دولار لتجهيزه علي أعلي مستوي تكنولوجي، حيث يمتد المصنع علي مساحة 141 ألف متر شمال غرب خليج السويس. ويُرجع فايد ما تعرَض له المصنع إلي السياسة الاقتصادية التي تتبعها الحكومة إرضاء لكبار المستوردين علي حساب تدمير الصناعة المحلية، مُضيفاً: تقدمنا بعشرات الشكاوي لإدارة مكافحة الإغراق والدعم، إلا أن وزارة الصناعة لم تحرك ساكناً تجاه إغراق السوق بالمواد الخام المستوردة، التي تأتي من الخارج مدعومة بنسب غير مسبوقة تصل إلي 40% غير أنها أعفتها من الجمارك وبالتالي طُرحت في الأسواق بأسعار تنافسية أقل من منتجنا المحلي ما أدي إلي انهيار إنتاجنا. ومع أن الشركة القابضة للبتروكيماويات تمتلك 30% من أسهم المصنع لم تحاول دعمنا، رغم أن الطاقة الإنتاجية للمصنع كانت تكفي لتغطية احتياجات السوق من هذه المادة التي تدخل بكثافة في صناعات التعبئة دون الحاجة إلي إستيرادها، فالكارثة أن مصر تستورد البولي استر المُعالج بما يعادل ملياري جنيه سنوياً واستوردت العام الماضي فقط ما يزيد عن 140 ألف طن. ما حدث معنا رسالة سلبية للمستثمرين الأجانب، فالمصنع يمتلك فيه الشريك الهندي نسبة 70% من الأسهم. ويبدو أن أزمة زيادة سعر صرف الدولار ستطول القطاعات كافة، فغرفة الصناعات الغذائية التابعة لاتحاد الصناعات خاطبت البنك المركزي للسماح لقطاع الصناعات الغذائية بأن تكون له الأولوية في تدبير العملة الخضراء اللازمة لدعم إنتاجه محليًا، غير أنه لم يصل إلي الغرفة رد حتي الآن. وأكد محمد شكري رئيس الغرفة أن المصانع العاملة بقطاع الصناعات الغذائية مهددة بالتوقف عن العمل في حال استمرار أزمة تدبير الدولار، مضيفا أن جميع الشركات متعثرة حاليًا وغير قادرة علي توفير العملة الصعبة اللازمة لاستيراد مستلزمات إنتاجها من الخارج. ولفت شكري إلي أن هناك تراجعا في حجم الصادرات من الصناعات الغذائية بلغ نحو 20% في الربع الأول من العام، واستمر هذا التراجع بنسبة 22% في الربع الثاني أيضا، مشيراً إلي أن تراجع حجم الصادرات بسبب انخفاض الدعم علي الصادرات، فضلاً عن ارتفاع تكلفة الإنتاج ما أدي إلي اشتعال المنافسة للمنتجات المصرية مع المنتجات الأخري. بينما نفي إخطار أي شركة عاملة بقطاع الصناعات الغذائية للغرفة بقرار الخروج من مصر أو دراسته من قريب أو من بعيد، لافتاً إلي أن تلويح شركة "نستله" بالخروج من مصر يعد إحدي وسائل الضغط علي الحكومة لتوفير العملة الخضراء اللازمة لدعم استيراد مستلزمات إنتاجها من الخارج. ويوضح محمد جنيدي رئيس النقابة العامة للمستثمرين الصناعيين أن أزمة المصانع المُغلقة تتفاقم، في ظل غياب الإرادة السياسية لحلها، متابعاً: لا توجد إحصائية دقيقة تؤكد العدد الفعلي للمصانع المُغلقة، إلا أن المعلومات التي جمعناها من جمعيات المستثمرين علي مستوي الجمهورية، توضح ارتفاع عدد المصانع المُغلقة إلي ما يزيد علي خمسة آلاف مصنع، غير أن 80% من المصانع العاملة تتعرض لتعثر جزئي يهددها بالإفلاس علي المدي القريب، ما دفع أغلب هذه المصانع إلي خفض إنتاجها لتعمل بثلث طاقتها الإنتاجية، كل ذلك أدي إلي تشريد نحو مليوني عامل، وانهيار الإنتاج المحلي مقابل تضاعف حجم الاستيراد من الخارج. ما يزيد الأوضاع سوءاً كما يشير جنيدي القرارات الكارثية التي اتخذها البنك المركزي بتحديد سقف للإيداع بالعملة الصعبة، وهو ما حد من السيولة النقدية لدي المصانع لاستيراد المواد الخام، كما سيؤثر ارتفاع سعر الدولار علي أسعار هذه المواد وبالتالي ستتضاعف تكلفة الإنتاج. من جانبه يؤكد المهندس أحمد طه المدير التنفيذي لمركز تحديث الصناعة أن الحكومة جادة في إيجاد حلول جذرية لمشكلات المصانع المتوقفة عن الإنتاج، وتم بالفعل التوصل إلي آلية لتمويل المصانع المتعثرة عن طريق إجراء حصر شامل لأعداد هذه المصانع، ودراسة أوضاع كل منها علي حدة والعمل علي توفير مصادر لتمويلها.